يذكر لنا المؤرخ الأمريكي خوان كول في كتابه «النبي محمد وسط صراع الإمبراطوريات» أنه وبعد دخول المسلمين لمكة سنة 630، كان النبي قد وصل إلى فكرة تقول إن تنوع الأديان سيظل حقيقة من حقائق الحياة، وإن عليهم التعايش في ما بينهم، ولا بأس من فكرة بناء «كومنولث إبراهيمي» في مواجهة الوثنيين والفرس. ولذلك يذكر العديد من المرويات الإسلامية في هذا السياق، أن المقوقس نائب هرقل أرسل عروسا إلى النبي محمد (ماريا القبطية) كطريقة لصنع تحالف معه، وهو ما قد يدعم استنتاج خوان كول بعض الشيء. مع ذلك، يؤكد كول، أنه بعد وفاة النبي، كان المسلمون يقودون غزوات خارج ديارهم التقليدية، وربما سننتظر لسنوات أخرى حتى يأتي معاوية بن أبي سفيان مرة جديدة ليعلن عن هذا الكومنولث الإبراهيمي. إذ تذكر المرويات أيضا أن معاوية لم يكن يتصرف بوصفه خليفة للمسلمين فقط، بل ممثلا عن الجميع (وبالأخص المسيحيين) الذين كانوا يمثلون الأغلبية في دمشق آنذاك. وربما سيبقى هذا الموقف يحكم نظرة الكثير من القادة المسلمين، حيث ينقل نرى أن العثمانيين وبعد سيطرتهم على القسطنطينية أنفسهم آخر الامبراطوريات الرومية، على صعيد توحيد شرق المتوسط مرة أخرى. ولعل هذه القراءات والتأويلات، بالإضافة لقراءات أخرى، تكشف لنا أن طبيعة العلاقة بين المسلمين والبيزنطيين لم تكن بالضرورة علاقة عدائية على الدوام، وإنما كانت تخضع أيضا لتفاهمات وتغيرات وتبدلات، بناء على اللحظة التاريخية التي كانوا يعيشونها آنذاك. في المقابل، ما يسجل على القراءات السابقة أنها بقيت قراءات جزئية، ولم تشمل كل المراحل التاريخية، ومن هنا تأتي أهمية ترجمة كتاب المؤرخة ناديا ماريا الشيخ «بيزنطة كما رآها العرب» ترجمة أحمد ايبش، كلمة للترجمة. إذ نعثر في هذا الكتاب، الذي تأخرت ترجمته، على مادة غنية ودقيقة لصورة بيزنطة في مخيال المسلمين، وفق المراحل التاريخية، وهو مخيال يبدو أنه لم يتشكل من باب العداوة فقط، وإنما كما تشير المؤلفة، فإن السكان على أطراف الإمبراطوريتَيْن (الإسلامية والبيزنطية) تبادلتا الأفكار والمعايير، والأخلاق والعادات، واللغات والآداب. كانت نتيجة هذا الاختراق انتشار الثقافة والأفكار والمؤسسات السياسية والتقنيات العسكرية والسلع المادية وأساليب الإنتاج الاقتصادي.
تعتقد المؤلفة أنه لم تكن صورةُ بيزنطة في المصادر العربية الإسلاميَّة ذاتَ صبغةٍ واحدة عبر القرون. ويبدو أن الصور استجابت للوقائع السياسة الداخلية والإقليمية والدولية المتغيرة، ولا يمكن سردها إلا من خلال الاعتراف بالتطور التاريخي للدولتين البيزنطية والإسلامية، والإشارة إلى هذا التطور.
على وجه الخصوص، يجب أن نأخذ في عين الاعتبار التقلب المستمر في القوة بين الخصمين، إذا أردنا فهم تطور معين. وهنا تذكر الشيخ فكرة شبيهة بما طرحه لاحقا كول، من أنه عندما بلغ للنبي وأصحابه هزيمة الروم على يد الفرس، شَقَّ ذلك عليهم. وهو ما يوحي بأن المسلمين تبنوا في بداياتهم موقفا يرى البيزنطيين حلفاء سياسيين وأيديولوجيين في مواجهة فارس. وكان التمسُّك بالتوحيد وممارسيه أمرا حاسما بالفعل في المرحلة الأولى للأمة الإسلامية، إلا أنه مع القرون اللاحقة سنرى أن المفسرين المسلمين يذهبون إلى فكرة أن فرح المسلمين لاحقا بهزيمة البيزنطيين للفرس كما يرى الزمخشري مثلا، ناجم عن تفضيل المُسلمين انتصار عدو أضعف على عدو أكثر خطورة. وبالنسبة إلى الفَخْر الرازيِّ (تُوفِّي 606هـ / 1209م) فإنَّ فرحهم مرتبطٌ فقط بانتصار المُسلمين.
نصر الشام
يتناول الكتاب بعض التفسيرات التي فسر بها المسلمون نصرهم في دمشق. فقد كانت الحكومة البيزنطية، وفق المؤرخين المسلمين، في بلاد الشام «ظالمة»؛ بمعنى أنها تجاوزت الحدود الصحيحة، واستولت على ممتلكات رعاياها، وألحقت بهم الأذى. كما فسرت الهزيمة البيزنطية جزئيّا من خلال وجهة نظر شعبوية، كانت تعد العرب أداة عقاب مسلطة من الله. وعلى ذلك، يقدم الإثم تفسيرا لاهوتيا مجردا للكسرة الشنيعة التي لحقت ببيزنطة. وتتضمن المصادر الإسلامية مجموعة كاملة من الموضوعات التي تهدف إلى التأكيد على تقوى أبطال المسلمين على عكس أسلافهم البيزنطيِّين. ونجد أحدَ هذه المقاطع لدى ابن الأعثم الكوفي، ولدى الطبري: «نعم أيها الملك، وإنهم (أي المسلمين) لرهبان بالليل صوام في النهار. لو سرق بينهم ملكهم شيئا لقطعوه، ولو زنى أحد منهم لرجموه».
هرقل بعيون المسلمين
تناقش المؤلفة في بعض صفحات الكتاب صورة هرقل لدى المسلمين. وتَنبع أهمية هرقل بالنسبة للمسلمين من حقيقة أنه كان معاصرا للنبي محمد، وكان زعيما للإمبراطورية البيزنطية، التي أعيد توحيدها خلال الموجة الأولى من الغزوات. وقد حاولت المرويات الإسلامية اللاحقة التركيز على صورة التقوى لدى الرجل مقارنة بباقي البيزنطيين، وإلمامه المَزعوم بالقرآن. وضع هرقل من قبل المؤلفين العرب على منصة رفيعة تفصله حرفيا عن أتباعه غير المُنصِفين، وحتى الخائنين. لقد كان اعترافه على لسان المسلمين بنواقص المجتمع البيزنطي، محاولة ربما من المسلمين للقول إنه على خلاف ذلك. ويقارن الطبري بين الغطرسة والرفض التام للإسلام من قبل الحاكم الفارسي، وكذلك إهانته الصريحة للنبي، والاحترام الذي أظهره هرقل الصريحة للنبي؛ والذي قيل إنه قرأ الرسالة باحترام وتعامل معها بوقار.
وهكذا، وفقا للمؤلفين العرب، فإن أكثر شخص صاحب نفوذ في الإمبراطورية البيزنطية، السياسية والدينية، قد فهم وصدق رسالة الإسلام، لكنه كان عاجزا في مواجهة المعارضة المنسقة للقادة والأرستقراطيين والسكان ككل. بينما تعتقد المؤلفة أن هذه المصادر تبدو غير مدركة تماماً دور الإمبراطور البيزنطي بصفته نائباً للمسيح على الأرض، وأداة لإرادة الله.
التقليد البيزنطي
ورغم محاولات المسلمين نسج قصص تظهر تمايزهم عن البيزنطيين، يلاحظ أن تأثير الامبراطورية البيزنطية كان أقوى، خاصةً في الفترة الإسلاميَّة المبكرة، عندما لم يشعر المسلمون بأي غضاضة من تقليدِ أشكالِ وممارسات منافسهم الإمبراطوري، وهو أمر انعكس في مجال الحياة الإدارية والاقتصادية، والإبقاء على البيروقراطية البيزنطية والاعتماد على التقاليد الإدارية والقانونية وسك العملة البيزنطية، وحتى في اللغة؛ حيث استمر استخدام اللغة اليونانية في سجلات الدولة. كما بقيت معايير الوزن والمقاييس البيزنطية على حالها لم تتغير. وهكذا كانت الأنماط الإدارية والإطار السياسي الذي اختاره الأمويون بيزنطيَّيْن بالأساس. كما استعار العربُ المسلمون تقنيات الهندسة المعمارية البيزنطية، واستخدموا الحرفيين البيزنطيين لتشييد المباني وتزيينها وتشطيبها. ولا يوجد سبب للشك في أن تأسيس الفاتحين المسلمين في الشرق الأدنى لدولتهم الجديدة، وضعهم وجها لوجه مع الآثار التي تمجد الامبراطورية البيزنطية. وهو ما تجلى بشكل واضح في محاولة الأمويين، إقامة صروح دينية مشابهة للصروح الدينية البيزنطية. فقد كان الخليفة الأموي الوليد (حكم 86-96هـ/ 705-715م) يتخذ خطوات لتأكيدِ أنه، بصفته خليفةَ المسلمين، يمتلك جميع مزايا ومواصفات الحاكم الجليل. وكانت المساجد العناصر الأولى في نظام الرموز المرئية التي تمثل التنظيم الإسلامي. وفي الواقع لم يكمن التأثير البيزنطي فقط في قرار البناء أو في التقنيات المستخدمة من قبل المهندسين المعماريين والحرفيين، بل كان حاضراً أيضاً في تصور العمارة الضخمة بوصفها وسيلة لتمجيد السلالة الأموية الحاكمة والإمبراطورية الإسلامية والدين الجديد.
الرشيد والبيزنطيون
مع قدوم العباسيين، ازداد التنافس بين القوتين، ما دفع بالعديد من المؤرخين المسلمين، إلى تقديم قوائم متسلسلة للحكام البيزنطيين. ولذلك نرى اليعقوبي وهو يسجل لنا أسماء حكام الروم والبيزنطيين، ويذكر الطبري أسماء الأباطرة البيزنطيين منذ بدايةِ العصر المسيحي إلى زمن النبي. وقد غدت معرفة بيزنطة أمرا ضروريا لبقاء الإمبراطورية الإسلامية ومكانتها، كما أظهر العباسيون دينامية ثقافية، من خلال السعي إلى نقل تراث العالم القديم . ففي الوقت الذي كان البيزنطيون يطورون نفورا من الثقافة القديمة اليونانية. كان رجال كابن المقفع والجاحظ، أول من ركزوا بشكل حاد على السؤال عما ساهمت به الأمم القديمة في مجموعة المعارف المعاصرة، ودور البيزنطيين الفعلي في المعرفة العلمية التي كان المسلمون عازمين على اكتسابها، ولذلك نرى الجاحظ وهو يصر على أن العلم والحكمة حكر لليونانيين القدماء، وأن البيرنطيين كانوا متخلفين ثقافيا، وأقل مكانة من أسلافهم اليونانيين، وأن دورهم الإيجابي الوحيد يكمن في نقل النصوص القديمة.
الإنسان البيزنطي
ربما من أهم الفصول في الكتاب هو تتبع المؤلفة لصورة الإنسان البيزنطي وحياته اليومية في نصوص المسلمين. وهنا نرى أن المسلمين اقتبسوا معلوماتهم على مراحل، وأن معرفتهم بحياة البيزنطيين بقيت إما معرفة متحيزة، أو معرفة سياحية، أو أكثر وعيا من خلال زيارة القسطنطينية. يصف المؤرخون المسلمون البيزنطيين في القرن العاشر الميلادي بالمحاربين الأشداء ، لكنهم في المقابل متهمون بالبخل، وفق تعبير الجاحظ، كما أبدى المسلمون اهتماما بالزواج لدى البيزنطيين، وفي الغالب، ترى ناديا الشيخ، أن الانسان البيزنطي لا يظهر بصفته شخصية حقيقة ثلاثية الأبعاد، بل يعبر عن أفكار الراوي العربي المسلم وافتراضاته. كما نرى أن صورة النساء البيزنطيات قد حظيت باهتمام مبالغ به، إذ ظهرت بعض الأوصاف التقليدية لتصبح قوالب نمطية شائعة. مثل إنهن شقراوات ذوات بشرة بيضاء وشعر أملس وعيون زرقاء، وهن كما يقول الجاحظ «أكثر النساء فحشا في الدنيا أجمع» كما رسم المسلمون الزنا منتشرا في مدن بيزنطة وأسواقها، ولعل الأكثر استفزازا في هذه الصورة هو الادعاء بأن الراهبات كن يخرجن إلى الحصون لتقديم أنفسهن للرهبان. وهنا تعتقد المؤلفة أن هذه الصورة الإيروتيكية لا تعكس بالضرورة واقع المدن البيزنطية والنساء، بقدر ما تعكس مخاوف المسلمين من النشاط الجنسي غير المنضبط ، فعلى الرغم من أن الإسلام تسامح مع الزواج بأكثر من امرأة، ونظام الجواري، فإن ذلك لم يمنع الفسق من الانتشار أحيانا، ولذلك تبدو بعض الروايات حول النساء البيزنطيات هي إسقاطات لتصورات الرجال المسلمين عن البيزنطيين.
في مقابل هذه الصور، نعثر لاحقاً على صور أكثر قربا من البيزنطيين، وربما كان الوصف الأكثر شمولا هو الذي كتبه هارون بن يحيى في أوائل القرن العاشر الميلادي في كتابه» الأعلاق النفيسة» الذي وصل للقسطنطينية أسيراً، وهناك ترك يتجول، فأخذ يصف مضمار سباق الخيل وآيا صوفيا. ومع أهمية هذا الوصف، فإن ما يسجل عليه في المقابل هو غياب أهل القسطنيطينية، وصخب شوارعها ومعلمي حرفها، وكأن المثقفين العرب ظلوا لا يتعاملون مع المكان على أنه فضاء اجتماعي، كسياق للعلاقات أو الحلقات أو أحداث الحياة اليومية، ولذلك اختزلوا وصفهم على مجموعة محدودة من البنى المعمارية.
بحلول القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، طور تقليد جديد حول بيزنطة. فقد أدى حضور الأتراك والصليبيين في الشرق الأدنى، ثم الغزوات المغولية لاحقا، إلى تحول معين في صورة بيزنطة في مصادرنا. إذ أصبح الصليبيون الهدف الرئيسي للنصوص العربية الإسلامية، وهنا غدا البيزنطيون أحيانا حلفاء للمسلمين المماليك، ولذلك تبدو نصوص القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي وهي تصف القسطنطينية، دون أدنى تلميح من الإدانة. ولعل رحلة ابن بطوطة تعكس هذا التحول، إذ يلاحظ في وصفه تركيزه على صورة المدينة بشكل أعمق، فيلاحظ الحضور القوي للعنصر اللاتيني، ويسمي الحي اللاتيني (الغلطة) وهو «قسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه، وهم أصناف: فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة. وجميعهم أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي.. وأسواق هذه القسم حسنة إلا أن الأقذار غلبة عليها». ولذلك يكشف هذا السرد عن تصور آخر عن القسطنطينية، الذي سيتطور لاحقا مع غزو العثمانيين للمدينة، وتحولها إلى عاصمة للدولة العثمانية.
كاتب سوري