أرخت الحرب الإسرائيلية على لبنان ظلالها على اللاجئين السوريين الذين فروا من سوريا إليه، جراء الحرب التي بدأها النظام السوري والقوى الداعمة لهم منذ ربيع 2011 وحتى يومنا هذا، فكان لبنان ملجأ لأعداد كبيرة من السوريين، وشكل مستقرا مؤقتا لهم رغم الصعوبات التي تواجه اللاجئين والمصاعب التي واجهتها الحكومة اللبنانية في التعامل مع ملف بهذه الضخامة، خاصة مع حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها لبنان في شتى المجالات، أهمها السياسي وسط غياب توافق على رئيس منذ سنوات.
أوضاع السوريين في لبنان معقدة ومتشابكة، وتشكل تحديًا كبيرًا للبنان وسوريا والمجتمع الدولي، فمنذ اندلاع الثورة عام 2011 تدفق ملايين اللاجئين السوريين إلى لبنان، ما أحدث ضغوطًا هائلة على البنية التحتية والخدمات والموارد الاقتصادية للبلاد.
إذ يعيش معظم اللاجئين السوريين في لبنان في ظروف إنسانية صعبة، حيث يعانون من الفقر والبطالة وسوء التغذية والتشرد، كما يعيش الكثيرون في مخيمات عشوائية أو في مساكن مستأجرة بأسعار مرتفعة، ولا يتمتعون بوصول كافٍ إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم.
الحرب الإسرائيلية مع حزب الله، أتت على حالة الاستقرار المؤقتة للسوريين، والتي شملت غالبية أرجاء لبنان، فالسوري في لبنان لم تغادر مخيلته أصوات الغارات التي كانت تشنها مقاتلات النظام على المدن والبلدات، والانفجارات المرعبة التي كانت تخلفها براميله المتفجرة، فجاءت الطائرات الإسرائيلية لتنسف ذلك الاستقرار مجددا، وتضع اللاجئ السوري ما بين خيارين أحلاهما مر، ما بين الترحال مجددا نحو مناطق أكثر أمنا داخل الجغرافية اللبنانية، وما بين العودة إلى سوريا، تلك البلاد التي هربوا منها جراء انتهاكات النظام، فمجرد التفكير بالعودة إلى سوريا، كأن السوري يعود إلى عام 2011 ليلاقي في استقباله ذات النهج الذي تركه وهرب منه قبل أكثر من عقد، من حواجز واعتقال، حتى وصلت الأحداث أن العديد منهم كان مستعدا لتحمل كل تلك المشقات مقابل الوصول إلى مدينته أو قريته، ولكن أحواله استقرت في شعب التجنيد وسوقه تعسفيا نحو الخدمة العسكرية.
عودة نحو النكبة
أدت الحرب الإسرائيلية في لبنان حتى اللحظة إلى نزوح مئات الآلاف من السوريين واللبنانيين نحو سوريا، نزوح يحمل في طياته العديد من الفروقات، فاللبناني يتوجه إلى سوريا هربا من الحرب وطالبا للأمن، ولا تقع في قلبه مخاوف من اعتقال تعسفي أو تجنيد إجباري أو إخفاء قسري، في حين أن اللاجئ السوري تسمع دقات قلبه وهي ترتعد مع كل خطوة يخطوها نحو الحدود اللبنانية – السورية، وتبدأ الأسئلة ولا تنتهي، حول مصيره وأفراد عائلته.
وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية بسام مولوي قال في تصريحات صحافية: «إن أكثر من 311 ألف سوري غادروا لبنان إلى سوريا خلال الأسبوعين الماضيين» مشيرًا إلى أن «غالبية السوريين في لبنان يمكنهم العودة لبلدهم».
في حين وثقت مصادر حكومية في دمشق دخول أكثر من 203 آلاف شخص من لبنان إلى سوريا عبر معبر جديدة يابوس الحدودي بريف دمشق منذ بدء حركة النزوح، من ضمنهم نحو 160 ألف سوري وفلسطيني سوري وأكثر من 43 ألف لبناني ولبناني فلسطيني.
وفي طرطوس، فقد بلغ عدد الوافدين عن طريق معبر العريضة نحو 25 ألف شخص، بينهم 7790 لبنانياً ونحو 17 ألف سوري.
شمالا، أعلن الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» عن دخول دفعة جديدة من السوريين الهاربين من الحرب الدائرة في لبنان إلى مناطق شمال غربي سوريا عبر منفذ عون الدادات في ريف جرابلس شرقي حلب، وبهذا ترتفع إحصائية العابرين من المنفذ منذ بداية دخولهم إلى مناطق شمال غربي سوريا، إلى نحو 2700 مدني موزعين على دفعتين.
إلا أن الطريق نحو سوريا ليست ممهدة، فقد تعمد قادة الجيش الإسرائيلي استهداف العديد من المعابر الحدودية الرسمية وغير الرسمية خلال الأيام الماضية، وقالت «الوكالة الوطنية للإعلام»: إن الطيران الإسرائيلي نفذ منذ صباح الخميس، تسع غارات على مناطق الهرمل الحدودية، بينها ثلاث غارات استهدفت بلدة حوش السيد علي.
وكان الجيش الإسرائيلي، أعلن قصف «محاور التهريب» عند الحدود السورية – اللبنانية، و«شحنات أسلحة» حاول «حزب الله» تهريبها من سوريا إلى لبنان، كما استهدف معبر «المصنع» الحدودي الرسمي بين البلدين.
عنصرية وطنية!
استقبلت أجهزة الأمن وعسكر النظام السوري، اللاجئين السوريين بحزمة من المضايقات والاعتقال التعسفي والتجنيد الإجباري، رغم سماحها بدخول مئات الآلاف من اللبنانيين والسوريين من عدة معابر رسمية وغير رسمية.
فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان- منظمة غير حكومية- العديد من عمليات احتجاز استهدفت اللاجئين العائدين من لبنان هرباً من الغارات الجوية الإسرائيلية المتصاعدة التي استهدفت لبنان منذ 23 أيلول/سبتمبر الماضي، وجرت عمليات الاعتقال عند المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا الرسمية وغير الرسمية.
حيث اقتيد معظمهم إلى مراكز الاحتجاز الأمنية والعسكرية في محافظتي حمص ودمشق. ووثَّقت الشَّبكة الحقوقية اعتقال ما لا يقل عن 9 أشخاص من اللاجئين معظمهم من أبناء محافظة ريف دمشق، وعلى خلفية التجنيد الإلزامي والاحتياطي.
كما أكدت مصادر أهلية ومحلية سورية، أن الأجهزة الأمنية التابعة للأسد، اعتقلت لاجئين سوريين، عادوا مؤخراً من لبنان، ضمن موجة النزوح الحالية إلى سوريا.
ونقلت شبكة «السويداء 24» المحلية عن مصادر، أن الأجهزة الأمنية اعتقلت أربعة أشخاص منحدرين من محافظة السويداء جنوبي البلاد، بعد عودتهم من لبنان، بحادثتين منفصلتين مطلع الشهر الحالي.
فيما نقلت عدة مصادر إعلامية، تأكيد بعض اللاجئين العائدين من لبنان إلى سوريا، أن قوات النظام السوري أجبرتهم على دفع مبالغ مالية طائلة على شكل إتاوات عند حواجزها العسكرية، مقابل السماح لهم بالعبور نحو مناطق سيطرة حكومة دمشق.
وقال نازح سوري عاد حديثاً من لبنان، إنه اضطر إلى دفع 1300 دولار للحواجز، في سبيل الوصول إلى شمال سوريا ليستقر به الحال وأسرته داخل مخيم للاجئين في معرة مصرين شمالي إدلب.
وأكد عائد سوري آخر، أن المبلغ الذي يدفعه العائدون عند كل نقطة تفتيش يحدده القائمون على هذه المعابر، مشيراً إلى أن الأمر أشبه بالتجارة، وفق «إذاعة صوت ألمانيا- دويتشه فيله».
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني أكد في تصريحات خاصة لـ«القدس العربي» أن كل الاعتقالات التي تنفذها مخابرات النظام السوري أو قواته العسكرية بحق السوريين هي اعتقالات تعسفية، ويمكن توصيفها بـ«عمليات اختطاف» كونها لا تستند إلى أي قرار قضائي مفصل بحق أي سوري يتعرض للاعتقال، وأن القرار القضائي يجب أن يمر بعدة خطوات سابقة، وليس مجرد ورقة تسوغ لمخابرات الأسد أو جيشه استخدام القوة لاعتقال السوريين وسوقهم إلى جهات مجهولة.
ففي الحالات الطبيعية، يمكن لقوات الشرطة طرح الأسئلة على المواطنين، ولكن ذلك ليس من حق المخابرات أو الجيش، وحتى الشرطة التي يحق لها طرح الأسئلة يجب أن تستند إلى قرار معين، على سبيل المثال ارتكاب هذا المواطن لمخالفة ما، وهذا ما يسمى بالاستجواب، ومدته قد تصل إلى 30 دقيقة على سبيل المثال، وهذا حدث طبيعي.
أما أن تقوم مخابرات النظام السوري وقواته العسكرية باعتقال السوريين وسوقهم إلى مكان مجهول ويختفي هذا المواطن لأسابيع أو لأشهر أو لسنوات، فهذا لم يعد اعتقالا، بل هي عمليات خطف، وهو ما يمكن أن نسميه بـ«الاعتقال التعسفي» وفي سوريا التي يحكمها الأسد يعد القضاء لعبة بيد الأجهزة الأمنية، ويمكن لهذه الجهات الحصول على أي ورقة قضائية كإجراء سطحي لتبرير الانتهاكات التي يتم ارتكابها بحق السوريين.
وإلغاء النظام السوري بند دفع السوري العائد إلى البلاد مبلغ 100 دولار، مرده وفق المتحدث، إلى طلب إيراني، بغية تحصيل المزيد من التسهيلات لأجل اللبنانيين، وهذا يعد ضمن الإجراءات العنصرية بحق الشعب السوري، قائلا: «قرار فرض مثل هذه القرارات من قبل نظام حكم بحق شعبه، لا تفعله حتى أكثر الأنظمة ديكتاتورية في العالم، فالدول عادة تميز لصالح مواطنيها، إلا في سوريا يقوم النظام السوري بحالة معاكسة تماما».
العودة خطيرة
أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، تعرض العديد من السوريين ممن عادوا إلى سوريا من لبنان لعمليات اعتقال، حيث وثقت الشبكة عدة حالات، مشيرا إلى صعوبات في عملية التوثيق في الوقت الراهن، وبأن عمليات الاستقصاء والمتابعة تحتاج إلى المزيد من الوقت بسبب الأعداد الضخمة من السوريين الذين يغادرون على دفعات متتالية إلى سوريا جراء الحرب في لبنان.
وأكد المصدر الحقوقي، توثيق فريق العمل في الشبكة لعمليات تجنيد إجباري طالت العديد من اللاجئين السوريين ممن عادوا مؤخرا، وذلك بعد اعتقالهم بشكل تعسفي، مشيرا إلى عددا من السوريين لم يصلوا إلى منازلهم، إذ تم اعتقالهم من خلال الحواجز العسكرية ومن ثم سوقهم إلى الخدمة العسكرية بشكل إجباري.
العودة إلى سوريا خطيرة، ودعا عبد الغني أكثر من 7 ملايين سوري إلى عدم العودة إلى سوريا، سواء من لبنان أو من أي دولة أخرى، وألا يُخدع الناس بأحاديث التطمينات الأمنية، فلا توجد أي ضمانات، حيث تم توثيق اعتقال العديد من الأشخاص رغم حصولهم على أوراق تسوية مع النظام، وهذا صعب بكل تأكيد، بسبب صعوبة أوضاع السوريين عامة، وأشار المتحدث إلى أن عددا كبيرا من السوريين في لبنان احتضنهم الجنوب اللبناني، وهذا يحسب له، ولا بد من الإشارة له.
ونوه إلى جملة من الصعوبات التي تواجه السوريين في لبنان، من عدم تقبلهم في بعض المناطق، وصعوبة تحصيل المسكن، وبالتالي السوري بين نارين، إحدها صعوبة الأوضاع في لبنان، والثانية أن الباب الوحيد المفتوح أمامه العودة إلى ذات المكان وذات النظام الذي أجبره على النزوح والهجرة القسرية، وبالتالي العودة لمواجهة جملة من المخاطر والتحديات القاسية.
اتجاهات
خطيرة للحرب
طالب رئيس الائتلاف الوطني السوري هادي البحرة، الحكومة اللبنانية، بوقف السياسات التمييزية ضد اللاجئين السوريين الذين باتوا محاصرين بين منعهم من الحصول على الطبابة والإيواء والغذاء من جهة، وعمليات القصف التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على لبنان من جهة أخرى، داعياً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى إظهار شيء من الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية.
وقال البحرة موجهاً كلامه لرئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي: إنه «في خضم تصريحاتك الأخيرة حول الأعباء التي يتحملها لبنان نتيجة النزوح السوري، من المهم تذكيرك بحقيقة واضحة تتغاضى عنها، وهي أن عشرات الآلاف من اللبنانيين يعبرون يوميًا نحو سوريا، ويستقبلهم الشعب السوري رغم ويلات الحرب التي أنهكته على مدى أكثر من عقد».
ولفت إلى أنه لا يمكن للحكومة اللبنانية أن تتجاهل أن الميليشيات اللبنانية وأهمها شريك في حكومات لبنان المتتالية، شاركت نظام الأسد في قتل وترهيب وتهجير السوريين من ديارهم، ما خلق واحدة من أكبر موجات اللجوء التي عرفها العالم، مضيفاً أن هذه الميليشيات وداعميها ما زالت مستمرة في ممارساتها الإجرامية، وتواصل انتهاكاتها ضد المدنيين السوريين داخل سوريا عبر القصف والترهيب، كما تستوطن بلدات وقرى وأحياء المهجرين قسّريًا.
ومنذ بدأ التصعيد العسكري الإسرائيلي على لبنان انعكست آثاره على اللاجئين السوريين فيه، وأدركوا أنهم أمام حالة نزوح جديدة، وعلى العكس من حالة اللجوء أو النزوح التي عانوها منذ العام 2011 أتت حالة تهجيرهم الجديدة في لبنان سريعة ومباغتة، فالعدوان الإسرائيلي بدأ مرتفع الوتيرة، وهذا ما كان له الأثر الأكبر عليهم.
وبالفعل سرعان ما تناقلت وسائل إعلام متعددة حالة السوريين وتأثير العدوان عليهم، حتى بات معظمهم يحلم بمأوى يأوي اليه هو وأطفاله، ورحلة التهجير الجديدة ستعمل على خلق عقبات متعددة ومركبة أمامهم تتمثل في الوضع الاقتصادي الهش أصلا، وترك ما تم بناءه خلال السنوات الماضية على بساطته، وقلة المساعدات المقدمة لهم، وانفتاح باب جديد لتقديم المساعدات وهو بلا شك سيكون على حسابهم، حيث أدت على سبيل المثال الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تخفيض المساعدات الدولية للسوريين، واليوم أمام نزوح اللبنانيين أيضا ستقدم المساعدات لهم، وهو بلا شك سينعكس سلبا على السوريين، ناهيك عن حرمانهم من مواصلة تعليم أبنائهم ورعاية الحالات الصحية الحرجة أقل ما يمكن.
وتتمثل أخطار الحرب وفق ما قاله الباحث في مركز «جسور» للدراسات، رشيد حوراني لـ «القدس العربي» في اتجاهين، الأول خوف السوريين وخاصة الذكور منهم من الدخول إلى البلاد بسبب ملاحقة النظام لهم أمنيا وابتزازهم لتسوية أوضاعهم التجنيدية.
ومن جانب آخر تشكل حالة النزوح ضررا على السوريين إذا ما تمكن النظام من تقديم نفسه كحاضن للاجئين ليستفيد من المساعدات المقدمة لهم، حيث أعلنت الولايات المتحدة توفير ما يقارب 160 مليون دولار من أجل الدعم الإنساني يخصص هذا لدعم للنازحين داخل لبنان وأولئك الفارين إلى سوريا، حيث يحاول النظام من وراء ذلك الدعاية لنفسه على طريق إعادة تأهيله والاعتراف به.
لم يكترث النظام بالسوريين الوافدين من لبنان، حيث توجه قسم منهم إلى شمال غرب البلاد، وبدأت على سبيل المثال حكومة الإنقاذ بإنشاء مراكز إيواء لهم، بينما المعارضة الرسمية وفق حوراني غير قادرة على تقديم شيء لهم، واكتفت بإصدار البيانات ومناشدة رئيس الحكومة اللبنانية.