النظام المصري من العناد إلى إعادة إنتاج الاستبداد

حجم الخط
0

هناك طريقتان للسيطرة على الشعوب واخضاعها ومصادرة أحلامها في غد أفضل، الاولى عبر أدوات القمع والبطش الأمنية التقليدية، أما الثانية وهي الأخطر فهي عبر نشر أجواء الاحباط واليأس في نفوس وقلوب هذه الشعوب وسرقة قدرتها على الحلم . وإذا كانت الطريقة الاولى قد سقطت في مصر بقيام ثورة يناير التي كسر فيها المصريون حاجز الخوف وأنهوا القبضة البوليسية لنظام مبارك، فان ثمة دلائل قوية على عودة هذه الممارسات القمعية القديمة، ولكن تحت غطاء ودعم سياسي من النظام الحالي، ولاسيما تجاه الناشطين السياسيين وشباب الثورة. أما الوسيلة الثانية للسيطرة والمعتمدة حاليا فتتم عبر دفع المواطنين إلى الاستسلام لقاعدة أنه لا فائدة ترتجى ولا أمل في التغيير، وذلك من خلال السير على نهج النظام السابق، بل وإعادة إنتاج سياساته وحتى طريقة تفكيره البائسة بشكل مذهل وصادم. ومن يرصد ما يجري في مصر الآن والطريقة التي تدار بها شؤون البلاد والعباد لابد أن يتساءل عما إذا كانت ثورة عظيمة مرت من هنا؟
الموضوعية تقتضي التأكيد على أن ثمة فارقا جوهريا بين نظام مبارك البائد ونظام محمد مرسي، فالأخير رئيس منتخب جاء عبر شرعية الانتخابات وفي أعقاب ثورة شعبية رائعة، قدم فيها المصريون دماء زكية من أجل نيل حريتهم واسترداد كرامتهم التي أهدرها النظام السابق. لكن هذا الفارق المهم يفقد قيمته حين يسعى النظام الجديد لاستنساخ ممارسات النظام القديم، في العناد والمكابرة والاستعلاء على شركائه في الوطن والثورة، وانتهاج نفس الاساليب القديمة لإقصاء خصومه السياسيين والتنكيل بهم. كانت وربما لاتزال أمام الرئيس مرسي فرصة هائلة لدخول التاريخ من أوسع ابوابه، لو أنه نجح في قيادة الوطن نحو تحول سياسي واجتماعي يغير وجه مصر، مستندا إلى توافق وطني يبنى على القواسم المشتركة ويحاصر الملفات الخلافية ويفتح الطريق أمام كل الطاقات، وعلى رأسها الشباب الذي فجّر الثورة، لإعادة بناء مصر على أسس وقواعد جديدة بدلا من محاولة إنتاج القديم وترقيعه بصورة بالغة الرداءة والسوء. قد يقول قائل إن الرجل لم يمض في سدة الحكم سوى اشهر قليلة وورث تركة ثقيلة من الخراب والفساد في كل ربوع الدولة، وواجه أطرافا عديدة تحاول وضع العراقيل في طريقه وتسعى جاهدة لإفشاله. ربما يكون هذا الكلام صحيحا في عمومه لكن أحدا لم يطلب من الرئيس مرسي أو جماعة الاخوان أن يحققوا المعجزات، بل كان كل المطلوب منه أن يقدم ما يؤكد رغبته الصادقة في تحقيق المصالحة الوطنية ولملمة شتات المشهد السياسي المنقسم، لكنه لم يفعل بل إن ما حدث هو العكس تماما عبر سياسات وقرارات انحازت بوضوح لمنطق الأهل العشيرة والجماعة وعمقت الانقسام في الصف الوطني، وساهمت في تفاقم حالة الاستقطاب السياسي التي يدفع الوطن كله ثمنها الآن. لقد وضعت الأقدار أمام الرئيس مرسي فرصا عديدة لإعادة التوافق الوطني وتجاوز حالة الانقسام تلك بدءا من تأجيل الانتخابات البرلمانية عقب قرار المحكمة الدستورية ببطلان بعض مواد قانون الانتخابات، ووصولا للتعديل الوزاري الأخير، لكنه لم يستغل أيا منها وتركها تفلت من بين يديه. وإذا كان الرئيس وجماعته يتهمون معارضيهم بالمكايدة السياسية فان النظام اعتمد سياسة المعاندة في وجه كل مطالب قوى المعارضة، رافضا الاستجابة لأي منها ماضيا في طريقه كقطار سريع بلا توقف. ليس أدل على ذلك سوى ما صرح به أحد قيادات الاخوان في تبريره لعدم تغيير رئيس الوزراء هشام قنديل وحكومته، رغم أدائها المتدني، إذ قال لا فض فوه ‘حتى لا تتعود المعارضة على أن تطلب تغيير مسؤول فيتم تغييره’. مثل هذا التصريح يكشف بوضوح الذهنية التي تحكم جماعة الاخوان والنظام الحاكم، فالعبرة ليس في أن الحكومة الحالية لم تفلح في تحقيق إنجازات حقيقية على الارض تلامس الحياة اليومية للمصريين، رغم وجود بعض الوزراء الاكفاء داخل الوزارة، الذين حققوا نجاحات لا بأس بها، ولا العبرة في أن مطلب تغيير قنديل وحكومته أمر تفرضه مقتضيات الظرف السياسي الراهن وتتوافق عليه غالبية القوى السياسية، بما فيها بعض قيادات الاخوان وحلفائهم المقربين، ولكن العبرة عند الإخوان هي أنه طالما أن المعارضة تطالب بذلك فلابد من التمسك به والاصرار على بقائه حتى لو كان ذلك على جثة الوطن كله. طريقة التفكير تلك تظهر بوضوح أن هذا النظام لا يسعى فقط لإعادة إنتاج ممارسات نظام مبارك، بل إنه يستدعي حتى طريقته في التعاطي مع خصومه السياسيين، التي كانت تقوم على العناد من أجل العناد لإثبات أنه الأقوى والقادر على اتخاذ القرار الاصوب للشعب، وقد دفع ثمنا فادحا لسياسة العناد تلك.
إعادة إنتاج الاستبداد في ظل النظام الحالي لا تقف عند باب المعاندة والاستعلاء، لكنها تنسحب لتشمل ممارسات أكثر خطورة تتمثل في تصاعد الانتهاكات والممارسات القمعية للأجهزة الأمنية التي عادت لسياساتها القديمة في التنكيل والقمع مستندة إلى تشجيع ودعم على ما يبدو من النظام الذي ضبط مرارا وهو يغض الطرف عن تجاوزات الشرطة والأمن ضد المصريين، طالما انها استهدفت خصوم ومعارضي النظام بدعوى أنهم مشاغبون وخارجون على القانون، ويستخدمون العنف في معارضتهم للنظام . التطور الأخطر الذي برز في الأيام الاخيرة كان في الاستهداف الممنهج للناشطين البارزين من شباب الثورة وملاحقتهم من قبل أجهزة الأمن والقضاء. خطورة هذا التطور لا تكمن فقط في أنه يمثل انقلابا كاملا من قبل النظام على شباب الثورة التي بفضلها يجلس مرسي في سدة الرئاسة، أما الأكثر خطورة فهو أن هذه الممارسات تهدف بوضوح لكسر إرادة هؤلاء الناشطين وإطفاء جذوة الثورة في قلوبهم ودفعهم دفعا لليأس والإحباط، ومن ثم الاستسلام لنظام الإخوان. لكن الجديد في الممارسات التي يستخدمها النظام الحالي التنكيل بمعارضيه والزج بهم في المعتقلات، فهي أنه إذا كان نظام مبارك قد استخدم وزارة الداخلية واجهزة الأمن لاعتقال خصومه، فان نظام مرسي يستخدم النيابة العامة وما يسمى نيابة حماية الثورة للغرض ذاته، من خلال الحبس الاحتياطي المتكرر الذي يصل لستة اشهر للناشطين والمعارضين من دون محاكمة، وما يترتب على ذلك من إنهاك وإرباك للناشطين السياسيين.
اختلفت الوسائل إذن لكن بقيت ممارسة القمع والاستبداد كما هي دونما تغيير. المحزن في هذا الأمر أن عودة هذه الممارسات التي تنال من كرامة المصريين وحريتهم تتنافي بشكل فاحش مع أهم مطالب وشعارات الثورة عن الحرية والكرامة الإنسانية وفي ظل نظام يتشدق ليل نهار بالثورة وأنه جاء ليستكمل أهدافها.
عودة الشرطة وجهاز الامن لممارساته القمعية القديمة وتحت غطاء ودعم سياسي من النظام، تطرح شكوكا عميقة بشأن حديث النظام عن إصلاح وهيكلة هذا الجهاز والمقصود منه، بل إنها ربما تدعم وجهة نظر المعارضة التي تقول إن النظام لا يريد إصلاح جهاز الأمن، بل يسعى للإبقاء عليه مع تحويل بوصلته من دعم نظام مبارك لدعم نظام مرسي دونما تغيير. كما تكشف هذه الممارسات عن أن قطاعا كبيرا في جهاز الشرطة لم يستخلص الدروس والعبر من أخطاء الماضي ويبدو مستعدا لخدمة السيد الجديد، كما كان يخدم مبارك، بل إن هذا القطاع يبدو راغبا بشدة في ذلك طالما أن أدواته القمعية ستصوب لشباب الثورة مدفوعا بروح ثأرية ورغبة في الانتقام من هؤلاء الشباب الذين اسقطوا ببسالتهم الرائعة دولة الخوف إلى الأبد.
التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية تتحدث عن مئات المعتقلين في صفوف الناشطين، ومن بينهم طلاب وحتى تلاميذ لم يتجاوز عمر بعضهم ستة عشر عاما. واللافت هنا هو الطريقة التي يتم بها اعتقال هؤلاء من خلال قوات هائلة تقتحم البيوت فجرا في عودة لظاهرة ‘زوار الفجر’ وفي محاولة لفرض أجواء من الارهاب والخوف على شباب الثورة وردعهم عن التفكير في التظاهر او الخروج على النظام مجددا. ولا يقف الامر عند هذا الحد بل يتجاوزه لأماكن احتجاز بعض هؤلاء الناشطين فيها، إذ كيف يمكن تفسير احتجاز الناشطين في سجن العقرب وهو أحد اشد السجون حراسة وأكثره سوءا من حيث الخدمات المقدمة للسجناء، في حين أنهم رهن الحبس الاحتياطي لم يدانوا بعد. ليس هناك تفسير سوى أنها محاولة لكسر إرادة هؤلاء الشباب ودفعهم لليأس والإحباط. المفارقة هنا هي أن النظام يقمع شباب الثورة عبر ما يسمى نيابة حماية مكتسبات الثورة التي أنشأها مرسي عقب الاعلان الدستوري الذي قسّم المصريين. أما المحزن حقا فهو أن الاخوان الذين ذاقوا مرارة القمع والتنكيل والمعتقلات عبر عقود، يعيدون إنتاج هذه الممارسات بعد أن وصلوا للسلطة، ويكررون ما كان يفعله نظام مبارك معهم ومع غيرهم من خصومه السياسيين. لكن الأكثر إثارة للحزن والسخرية معا هو أنه كلما سئل الرئيس مرسي عن شباب الثورة ودورهم كان يجيب بأن هؤلاء الشباب ‘في عيني وقلبي’، لكنني أقول لمرسي إن بعض هؤلاء الشباب لم يعودوا في عينك ولا في قلبك بل في معتقلاتك يا سيادة الرئيس.

‘ كاتب وصحافي مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية