التقديسان: يحلو لكثيرٍ من الأدباء والنقاد الحديث عن الشكل والمضمون، فيأخذ بعضهم على بعض النقاد العناية بمضمون النص الأدبي، والوصول به إلى مرتبة التقديس، ويأخذ بعضهم الآخر على نقاد آخرين العناية بشكل هذا النص والوصول به إلى مرتبة التقديس نفسها، ووضع ترسيمات يكون فهمها أصعب من فهم النص نفسه، إضافة إلى استظهار تنظيرات لأسماء منظرين غربيين تصر عن انبهار، وتهدف إلى أبهى.
الصدور عن منظور قاصر…
والواقع أن كلا الاتجاهين ينظر إلى النص الأدبي من منظور غير قادر على إدراك حقيقته، ذلك أن هذا النص ليس مضموناً وشكلاً منفصلين، يمكن التحدث عن أحدهما بمعزل عن الآخر، وبوصفه كائناً مستقلاً، فالنص كل متكامل، يتألف من مكونات ـ عناصر تنتظم في نظام علاقات بنية أدبية تنطق بدلالة كاشفة. لنفرض أن المكونات ـ العناصر المنتظمة في نظام علاقات بناء كلي هي الشكل، وأن الدلالة هي المضمون، فالمتلقي لا يستطيع أن يتبين الدلالة/المضمون إن لم يعرف المكونات ونظام العلاقات المنتظمة فيه حق المعرفة، أي ينبغي أن يصفها ليعرف ما تنطق به من دلالة، فالمادة اللغوية المتشكلة من منظور معين، تتخذ الشكل الذي ينطق برؤية هذا المنظور إلى العالم، فالمنظور الذي تلده التجربة الحياتية الأدبية هو الذي يشكل النص الأدبي، سواء أكان ذلك التشكيل واعيا أم لاواعيا، وفاقا لطبيعة التجربة. فالشكل هنا هو شكل المنظور/الرؤية، الذي لا نستطيع الفصل بين عناصره إلا على سبيل تسهيل عملية إنتاج معرفة بالنص، المتكونة من إجراءات منهجية.
حقيقة النص الأدبي
وإن عدنا إلى عملية الإبداع ورأينا كيف تتم، لعرفنا حقيقة النص الأدبي، ففي هذه العملية تحكم الرؤية الفريدة – المنظور التي تمليها التجربة تشكل البناء اللغوي، وتكون شرطه المكون، وهذا يعني أن ينبثق البناء اللغوي من التجربة المكونة رؤية، وأنْ تكون عناصر هذا البناء في علاقة عضوية في ما بينها، مثل علاقة النسغ بالغصن. ويمكن إيجاز ما يتميز به البناء الأدبي الأصيل بميزتين: الميزة الأولى، وحدة بنيوية بين ماذا نرى؟ وكيف نرى؟ وهذه وحدة نشوء، أي يكون السؤال الأول شرط تكون الثاني، والميزة الثانية، نشوء نظام من العلاقات بين عناصر البناء عضوي يشبه علاقة العطر بالزهرة، أي توظف العناصر جميعها في نظام علاقات يرشح بالعطر، بالدلالة.
دراسة النص الأدبي
وإن كان من دراسة جزئية لهذا المكون، أو ذاك، فهذا ليس دراسة لا للمضمون ولا للشكل، وإنما هو دراسة لهذا المكون، من حيث هويته وموقعه في نظام العلاقات، ودوره في إنتاج فاعلية هذا النظام الجمالية الدلالية. فلو أردنا، على سبيل المثال، دراسة المدينة في رواية معينة، أو في عدد من الروايات تنتظم في مجموعة ما، فإن هذه الدراسة ليست دراسة في المضمون، لأن المدينة عنصر من عناصر المكان/الفضاء الروائي، وهذا مكون أساس من مكونات البناء الروائي. كما أن هذه الدراسة ليست دراسة في الشكل، لأن هذا العنصر، يتخذ، بوصفه مكوناً ذا هوية محددة، موقعاً في البناء الروائي يؤدي منه دوراً/وظيفة في إنتاج الفاعلية الجمالية الدلالية. وهكذا لا يمكن الفصل بين هوية مكون من مكونات نظام العلاقات وموقعه ودوره/وظيفته في إنتاج فاعلية النص الجمالية الدلالية، فما يسمى المضمون في النص الأدبي هو مضمون جمالي، وليس مغزىً أو معنى مجردين.
يرى بعض الأدباء أو النقاد أن هذا الكلام يصدق على الرواية، أو على الشعر الحديث، ولا يصدق على جميع النصوص الأدبية. وفي رأينا أن هذا الكلام يصدق على جميع النصوص، خاصة النصوص الأدبية، الصادرة عن منظور إلى العالم، لتنطق برؤية إليه.
الشعر الجاهلي والمضمون ـ الشكل الجمالي
وقد يرى بعض الأدباء أو النقاد أن هذا الكلام يصدق على الرواية، أو على الشعر الحديث، ولا يصدق على جميع النصوص الأدبية. وفي رأينا أن هذا الكلام يصدق على جميع النصوص، خاصة النصوص الأدبية، الصادرة عن منظور إلى العالم، لتنطق برؤية إليه. وليكن مثالنا على ذلك مثالاً غير متوقع، وهو الشعر الجاهلي، أو المعلقات على سبيل التحديد. تبدو نصوص هذا الشعر مفككة في نظرة أولى سريعة، أو نظرة سطحية، كررها كثير من النقاد، والحقيقة هي أن هذه النصوص تصدر عن منظور كونته تجربة العيش في العصر الجاهلي، ومفاده سعي الإنسان الجاهلي إلى مقاومة الموت، والبقاء واقفاً، ومنتصراً في ظروف حياتية تهدده بالفناء، ولذا كانت جميع مكونات القصيدة تنتظم في وحدة محورها الشاعر ـ الفارس القوي القادر. وعلاقته بأشياء عالمه تتحدد من حيث جدواها له ولبقائه منتصراً وواقفاً غير منحن، فهذه الأشياء، جميعها، وسائله لهذا البقاء، من ناقة قوية وحصان جواد وامرأة جميلة وخمرة صافية… وسيف قاطع… وإن كان من مبالغة، في هذا الشأن، فهي عنصر دال على السعي للإحساس والاقتناع بامتلاك القوة الكافية للانتصار على من وما يهدده بالفناء. وهو إنما يفخر ليُرهب ويُخاف، ويعلم الآخر مدى قوته، وليعتقد هو شخصياً بذلك، ويهجو ليثبط من عزم الآخر ويضعف ثقته بنفسه… إن أشياء عالمه هي أشياؤه التي تجعله فارساً. واللافت أن رواية معاصرة تؤكد هذا، ففي رواية «لا تنبت الجذور في السماء» ليوسف حبشي الأشقر، يقول إسكندر المهدد بالقتل من إحدى ميليشيات الحرب اللبنانية: «إنك عندما تصل إلى المرأة كوسيلة، أو كعذر، تكون رجلاً».
رأى الشاعر الجاهلي إلى عالمه من هذا المنظور، وتمثلت رؤيته في بناء شعري ينطق بها، علاوة على أنه يؤدي الوظيفة نفسها، وهي البقاء في الأذهان والصدور، ومقاومة الفناء، فالتجويد الممتد حولاً كان من أجل فرض حفظ الشعر على الرواة، وإلا ما كانوا ليحفظوه لو لم يكن جيداً، والجَرْسُ العالي للمعجم اللفظي كان من أجل إسماع الخطاب، والوضوح كان من أجل سرعة فهم الخطاب، وكذلك كانت بساطة تركيب العبارة، ووحدة البيت، أو الشطر، إنما كانت من أجل أن يبقى لهذا البيت أو الشطر وجود، ولو فُقِدَت القصيدة، كلها ونسيتها الذاكرة. والبنية التي تبدو مفككة، من منظور من يبحث عن الوحدة الموضوعية في الشعر، تتمثل فيها وحدة من نوع آخر هي الوحدة التي تحدثنا عنها آنفا، أي وحدة النشوء والتشكل البنيوي، وفي النص الشعري كما هو معروف لا نبحث عن وحدة موضوعية.
إنها مقاومة للفناء في فضاء الصحراء حيث الشفوية والحروب… أي حيث فُقِدَ التدوين واحتمال فقد الرواة، وبغية مقاومة هذا الفقد، كانت القصيدة الأنموذج تتضمن رؤية إلى تجربة العيش كاملة، مبتدئة بالطللية، التي تملي التداعيات، المرتبطة بالرحيل الدائم صوب الغيث في بيداء موحشة خطرة.. في هذه البيداء كان الشعر ذا وظيفة في البناء المجتمعي، ينطق بالرؤية التي تتيح للجاهلي أن يبقى في حالة تأهب دائمة، كما يقول الشاعر:
إذ لا أزال على رحالة سابح
نهدٍ تعاوره الكماة، مُكلم…
إنتاج معرفة جمالية دلالية
إن هذا إلا مثال، عرضناه سريعاً، وهو يؤكد أن مقاربة أي نص ينبغي أن ترى إليه بوصفه كلا متكاملاً، لا ينفصل فيه المضمون عن الشكل، ولا يعزل فيه عنصر عن آخر. وهذه الرؤية، في تقديري، هي التي تتيح لنا إنتاج معرفة جمالية دلالية بالنصوص الأدبية، تمكننا من كشف الظواهر الأدبية ووصفها، وكتابة تاريخ حقيقي للأدب، يقوم على أساس نقد حقيقي للنص بوصفه كلا متكاملاً، من دون أي تقديس لا للمضمون ولا للشكل؛ إذ لا وجود لأي منهما منفرداً في النص الأدبي، فالشكل هو شكل المنظور/الرؤية والمضمون هو الرؤية/المعرفة الجمالية.
كاتب لبناني