إعلان المدعي العام الإيراني، حل شرطة الأخلاق، وتأكيده أن البرلمان والسلطة القضائية في البلاد، يعملان على مراجعة قانون نيسان/أبريل 1983 الذي يفرض على النساء ارتداء الحجاب، جرى التعامل معهما كـ»تنازلات» قدمتها السلطة للمتظاهرين، خصوصا أن الاحتجاجات اندلعت بسبب وفاة الشابة مهسا أميني، خلال احتجازها داخل مخفر للشرطة بسبب عدم التزامها بالقواعد الصارمة في ارتداء الحجاب.
غرض النظام، من قراراته، امتصاص الاحتجاجات واستيعابها، عبر إطفاء الشرارات (شرطة الأخلاق وقانون فرض الحجاب)، لكن هذه القرارات، تأتي بعد أكثر من شهرين، حيث توسع الاحتجاج، من النساء والأكراد، إلى الطلاب والتجار، والطبقات المدينية الوسطى، وسنّة الأطراف، بمعنى أن الاحتجاج، تجاوز شراراته، وأصبح أقرب إلى تظهير لمدى كراهية الإيرانيين لنظامهم.
التنازل مرتبط بشرارات الاحتجاج، أما الاحتجاج في حدّ ذاته، فقد صار في مكان آخر، خصوصا أن النظام ارتكب مجازر واعترف بقتل 400 معارض. إذن، هناك عداوة بين سلطة خامنئي والمعارضين لها، وتقديم «تنازلات» ستثبّت هذه العداوة أكثر، وتقدم أدلة إضافية ضد السلطة الدينية، إذ إن حلّ «شرطة الأخلاق»، هو اعتراف ضمني بأنها ارتكبت انتهاكات، وكذلك مراجعة «قانون الحجاب»، ليسا سوى تأكيد أنه قانون قسري مفروض بالقوة على المجتمع. حدود «تنازلات» النظام، مرتبطة إذن بجهاز أمني، وبقانون قسري. ثمة أجهزة متعددة للقمع في إيران، قد تكون «شرطة الأخلاق» أقلها شراسة في التعامل مع المعارضين، كما توجد قوانين شتى لضبط المجتمع ضمن تصور ديني مذهبي ممزوج بالسياسة.
يسعى النظام عبر قراراته لاختصار المشكلة، بجهاز وقانون، وليس في بنية تم تأسيسها عقب الثورة الإيرانية، وضعت قواعدها «نخبة» انتهت مقاليد الحكم في يدها
يسعى النظام عبر قراراته إلى اختصار المشكلة، بجهاز وقانون، وليس في بنية تم تأسيسها عقب الثورة الإيرانية، بنية وضعت قواعدها «نخبة» انتهت مقاليد الحكم في يدها، تتمثل حسبما يقول الكاتب وضاح شرارة في كتابه «طوق العمامة الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف»، بـ»سادة موسويون من ذرية موسى الكاظم (سابع أئمة الشيعة الإمامين المعصومين) التي ينتسب إليها الخميني نفسه»، ويليهم «في مراتب النفوذ والجاه أهل أصفهان وفارس ويزد». وعليه، فقد «أدى احتكار الموسويين، والسادة والعلماء وأهل مثلث أصفهان وفارس ويزد الدولة والموارد، إلى احتدام الصراع بين الدولة المركزية، وقومها ومذهبها، والأطراف وأقوامها ومذاهبها». تشريح شرارة لنواة النظام الحاكم، ينسحب على الاقتصاد أيضا، حيث «توزيع الموارد على الأنصار والموالين، عن طريق التوظيف والتجنيد، أو عن طريق المساعدات والهبات» و»تبديد شطر كبير من العوائد الوطنية على قواعد الطاقم الحاكم الاجتماعية والأهلية». ما يعني أن «تنازلات» السلطة الدينية، تنحصر في الأدوات، التشريع والأجهزة، وليس في البنية الثيوقراطية، التي يعترض الإيرانيون عليها. وهو ما يفسر استمرار الاحتجاجات، بعد قرارات النظام، وتنظيم إضراب واسع التزمت به عشرات المدن. والأرجح أن اختيار الإضراب ليكون رداً على «خدعة» رجال الدين الممسكين بالسلطة، لم يكن صدفة. فمقابل الأدوات، التي يوهمنا النظام بالاستغناء عنها جهاز (شرطة الأخلاق) وتشريع (قانون الحجاب)، ثمة أدوات اعتراض حديثة لدى المتظاهرين، بينها الإضراب. لكل طرف أدواته، واحد استبدادي ديني، يمتلك مراتب حكم وأجهزة وقوانين وتشريعات وإعلام تعبئة وتدجين، وآخر يطالب بالديمقراطية، يمتلك التظاهر والرأي والتنظيم والإضراب وقص الشعر (احتجاجا على الحجاب). واحد، ينوع في استخدام أدواته، بين قمع أي محاولة للتغيير، أو تقديمها، أي الأدوات، كرشى مؤقتة للمحتجين، وآخر يستخدم أدواته للإصرار على إحداث التغيير، وتقديم تضحيات في سبيل ذلك. وخلف الأدوات طبعا، ترسو عقليتان متضاربتان، إحداهما تمثلها فئة استئثارية ثيوقراطية خلقت لنفسها قواعد، لتُخضع بالقوة والعنف والإرهاب بقية الشعب، وأخرى، تمثلها قطاعات واسعة من المجتمع، من نساء وطبقات وسطى ومدينية وأقليات إثنية ودينية، تبحث عن خلاص من نظام قبض كل تفاصيل حياتها، قبل أن يحرمها من أي تمثيل سياسي. النظام الإيراني، تنبه سريعا إلى الفجوة بينه وبين مجتمعه، لذلك، سارع بعد قراراته التي سميت زورا «تنازلات»، إلى إعدام اثنين، من المتظاهرين ضده، في إشارة واضحة إلى أن أقصى ما يمكن أن يقدمه أداة أو أداتين من أدوات السلطة، أما السلطة فممنوع المساس بها، ولو أدى ذلك لإعدام آلاف الإيرانيين، كما حصل سابقا.
كاتب سوري