تونس-“القدس العربي”:يعتبر قصر النجمة الزهراء أو البارون “ديرلانجي” من أروع التحف الفنية والمعمارية في تونس والتي تجمع الطراز المعماري المحلي من جهة والأندلسي من جهة أخرى، بالإضافة إلى عناصر معمارية أخرى. كما أن موقع هذا القصر الواقع في منطقة سيدي بوسعيد المطلة على خليج تونس، والتي تصنف ضمن الوجهات السياحية العالمية، يزيده جمالا وبهاء منقطع النظير في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
وقد كانت المنطقة التي بنيت فيها بلدة سيدي بوسعيد الآسرة، والتي يوجد بها هذا القصر، تسمى في التاريخ الغابر رأس قرطاج أو كاب قرطاج، وكانت جزءا من مدينة قرطاج أو “قرت حدشت” باللغة الفينيقية الكنعانية، أي القرية الحديثة، التي تأسست في القرن التاسع قبل الميلاد لتتوسع وتصبح جمهورية إمبراطورية منافسة للإغريق ثم للرومان في السيطرة على البحر الأبيض المتوسط. لكن استقرار الولي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي بتلك المنطقة للتعبد والزهد والتصوف جعلها تحمل إسمه، وقد ولد الباجي سنة 1156 ميلادية واعتبر من أقطاب التصوف وتتلمذ على يديه علماء كثر على غرار أبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية والسيدة عائشة المنوبية التي تحظى بهالة من التقدير والاحترام لدى جمهور المتصوفة في تونس.
تحفة معمارية
وقد بني هذا القصر المنيف على يد مستشرق بريطاني يسمى البارون ديرلانجي، وذلك بين سنتي 1912 و1922 في منطقة جبلية مرتفعة تسمى ربوة المنار مشرفة على خليج تونس التاريخي الشهير في صراع الحضارات المتوسطية، وفي محيط غابي على قدر كبير من الجمال. فاختلطت للناظر من شرفات هذا القصر زرقة البحر والسماء بخضرة الأشجار الوارفة ببياض بيوت سيدي بوسعيد الجميلة، فظهرت لوحة فنية متوسطية استثنائية هام بها كل من وطئت قدماه أرض هذا القصر.
وقد صمّم البارون ديرلانجي نفسه المثال الهندسي للقصر واستلهمه بالأساس من التراث المعماري التقليدي التونسي، بالإضافة إلى مكونات أخرى استطاع أن يوفق بينها جميعا وأبدع في ذلك وهو الفنان المتكامل الذي برع في مختلف الفنون. ولم يكتف البارون بعمال وحرفيين من تونس لبناء تحفته المعمارية تلك، بل جلب آخرين من فرنسا وإيطاليا والمغرب لم يخرجوا جميعا في عملهم على ما سطره لهم البارون في تصميه للقصر والذي كان في النهاية كما أراده هو مندمجا في محيطه المعماري.
وورد في عديد الكتب والمقالات والتدوينات وصف دقيق لقصر النجمة الزهراء، وتحدثت هذه المراجع عن مكوناته الأساسية وخصوصا بواباته الثلاث وطابقيه السفلي والعلوي، وتحدثت أيضا بعض المراجع عن غرفه الكبيرة وخصوصا الغرفة المذهبة الرئيسية والغرفة الزرقاء والصحون المتعددة وباقي الغرف الصغيرة. ناهيك عن الحمام التقليدي، والنقائش الجصية المتضمنة لأبيات الشعر، واللوحات الرخامية بيضاء اللون والتي يفصل بينها الرخام الأسود، وأيضا الغرفة المخصصة للموسيقى وغيرها.
فنان استثنائي
درس صاحب النجمة الزهراء البارون ديرلانجي الفن في أكاديمية جوليان في باريس، واحترف الرسم ولم تكن له علاقة من قريب أو من بعيد بنشاط المال والأعمال الذي غرقت فيه عائلته. وإلى جانب عشقه للرسم والموسيقى كان البارون مغرما أيضا بجمع التحف الفنية والحفاظ على التراث المعماري التونسي وهو ما تجسد في بناء القصر الذي تحول إلى قطب للحفاظ على التراث الموسيقي التونسي وتطويره.
وأعجب البارون بالشرق وهام به، فزار في رحلة استشراقه، إلى جانب تونس، كلا من مصر والجزائر، وخلد أجمل اللوحات الفنية لمشاهد من هذه البلدان الثلاثة لكنه بالنهاية اختار سحر سيدي بوسعيد للاستقرار والإقامة وتشييد قصره المنيف. كانت سيدي بوسعيد بالنسبة له وفي حديثه للمقربين أجمل بقاع الأرض ببيوتها البيضاء ذات النوافذ والأبواب الزرقاء المندمجة في محيطها الطبيعي الآسر للقلب والروح، وبسكانها الذين ينتشر في صفوف الكثيرين منهم الفكر الصوفي ويتميزون بانفتاحهم وتسامحهم وقبولهم بالآخر. وقد حصلت هذه الرحلات الاستشراقية تحديدا مع بدايات القرن العشرين أي خلال الاستعمار البريطاني لمصر والفرنسي لكل من الجزائر وتونس.
لقد كان استقرار البارون المستشرق في ضاحية سيدي بوسعيد سنة 1910 وعاش هناك إلى حين وفاته سنة 1932. وكانت له علاقات جيدة بأهالي القرية الذين يغلب على طباعهم الإنفتاح والتسامح وذلك بالرغم مما عرف عن والده من إسهام في إفلاس الدولة التونسية وتسببه في حلول الاستعمار الفرنسي تحت ذريعة تراكم الديون. لقد كانت للوالد فريديريك معاملات مالية مشبوهة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع ملوك تونس من العائلة الحسينية باعتباره صاحب بنك إيرلنغر الذي يبدو أنه أقرض الملك وحاشيته الفاسدة بلا حساب وذلك بالتنسيق مع قوى أجنبية تبحث عن الذرائع للهيمنة على البلد واحتلاله بتعلة استرداد ديونها.
وأكد من عرفوا البارون عن قرب أنه كان مريضا وأن سيدي بوسعيد كانت ملائمة لصحته ما جعله يشتري بيتا من طابق واحد للاستقرار به ويعرف هذا البيت اليوم بـ”البلفدير”. ولاحقا قام البارون متأثرا بجمال المكان وبالنمط المعماري التونسي، ببناء قصره بجانب المنزل الذي كان مندمجا مع محيطه المعماري من حيث الألوان البيضاء والزرقاء ومن حيث نمط العمارة التقليدي.
ويرى البعض أنه يمكن نعت صاحب النجمة الزهراء البارون رودولف ديرلانجي بأنه فنان تونسي استثنائي رغم جنسيته البريطانية، نظرا لاهتمامه بالتوثيق والبحث وحفظ الذاكرة للفن التونسي، بالإضافة إلى أنه رسام بارع اهتم كثيرا في رسومه بالحياة اليومية للتونسيين ووثق الكثير من مظاهرها. كما أنه كتب في الصحف التونسية كناقد عن وضع الموسيقى التونسية ونشر أول مقال له بالمجلة التونسية سنة 1917 وهو ما جعله مرجعا للكثيرين في النقد الموسيقي في ذلك الوقت.
النخب التونسية
ويرى البعض أن جهود البارون في تطوير التراث الموسيقي التونسي أثرت على النخبة التونسية وخلقت حالة من الوعي في صفوفها للمواصلة على نهج هذا الغريب الذي انتبه لما تجاهله مواطنو هذا البلد. ويؤكد هؤلاء على أن الرشيدية تأسست في هذا الإطار، وهي معهد لتعليم الموسيقى التونسية تأسس سنة 1934 وينسب إلى محمد الرشيد باي المنتمي إلى العائلة الملكية الحسينية وتنازل عن عرشه من أجل الفن التونسي الذي كان شديد الولع به وتفرع له وابتعد عن شؤون الحكم.
ومن أهم أعمال البارون مساهماته في حفظ وتطوير التقاليد الموسيقية الكلاسيكية والشعبية التونسية وحرصه على الاهتمام بالمالوف التونسي الآتي من بلاد الأندلس مع هجرة الأندلسيين إلى شمال أفريقيا بعد طرد المسلمين من إسبانيا أو ارتكاب المجازر بحقهم لإجبارهم على الرحيل. فقد وصل الأمر بالرجل إلى حد الإنفاق من ماله الخاص على مشاركة تونس في مؤتمر الموسيقى العربية الذي نظمته مصر مع بداية ثلاثينيات القرن العشرين، وحرص على هذه المشاركة حرصا شديدا.
لقد كان البارون على علاقة وطيدة بالنخب الفنية التونسية فكان يجالسهم في قصره هذا ويتدارس معهم سبل تطوير الموروث الموسيقي بإنتاج المزيد، ومن أبرز أصدقائه الفنان التونسي الكبير الذي يعتبر من المراجع والأقطاب في الموسيقى التونسية خميس الترنان. ومن جلاسه أيضا أعلام كبار في تونس على غرار الكاتب والمؤرخ حسن حسني عبد الوهاب والشيخ أحمد الوافي الذي ينحدر من عائلة أندلسية ويعتبر من أبرز رواة المالوف، إضافة إلى أنه كان عازفا بارعا وقد جلبه البارون ديرلانجي إلى تونس كمرجع لتأليف الموسيقى العربية.
النجمة الزهراء اليوم
تحولت النجمة الزهراء ومنذ سنة 1991 إلى مركز الموسيقى العربية والمتوسطية الذي يضم خزينة وطنية للتسجيلات الصوتية الموسيقية والغنائية يسهر عليها مختصون في صيانة هذه التسجيلات النادرة. ويضم القصر مكتبة فنية هامة واستثنائية وقسما للدراسات والبحوث وورشة لصناعة الآلات الموسيقية ومتحفا خاصا بالآلات الموسيقية والتحف القديمة ومكونات أخرى.
ويقصد الباحثون في المجال الموسيقي قصر النجمة الزهراء بحثا عما بداخله من نفائس وكنوز معرفية موسيقية تونسية وعربية ومتوسطية في بلد يعتبر القطب الثقافي والحضاري في منطقته المغاربية بامتياز وتجاوز إشعاعه هذا المجال الجغرافي. ويجد هؤلاء الباحثون عادة ظالتهم في المكتبة الهامة التي يتضمنها المركز أو في خزينة التسجيلات النادرة أو في غيرها، ويتمتعون بجمال القصر من الداخل والذي يعتبر تحفة معمارية بكل ما للكلمة من معنى.
ويقصد الزوار التونسيون والأجانب النجمة الزهراء أيضا لمشاهدة المتحف الموسيقي أو للتمتع بجمال القصر وحدائقه الغناء أو كذلك للتمتع بجمال مدينة سيدي بوسعيد والغابة الجبلية التي تحتضن المباني البيضاء ذات الأبواب والنوافذ الزرقاء. كما يأتي الزوار للتمتع بسحر خليج تونس من أعلى هضبة المنار حيث يكتشف المرء سر افتتان الولي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي والبارون ديرلانجي وآخرين بذلك المكان الآسر للقلب والروح والذي يثير شعورا خاصا هو مزيج من الرهبة والخشوع وعشق الجمال الذي يدفع إلى التأمل في عظمة الخالق المبدع.
وتظهر من شرفات القصر الجبال المحيطة بالخليج على غرار جبل بوقرنين الأسطوري الذي اهتدت به الأميرة الفينيقية عليسة أو إيليسا أو أليسار، مؤسسة مدينة قرطاج إلى مكان تأسيس مدينتها في القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك بعد أن أخبرها عنه كاهن من موطنها في صور بسواحل بلاد الشام. ويظهر أيضا من قصر البارون جبل الرصاص الشامخ شأنه شأن جبل قربص من ولاية نابل والمرتفعات المحيطة به ناهيك عن شواطئ الضاحية الجنوبية لمدينة تونس.
ويتم تعهد قصر النجمة الزهراء بالصيانة والترميم منذ اقتنائه من قبل الدولة التونسية سنة 1989 وذلك في كل مرة تتعرض بعض أجزائه لأضرار حتى بدا وكأنه بني لتوه. وكانت المرة الأخيرة التي تم فيها ترميم القصر سنة 2017 حيث لم يقتصر الترميم على الجدران الخارجية بل شمل خشب الزينة والأثاث وحتى النقوش الداخلية ليبقى القصر في أبهى حلة مستغلا كما يجب في العروض الفنية من قبل وزارة الثقافة التونسية.
وتمت أيضا في إطار الترميم الأخير توسعة المباني الملحقة بالقصر وتهيئة الفضاءات الخارجية المحيطة به من خلال بناء فضاء للاستقبال وشباك تذاكر لزوار المتاحف وعشاق العروض الفنية الراقية التي تقام في هذا الفضاء. كما تمت تهيئة الطرقات الداخلية والممرات في حدائق القصر على غرار الحديقة الأندلسية وهو ما ساهم في جعل القصر فضاء ثقافيا هاما صالحا للعروض الموسيقية مثل عروض مهرجان قرطاج التي أقيمت فيه في وقت ما بالتوازي مع المسرح الأثري الكبير.
وللإشارة فقد نال مركز الموسيقى العربيّة والمتوسّطيّة الجائزة الشرفية التي يسندها المجلس الدولي للموسيقى الراجع بالنظر لليونسكو وهو ما يجعل تغيير شكل القصر يمنع منعا باتا ويتم الاكتفاء فقط ببعض الإضافات الخارجية التي لا تمس المشهد العام. وكانت بلدية سيدي بوسعيد هي التي بادرت مطالبة المعهد الوطني للتراث باقتراح تسجيل القصر وذلك منذ سنة 1988 وتمت الاستجابة للطلب وبذلت الجهود في سبيل تحقيق ذلك.