النسخة الجزائرية من اليمين الشعبوي المتطرف

حجم الخط
21

أبتسم بيني وبين نفسي، عندما أقرأ، تهاني بعض الجزائريين لإخوانهم المسيحيين، بمناسبة أعيادهم الدينية، وهي تفيض تسامحا وحبا. أبتسم لأنني أعرف أن هذا الجزائري يهنئ مسيحيا لا يتصور وجوده في الجزائر، فالمسيحي الجيد هو المسيحي البعيد. فلوقت قريب لم يكن يتصور المواطن الجزائري العادي وجود مسيحيين عرب، فما بالك بالمسيحيين الجزائريين الذي مازال يتعامل معهم «كمرتدين».
لم يمنع هذا، كم التسامح الهائل والقبول الذي وجده تقليديا، المسيحيون الأوروبيون أو حتى الجزائريون المسيحيون، من أصول أوروبية، الكاثوليك في الغالب، من قبل فئات واسعة من الشعب الجزائري، احتكوا بهم مباشرة لعقود ولم يسمعوا بهم، كما هو حاصل من قبل جزء كبير من رواد التواصل الاجتماعي هذه الأيام. رغم الصراع الديني الذي ارتبط بالظاهرة الاستعمارية الاستيطانية تاريخيا، وما تعرض له الإسلام كدين، ومؤسسات ونخب من قبل الاستعمار الفرنسي.
منابر التواصل الاجتماعي التي اقتحمها بقوة، أبناء الريف والمداشر الصغيرة، من المتعلمين الجدد، بعد النجاحات التي حققها تعريب المنظومة المدرسية التي استفادت منها فئات شعبية واسعة في الريف والمدينة في وقت قياسي، وسائط تحولت إلى منابر للتعبير عن مواقفهم وآرائهم القريبة جدا من طروحات اليمين الشعبوي المتطرف، الحاضر عالميا في السنوات الأخيرة، داخل أكثر من حالة وطنية. النسخة الجزائرية التي تعتمد كأرضية تفسير لها على ذلك التجانس الديني الكبير للمجتمع، والربط الخاص الذي يعيشه، كما هو حال بلدان المغرب الكبير، بين العروبة والإسلام. يحصل هذا في وقت يعيش فيه التدين الرسمي أزمة فكرية حادة، لعدم قدرته على الإصلاح والتجدد، جراء افتقاده لنخب دينية قادرة على إنجاز مهام الإصلاح الديني المطلوب بقوة، كتحصيل حاصل للفقر الثقافي والديني، الذي عانت منه الحالة الجزائرية تاريخيا، كنتيجة منطقية للحالة الاستعمارية الاستيطانية، التي ابتليت بها الجزائر تاريخيا.
يتم كل هذا في وقت توسعت فيها الخريطة الدينية الوطنية، التي دخلها لاعبون دينيون جدد لم تكن متعودة عليهم من خارج الإسلام، على غرار الكنيسة البروتستانتية، ومن داخل الإسلام كالتشيع والأحمدية وغيرها من الملل والنحل التي زادت في خوف الجزائريين على تجانسهم الديني والثقافي الذي تعودوا عليه واستكانوا له منذ قرون. خوف يعبر عن نفسه بأشكال متعددة استطاع تيار يميني متطرف وشعبوي حاضر لدى بعض النخب من أبناء الريف والمدينة الجزائرية الجدد، من التعبير عنه والدخول في حروب كلامية باسمه عبر الوسائط الاجتماعية تحديدا، التي كان من السهل التعبير داخلها وليس بواسطة الكتاب، أو المقالة العلمية. الفقر الفكري الذي يجعل ممثلي هذا التيار الشعبوي ذي المنحى العنصري، في بعض جوانبه، لا يطمحون إلى أكثر من صفحة الفيسبوك، أو بعض المواقع الإعلامية باللغة العربية، التي استطاعوا اختراقها في السنوات الأخيرة، عندما التقت مصلحة هذه الوسائل الإعلامية، مع ممثلي هذا التيار الذي نجح في الترويج عبرها عن حضوره الغوغائي، بمواضيعه المعروفة كانت قد جُربت ونجحت في حالات وطنية أخرى كالشطط الديني والطرح الثقافوي المغلق والمرأة وبعض الظواهر الاجتماعية العجائبية، إلخ.
استغلت النسخة الجزائرية من اليمين المتطرف، الخوف من آثار التحولات السريعة التي عاشها المجتمع بعد الاستقلال، كانت وراءها الدولة الوطنية، فشل النظام السياسي في تسييرها بنجاح على المستوى الثقافي والفكري لبناء نموذج تعايش مقبول. بعد نجاح هذا التيار في استغلال الانقسامية الثقافية التي تعاني منها الحياة الثقافية والإعلامية والنخب الفكرية الجزائرية عموما. نجاح يعبر عنه أيمانويل تود أحد الأنثروبولوجيين وعلماء الديموغرافيا المعروفين، على شكل استفزاز للعمق الأنثروبولوجي للمجتمع الجزائري، في بعديه الديني والثقافي اللغوي تحديدا. هنا تكمن ميزة ما يمكن أن نسميه بالنسخة الجزائرية لليمين الشعبوي، الذي يستغل بعض الشروخ الثقافية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع الجزائري، كغيره من المجتمعات الأخرى، للتهويل منها، ومنحها بعدا دوليا في بعض الأحيان، ترى في التنوع الثقافي واللغوي تهديدا محدقا بالتجانس اللغوي والثقافي للجزائري، عكس التلاحم الكبير الذي عبر عنه الجزائريون تاريخيا، كما كان الحال في ثورة التحرير على سبيل المثال، وأكدوه بمناسبة الحراك الشعبي، رغم العديد من الاستفزازات والاستعمال السياسوي لاختلافاتهم الثقافية والاجتماعية الطبيعية، كأي مجتمع بشري آخر.
لنكون في الشهور الأخيرة، بمناسبة هذا الحراك الشعبي الذي تعيشه الجزائر أمام استفزاز للعمق الأنثروبولوجي، تقوم به هذه المرة السلطات العمومية نفسها وأصحاب القرار داخلها. عبّر عن نفسه بأشكال متعددة، كما كان الحال مع منع الراية الأمازيغية وغلق الكنائس البروتسانتية – في منطقة القبائل تحديدا – التي اكتشفت السلطات العمومية فجأة انها تعمل خارج القانون، رغم انها حاضرة على الأرض كفاعل ديني جديد، غير معروف تاريخيا داخل الحقل الديني الوطني، منذ أكثر من عقد من الزمن، سوق دينية زادها مع الوقت العرض والطلب خارج الأطر الرسمية المعروفة. سلطات عمومية خائفة هي الأخرى لا تتورع من اللعب على هذا الوتر الحساس والخطير، بعد أن فشلت في اقتراح البديل السياسي الذي يطالب به المواطنون أسبوعيا، منذ حوالي ثمانية أشهر من عمر الحراك. يساعدها في تبرير غيها، رهط من «الأكاديميين « لم يكتبوا حتى رسائل لزوجاتهم، كما كان يقول أحد الأصدقاء، كل زادهم المعرفي شهادات جامعية مشكوك في مصداقيتها العلمية، وإعلام مغلق عاد بالجزائر إلى سبعينيات القرن الماضي. سيعيد المشاهد والمستمع الجزائري إلى أحضان القنوات الأجنبية بكل تأكيد، في وقت لا يتورع فيه صاحب القرار الكلام عن الخيار الوطني.
يمين شعبوي زادت حظوظه في الحضور، في ظل ما يعانيه اليسار والعائلات السياسية الأخرى من انحسار، بما فيها العائلة الوطنية التي انكمشت حول نفسها وفقدت بريقها الوطني العصري مع الوقت، نتيجة تعثر المشروع الوطني على أكثر من صعيد. وهو ما أدى لاحقا إلى بروز تيارات يمينية متطرفة على المستوى الجهوي هذه المرة ـ منطقة القبائل ـ تطالب بالانفصال عن الجزائر، اعتمادا على قراءة إثنو- ثقافة، لا تاريخية، أنجزتها نخب معزولة عن بعدها الوطني وهي تعيش حالة تشنج مع عقمها الوطني وحتى الجهوي، وصلت دوليا إلى حد الافتتان بنماذج كيانات عنصرية والتبشير لعلاقات متميزة معها- إسرائيل – على حساب العمق الجغرافي والسياسي الطبيعي للجزائر، والزيادة في منسوب الاستفزاز للعمق الأنثروبولوجي للجزائريين.

*كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    طبعا الشعب الجزائري يستحق أن يفتخر بماضيه يا أختي نايلة .. و هذا شيئ مشروع ..
    .
    أنا ناقشت هنا كيف يُوضف هذا الشعوربالتميز حد التطرف .. و من أجل احكام القبضة على الشعب ..
    .
    لعل هذا الحراك المبارك السلمي و المتحضر لوحده مفخرة للجزائريين .. أما أن يركب عليه القايد صالح
    و يوضفه لأشياء شرحتها اعلاه .. هذا هو الشين.
    .
    أمسيتك سعيدة.

  2. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    زيادة يا اختي ما لمسته من خلال زيارتي لعدد لابأس به من بلدان العالم هو أن كل الشعوب لها احساس بالتمز،
    و هذا الاحساس يساهم في لحمة الشعب اصلا و هو شيئ إيجابي إذا بقي في مستوى صحي ..
    .
    أما إذا اصبح الامر شوفينيا و اقصائيا كما خطاب بومدين .. فهذا خطاب متطرف ..
    .
    تصوري ان القايد صالح قال قبل اسابيع ردا على نداآت باتباع تجربة السودان .. قال بالحرف، الجزائر لا
    تاخد من تجارب الآخرين، الدول الأخرى هي من يجب عليها اتباع تجارب الجزائر .. و عدى تجارب حكم
    عسكري في الكواليس لا ارى له في جعبته ما يفتخر به.

    1. يقول Naila:

      صباح النور :
      اتفق معك تماما في هذه النقطة ؛كل من حكمو الجزائر استثمروا في هذا الشعور بعد الاستقلال .فالشعب قام بثورة تحريرية عظمى الوحيدة على المستوى العربي ومن اهم الثورات في العالم في العصر الحديث.نضال عسكري وسياسي دام قرابة القرن وثلاثون عاما.حالة الاستثناء والتميز التي شعر بها الجزائري لم تستثمر في مكانها الصحيح للاسف ؛واقتصرت على مجموعة انفعالات وسلوكيات تتقاسمها جل الشعوب . وبدل استغلال تلك الطاقة الايجابية ونفحة الحرية للبناء والتشييد ؛صرفت هنا وهناك . لكن كما سبق وذكرت الحراك وضع النقاط على الحروف والامور لاشك هي للأحسن .
      شكرا على التواصل ياابن الوليد

    2. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      شفتي .. تعبيرك هذا ممتاز ” .. ومن اهم الثورات في العالم في العصر الحديث .. ” و هذه هي الحقيقة.
      .
      تعبيرك يثمن الثورة الجزائرية .. لكنه لا يقصي باقي ثوراث العالم ما اعبر عنه ب “نحن و فقط”.
      .
      لكن مناصري خطاب بومدين اقصائي متطرف .. تصوري يقولون أن هم من حرر شمال افريقيا .. و كأن البلدان الأخرى لا محل لها في الاعراب .. و هذا ما اعبر عنه ب ” نحن .. و الآخر لا شيئ” ..
      علما ان المغرب لم يقاوم فقط الاستعمار، بل خاض معارك ضد فرنسا من اجل الجزائر .. و معركة “ايسلي” لخير مثال و التي تمخضت عنها معاهدة للا مغنية و اقتطعت بموجبها اراضي عقابا له على مساندة الثورة في الجزائر ..
      .
      فتصوري اختي كل هذا الاستعلاء الفارغ .. مع كل هذه التضحية فهم يقولون انهم هم من حرر تونس و المغرب ..
      .
      على اي هذا الخطاب لا يضرنا .. بل يضر المجتمع الجزائري بالاساس .. و قد نومه لعقود ..
      .
      و كما قلتِ اعلاه، هذا الحراك ربما هو استفاقة ممتازة من هذا السبات العميق.

    3. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      احببت هذا النقاش معك اختي، دعيني اكمل ربما ازيل لبسا لا زال عالقا. ساقوم بمثال افتراضي لتبيان كيف بنى بومدين خطابه ..
      .
      لنفرض انني سياسيا مفوها مثل بومدين .. و احببت ان يتبعني المغاربة بدون شروط، ساوضف خطاب يمين متطرف ببهارات ثورية و دينية. فماذا ساحتاج؟ احتاج الى استثناأت و او ايقونات .. و ربما شعراء .. و فنانين .. الخ ..
      .
      ساجد الشعراء .. و الفنانين بسهولة. و ابحث عن استثناء .. و اجده، و هو ان المغرب هو الدولة العربية و الامازيغية التي لم يدخلها الاستستعمار العثماني .. و ساستعمل فعلا كلمات استعمار .. و غزو .. و احتلال لانها طنانة .. بعدين سابحث عن ايقونات .. و ساجد طارق بن زياد و ساكذب كل من يدعي انه جزائري و انعش باقبح الاوصاف .. ثم يوسف بن تاشفين … الخ ..
      .
      يتبع رجا ء ا 1

    4. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      الآن يمكني ان ابدأ عملية النفخ .. و الاقصاء ..
      .
      ما رأيك ان استعلي على كل العرب و اصفهم بالجبناء و ليسوا اشاوس مثل المغاربة .. و ما ادراك من المغاربة .. لقد صدوا لوحدهم جيش عرمرم عثماني .. ما لم يفعله احد من العرب .. (شفتي اقصاء .. ممتاز).
      .
      ثم ابدأ اقايض اوروبا .. باننا نحن من حماهم من العثمانيين ..
      .
      وسارفع من شأن ايقوناتي حد التقديس .. و إن لم يكون لهم مقولات مشهورة ساختلقها .. و اجعلها على كل الالسن ..
      .
      و هكذا .. سينتفخ صدر المغاربة عزة .. و سيحسون ان بدونهم لن توجد اوروبا كما هي .. و انهم بتصيدهم للعثمانيين غيروا مسار تطور البشرية .. و سيلتفون حولي .. ان قلت يمين راحوا على اليمين .. و ان قلت شمال .. راحوا على الشمال ..
      .
      و ربما ساندت الشعب المزابي من اجل تقرير مصيره .. فنحن .. و ما ادراك من نحن لنا مبادئ لا نحيد عنها .. في سبيل الشعوب المستضعفة ..
      .
      و انهي هنا مسلسلا طويلا من التنويم المغناطيسي .. الحمد لله انه مجرد افتراض ..
      .
      انك الآن لن ترين اي مس بالجزائر .. فانا تكلمت عن نفسي و المغرب .. ههه. (انتهى شكرا 2 )

    5. يقول Naila:

      شكرا حزيل الشكر على الافاضة في الشرح ؛راقني طرحك ورؤيتك للموضوع ؛تحليلك جد موضوعي . تخيلت البروبوغاندا المغربية لو انها حقيقة في مايتعلق بتاريخ المغرب الشقيق. نحن من جهة وانتم من جهة ؛كانت ستكون بمثابة الفرجة للآخر ؛ربك لطف!ههه
      شكرا اخي ابن الوليد مرّة اخرى
      دمت بخير

  3. يقول موساوي عبد القادر:

    حتى نناقش هذا الموضوع بشكل دقيق و موضوعي، علينا أولا أن نحدد ماذا نعني بالشعبوية؟
    و للإجابة عن هذا السؤال، يقول الأستاذ جون أيف كامو مدير مرصد الراديكاليات السياسية في مؤسسة جون جوريس، في حوار له مع صحيفة “جريدة الأحد الباريسية ” معظم المراقبين متفقين اليوم، ليقولوا بأن الشعبوية كمفهوم، هي سلوك سياسي يهدف الى تقسيم المجتمع الى شطرين بحيث يكون هناك شطر تمثله النخب المنحرفة و الفاسدة، التي ستتموقع في وضع يعاكس الشطر الآخر الذي يمثله الشعب باعتباره كتلة متجانسة، و هي تعتبر نفسها اكثر دراية بمصالح الشعب من منطلق انها تعرف استقراء المستقبل اكثر من الشعب نفسه” و بالتالي فان ” المسؤولين السياسيين الذين يتبنون هذا الطرح و هذا التصور، يعتبرون انفسهم هم من يحملون صوت الشعب الذي يعتبرونه بالطبيعة على حق ضد الجميع بما في ذلك الخبراء و النخب السياسية و الاقتصادية و الإعلامية و المثقفة الأخرى و حتى الكتل الوسيطة بين الفرد و الدولة”.
    نفهم من هذا ان الشعبوية لا تتعلق بالأفراد او مجموعات افراد، كما يوحي بذلك صاحب المقال، بل بتنظيمات سياسية مهيكلة و باطروحات سياسية معروفة و متداولة.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية