النظام القديم يتهاوى والمجتمع الدولي بحاجة إلى مقاربة أممية جديدة

السلام العالمي يرتبط بمدى فعالية التنظيم الدولي، وتأثيره من خلال مؤسساته المختلفة في مواجهة العدوان، وحل النزاعات بالوسائل والطرق السلمية. ومنظمة الأمم المتحدة التي عقدت حولها أوروبا آمالا عريضة، اعتقادا منها أن هذه المنظمة ستنهض فعلا بالمهمات التي تكفلت بأدائها عند تأسيسها، في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تُفلح في أداء ما هو مطلوب منها أساسا. وهو توفير السلام ومنع الحروب، رغم أنها تعهدت بتطبيق الأحكام والالتزامات الواردة في المواثيق التي أعلنتها، ووقع عليها المنخرطون.
والعجز الذي انتاب مجلس الأمن في عهد الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، تواصلت معضلته اثر سقوط أحد القطبين، حيث تجاهلت الولايات المتحدة تماما مثل هذه الهياكل الأممية، وفعلت ما تريد في كل أنحاء العالم باستخدام القوة بشكل منفرد. وعلى نحو متواصل، ماتزال السياسة الدولية تفتقد إلى وسيط دولي يتسم بالحياد، والقدرة على تجاوز المحن والتعقيدات، والنجاح في إدارة النزاعات والعمل على حلها بشكل لا يطيل مأساة الشعوب ويعمق جراحها. والأزمة الإنسانية في اليمن دليلُ فشل الدبلوماسية الدولية في إيجاد حل لما يعانيه الشعب اليمني منذ سنوات. وهي تراكم فشلها في سوريا وليبيا. وفي معظم بؤر التوتر وساحات الحروب الأهلية وميادين الاقتتال. من حاصل دور المتفرج الذي وُسِمت به، عندما دأبت أمريكا وحلفاؤها البريطانيون منذ نهاية الحرب الباردة على ارتجال الحروب، وتجاهل المنظمات الدولية، وهو المسار ذاته الذي سلكته إسرائيل.
وأبرز ما شهده العالم منذ سقوط جدار برلين، تزايد عدد اللاجئين والمهجرين الذين فاقوا حسب احصائيات أممية الأعداد الهائلة التي وقع تهجيرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والحروب التي شهدتها الألفية الثالثة، خلفت بدورها نكبات هائلة تشهد عليها حرب العراق، ومن ثم إقحام سوريا وليبيا واليمن في حروب أهلية، نتيجة تدخلات خارجية وانتهاكات للأعراف الدولية. واتسم القرن الحادي والعشرين بتسارع مذهل للأحداث، وأصبحت كل المجتمعات تقريبا تحت تأثير البيئة العالمية المضطربة، وفوضى العلاقات الدولية، وعجز المؤسسات الأممية على النهوض بمهامها وتعاقداتها القانونية والإنسانية. وتحصل هذه الفوضى العالمية لأن كل الدول تتصرف حسب مصلحتها الذاتية. وإن خطر نشوب حرب كبرى يبقى احتمالا قائما، مبعثه الرئيس تنافس القوى المتزايد، وعدم رغبة الولايات المتحدة في الانحدار إلى درجة ثالثة بعد الصين وروسيا. وإن كانت المواجهة في الوقت الحاضر تتخذ أشكالا أخرى، هي أساسا الحرب بالوكالة، وتفصح عن نسخة جديدة من الحرب الباردة بوجهها المالي والتجاري، بحثا عن مزيد الهيمنة وتحصيل المكاسب الاستراتيجية.

تجاهلت الولايات المتحدة الهياكل الأممية، وفعلت ما تريد في كل أنحاء العالم باستخدام القوة بشكل منفرد

والأمور تتم على حساب الدول الصغيرة، التي لم تنصفها الهياكل الأممية، بل شكلت الأمم المتحدة خطرا عليها، بغض النظر عن الأعمال الخيرة التي تقوم بها، فهي الواجهة التي تخفي المعايير المزدوجة لهذه المنظمات، التي لا تعيد تعريف نفسها أو توضيح أهدافها. ولا ترسخ القواعد التي تكبح جماح الأفعال غير القانونية، وما من مبرر لتخوف البعض من تحرك أمريكي أحادي الجانب، خلال الفترة المتبقية للرئيس المنتهية ولايته، وتوقع بعض المراقبين إقدامه على سلوك جنوني تجاه إيران أو غيرها من الدول ذات السيادة، سوى دليل آخر على عجز المنظمات الدولية عن كبح مرتكبي الشر. وعدم امتلاكها الإرادة الأخلاقية لتقوم بذلك، ناهيك من الإرادة السياسية والقانونية. فمعنى الإنصاف والعدالة الدولية لا يجري ترسيخها، ولم يتم حظر تشكيل تحالفات بين الدول الأعضاء المارقة. وسنظل نكتشف مدى التجانس العالمي وحقيقته.
نعيش عمليا شكلا من اللانظام العالمي، رغم أن القرن العشرين أظهر أن الدول لا تستطيع ببساطة صنع العالم، أو اختصار التحولات الكبرى. ومع ذلك القوانين القديمة مازالت سائدة، وهي التي تحكم النظام العالمي الذي يبطش فيه القوي كما يريد، في حين يلجأ الضعيف إلى القانون الدولي في محاولة يائسة لا يجد فيها إنصافا أمام هيئات تتحكم بها الدول الممولة، صاحبة الفيتو الذي ألحق الضرر بمصداقية مجلس الأمن والمنظمات الدولية كافة، على نحو يجعل هيئات التحكيم ذاتها تحتاج لمحاكم تحكيم. وانتهى الأمر إلى تقويض الديمقراطية، وإخضاع السوق لمصالح القوى الكبرى. وليس هناك دولة في مأمن من تبعات ما ترسخ من ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية على نحو عالمي، التي تتحرك وفق ليبرالية متوحشة، تزيد من نسب البطالة، وتضرب مكتسبات الطبقة العاملة، وتساهم في انخفاض الأجور والقدرة الشرائية، وتدهور مستويات المعيشة، وتقلص الخدمات الاجتماعية، وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل وناتج الثروة بين المواطنين، بما ينبئ بتحركات احتجاجية واضطرابات اجتماعية على مستوى عالمي، توفرت دوافعها كافة، بالنظر إلى نظام الحكم المعاصر، المصاب بفجوات كثيرة من مظاهر العجز الديمقراطي. وما كشف عنه الوباء من هشاشة النظم الاجتماعية، وعدم تجذر المبادئ الكونية أو ملازمتها للطبائع الإنسانية. والأمر البين أن ما يدور هو حول أمور جيواقتصادية، وأقله حول أمور جيوسياسية. وكلما كانت المنافسة بين المتربصين بممارسة الهيمنة أكبر، كانت الضغوط التي تدفع القوة العظمى إلى تأكيد تطلعاتها من خلال ظهورها في الساحة الدولية بمظهر القوة الامبراطورية الأكثر صلابة. وما نشأ عن اختفاء الشروط التي كان يمليها عالم القطبين من تصعيد للمنافسة مازال قائما، وهناك من لا يرضى بتعدد الأقطاب، أو ظهور بوادر التوازن الدولي، ويرفع المكافأة التي تُدفَع لقاء التبعية. وبالمحصلة، النظام القديم يتهاوى تحت وطأة إخفاقاته، والخطاب الاستراتيجي الجديد لما بعد الحرب الباردة، يرسخ الشعور المتنامي بانعدام الأمن، نظرا لانخراط الدولة في الشؤون العسكرية الصناعية، والوضع الخطير للاقتصاد العالمي المحكوم بالأزمات المتتالية، ضمن مرحلة من التاريخ السياسي المعاصر، تم فيها تدجين العلاقات الدبلوماسية، بشكل جعل المؤسسات الدولية، تُعتبر نتاجا لمصالح الدول الكبرى، وهي لا تلعب دورا ناجعا في منع نشوب الحروب، أو محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الإنسانية. أو ترسيخ مجالات التفاهم بين الدول والشعوب، وضمان احترام الحريات الأساسية، وحقوق الإنسان والاستقلال السياسي، والالتزام بقرارات المنظمات الدولية والمؤسسات الرسمية المجسدة للنظام الدولي.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية