هل حدث وأن تمنيت أن تفقد ذاكرتك؟
أن تستيقظ وتجد رأسك فارغا من حمولته الثقيلة، من الماضي والحاضر، من أسماء الناس والأمكنة، من كل ما تعلّمته وما قرأته وما سمعته ورأيته. هل حدث أن تمنيت أن تغيّر شريحة رأسك، وتستبدلها بشريحة أخرى، فتبرمج نفسك لتكون شخصا آخر تماما، أقلّ تأثرا بما يحدث حوله، أكثر تفاعلا بشكل عملي مع كل من يحتكُّ بهم؟
هل حدث أن ثُرت ضد عاطفتك؟ وتمنيت أن ترمي قلبك في سلّة المهملات، وتقتني قلبا جديدا، قابلا للبرمجة ليناسب ما يتطلبه «العيش المشترك» مع السلالات البشرية الجديدة التي لا يهمها صدقك ومحبتك واحترامك لها؟
بالتأكيد حدث ذلك تكرارا ومرارا، لكن كل تلك الأمنيات مستحيلة. إنها أفكار مجنونة، وإن حدثت استثناءً مع أشخاص خلال حوادث نادرة أدّت إلى فقدانهم ذاكرتهم، إلا أن تبعاتها مريرة جدا، ففاقد الذاكرة يعيش عذابات من نوع آخر، إذ يبذل من أجل استرجاع ذاكرته الكثير من الجهد، ليعود إلى ثباته واستقراره العقلي والنفسي.
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مثلا قصة المغني والموسيقي البلجيكي دامسو حين تحدّث عن مقطوعته «فقدان الذاكرة» المعبّرة عن وجعه إثر انتحار صديقته، وعن رغبته في فقدان ذاكرته ليسقط ذلك الفصل المؤلم منها تماما. يروي الموسيقي ذي الأصول الافريقية لجوءه لتدخين الحشيش كعلاج مؤقت لصدمته الفظيعة. أمّا أمنيته فلم تتحقق، لكنه جسّدها في مقطوعة اعتبرها عشاق هذا اللون من الموسيقى شكلا من أشكال التعبير عن أوجاعهم، وادّعى البعض أن المقطوعة حملتهم لعوالم تشبه النسيان فعلا.
هل يمكن تصديق ذلك؟
على هذا المعطى الواقعي المثير، بُنيت قصص وروايات وأفلام نالت شهرة واسعة. صحيح أن المخيلة وجدت ما تضيفه لتجعل تلك القصص غاية في التشويق والإثارة، لكن أساس الفكرة قائم على فكرة فقدان الذاكرة لما تحمله من غموض. يحكي أحد فاقدي الذاكرة كيف نسي كل شيء، لم يتذكر فقط من يكون، بل نسي كيف يمشي ويستعمل يديه، كما نسي كل ما تعلّمه، بما في ذلك الأحرف، فعاود بناء حياته من جديد، كما لو أنه ولد من جديد، وكانت رحلته تلك من أصعب التجارب التي يمكن أن يعيشها الفرد. أمّا كُتاب القصص فيقدّمون فقدان الذاكرة كثيمة ممتعة، خاصةً إن تحولت تلك القصص إلى أفلام، مثل السلسلة التي كتبها الأمريكي روبرت لودلم (1927 2001) مبتكر شخصية جيسون بورن، التي جسدها أول مرة الممثل مات دايمون في فيلم «هوية بورن».
فقدان الذاكرة يقدّم لنا فرصة ثمينة لملء فراغات «الصفحة البيضاء» وهذا ما فعله لودلم، معتمدا التقنيات الأمريكية عالية الإثارة في الكتابة، من تنوع للمكان، وتنقل البطل الرئيسي بين عواصم عدة، واكتشاف هويته على عدّة مراحل، ما يجعل القارئ متمسكا بخيوط السرد حتى النهاية لعجزه عن استنتاج النهاية. صدمة بورن كانت في معرفة نفسه، واكتشاف أول حلقة من حلقات حياته السابقة، إنّه مجرّد قاتل، ينفّذ الغايات الشريرة، لمجموعة تتحكّم فيه. هذه اليقظة غير المتوقعة من فاقد الذاكرة وانحيازه للجانب الخيّر من شخصيته، يذكرنا بالقاعدة السيكولوجية التي تقول إن الإنسان مرهون بخياراته وهو دائما أمام مفترق طرق أحدهما يأخذه للشر والآخر للخير. منذ البداية يقودنا صنّاع الفيلم للتعاطف مع الملامح البريئة لمات ديمون، فنختار أن نكون في صفّه، نحبس أنفاسنا طيلة الفيلم، وفي آخره نتنفس الصعداء. لقد انتصر بطلنا، وقد استعاد ذاكرته، وصحح أخطاءه السابقة الجسيمة، لكن بماذا خرجنا أيضا بعد ذلك السباق الزمني المزدوج بين الماضي والحاضر؟
إن الغاية وإن كانت مبطّنة ليست بعيدة عن أهمية قراءة الماضي جيدا لتحديد نوع المستقبل الذي نختاره. فالرّجل الذي لا ماضٍ له، لا حياة حقيقية له، إنّه حبيس نقطة الصفر التي يقف فيها ولا يتحرّك أبدا نحو المستقبل. خاض ميلان كونديرا كثيرا في موضوعات الذاكرة، عن أنواعها، وأهميتها، وأعتقد هذه المقولة له «شعب دون ذاكرة لا مستقبل له» محدّدا أن «الثقافة هي ذاكرة الشعب، والوعي الجماعي للاستمرارية التاريخية، وطريقة التفكير والعيش». ترى في أي مرحلة من مراحل تاريخنا فقدنا ذاكرتنا؟ ما الذي أنهكنا فتخلينا عن أثقال الذاكرة دفعة واحدة؟
يصف الفلاسفة الذاكرة بالمخلصة، والنسيان بالخيانة، لهذا هو سبب الشرور كلها. يدخل الدّمار إلى العالم من خلال شقوق النسيان الصغيرة، وكلما ازدادت اتساعا زاد حجم الانهيار. النسيان والإهمال متلازمان، وهما معا يفقدان الحياة جديّتها.
اللعنة على النسيان! إنه سبب خروج آدم من الجنة، وليس أي شكل آخر من أشكال التمرّد والعصيان التي ازدحمت بها أساطيرنا القديمة.
الذاكرة قوة إن عرفنا الحفاظ عليها، لأنها هشّة ومحدودة إن لم نفعل ذلك، نحن ننسى الكثير على الرغم منّا. وأحيانا نشكر الله على نعمة النسيان. لكن هل ما يُنسى جيد لنا؟
المشكلة أن الذاكرة شرط من شروط حيوية الإنسان، وعامل من عوامل مرضه. ثمة نقطة معينة من اللاتحمُّل يبلغها الإنسان أحيانا فينطلق زرُّ الشطب ليمحي ذاكرته. هذا لا يحدث إلا في حالات مرضية نادرة أو حوادث قوية تصيب الدماغ. النسيان نفسه أو فقدان الذاكرة شرط لإمكانية بداية جديدة، وصنع مستقبل مختلف. وهذا ما فعله لودلم في رواياته التي حققت مبيعات خرافية تجاوزت الخمسمئة مليون نسخة. وهناك غيره من الكتّاب انطلقوا في كتابة نصوصهم من قصص واقعية صادف أن سمعوا بها، أثروها بأبحاث في موضوع الذاكرة قبل بناء الأحداث والربط بينها بخيوط المخيلة.
في الأدب كما في الدراما، هناك خزائن محكمة الإغلاق للذاكرة العميقة، يذهب إليها الكاتب بمفاتيح خاصة فيخرجها لأنه كما قال البير كامو «عمرنا قصير وذاكرتنا قصيرة» فلا داعي لأن ننهك أنفسنا في متاهات تنسينا تذوق كل لحظة من حياتنا، والتي ستضيع بعد ذلك إلى الأبد. فنحن ننسى أثمن ما يجب التركيز عليه، وفي الحقيقة بؤسنا ينبعث من هنا. الذي لا يستطيع أن يفكّر في نفسه، ويقضي معظم وقته يفكر في الآخرين من الأفضل أن يعود سريعا إلى نفسه.
لا بأس من إعادة قراءة رواية «السقطة» لكامو لفهم ذلك. في لحظة ما اعتقدت أن الرّجل يعرفني شخصيا ورسالته التي أودعها في كتابه تخاطبني. بالتأكيد هناك جانب من شخصية كامو في تلك الاعترافات، لكنه بشكل ما قال لنا كلمته الأخيرة، وهي أن في داخل كل شخص منا «جان بابتيست كلامانس» الذي كان في الجنّة ثم وجد نفسه يهبط منها لأنّه لسبب ما أصيب بالنسيان، فاقترف الخطيئة الأسوأ في حق نفسه.
اللعنة على النسيان! إنه سبب خروج آدم من الجنة، وليس أي شكل آخر من أشكال التمرّد والعصيان التي ازدحمت بها أساطيرنا القديمة.
توقظ الصدمة ذكرياتنا الجميلة، مثل موت صديق حميم، أو أستاذ عزيز، أو حتى فرد قريب من العائلة، فنشعر بحب جارف نحوهم.
كلما كانت خسارتنا فادحة رأينا حجم كرة النسيان التي تدحرجنا معها إلى قاع سحيق ومظلم. فلماذا نتمنى مزيدا من النسيان لمواجهة مواجعنا؟ أليس الأسهل أن نحمل طيلة الوقت بوصلة لذاكرتنا الشخصية ونتبعها إلى حيث توجهنا حين نشعر بالضياع؟
أليس ذلك ما فعلته ذاكرة الأديان حين استخدمت محتواها كمستودع للذاكرة القديمة والأسطورية وفق لغة رمزية تناسب الإنسانية في كل أزمنتها، ومحتوىً قصصيٍّ جذاب أحيانا ومثير أحيانا أخرى، جمع بين المعقول واللامعقول لأجل فتح باب التأويلات دون السماح لها للذهاب بعيدا؟ يسأل بول فاليري حين تصبح الذاكرة دافعا للانتقام والكراهية، يجب البحث عن طرق للنسيان، لمعالجة جراحنا دون أن يُفهم تسامحنا على أنه نوع من الضعف وقلة الحيلة، لأن «نسيان المخادعين والجاحدين والأوغاد والخونة والأغبياء يعيدنا للأخطاء والنتائج نفسها» لنعتمد يقول، برنامجا ذكيا يقوم على نسبية النسيان، وذاكرة عاقلة.
شاعرة وإعلامية من البحرين
وجهة نظر بنت (ثقافة) دول مجلس التعاون في الخليج العربي(بروين حبيب)، في (فهم وتأويل أو ترجمة) سبب خروجنا من الجنة، اختصرته في عنوان (النسيان أخرج آدم من الجنة)،
ولكن ما حصل إلى الرئيس الأفغاني (أشرف غني)، زوج اللبنانية (رولا سعادة)، يقول غير ذلك، سبب هروبه من (جنة الرئاسة)، إلى (بهذلة اللجوء)، على أرض الواقع،
حتى لو كان في دول مجلس التعاون في الخليج العربي، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
في البداية من حق أي كان، اختيار أي زاوية وأي موضوع، في فهم سياق أي حدث، لمناقشة أو حوار أو فهم أو تأويل في ترجمته إلى منتج لغوي، يمكن تدوينه، في أي جريدة أو موقع على (الشّابِكة/الإنترنت) وعرضه في سوق أجواء العولمة،
ومن يستثيره/يُحفّزه عنوان المنتج، عند رؤيته في الآلة التي بيده، لكتابة أي تعليق، يوافق على نشره المسؤول عن إدارة وحوكمة المكان، سيظهر بعد ذلك تحت المقال،
لكن الحوار بيننا، لا يمكن أن يكون له علاقة بحقيقة قصة خروج الأسرة الانسانية من الجنة، وتم ترحيلها إلى الأرض،
ومن يقول بغير ذلك غير منطقي أو موضوعي أو له علاقة بالعقل الإنساني، على الأقل من وجهة نظري.??
??????