النقد الأيديولوجي والأدب

حجم الخط
0

في كثير من الأحيان، تخرج رؤية الكاتب للواقع على شكل بوح واعتراف دفين بالألم، وإحساس سادر بالمهانة والضعف والهزيمة. وفي ذلك، إطلالة من عل على دواخل الكاتب، وما يشعر به تجاه ذاته المبدعة، وتجاه الآخرين أي: القراء. وإذا ما ربطنا هذا الفعل بالمواقف والقناعات، نجد أن البعد الأيديولوجي، في النقد، يحتل مرتبة أساسية، بل يهيمن بشكل فعلي وكلي على الباحث والدارس للمتن، بهدف استبانة هذه العلاقة الغامضة والمبهمة والملتبسة، التي تجمع بين المبدع وما يحيط به.
فأي قراءة تبتغي الإمساك بجوهر الإبداع، لابد أن تقارب، ضمن استراتيجيتها ومنهجيتها الشاملة نسق الأفكار، التي تستحوذ على الكاتب، ومدى تأثيرها في المنجز النصي. وتكون الإجابة على سؤال من قبيل: ما الظروف التي ساهمت في إنتاج هذا النص؟ أو ما النصوص الغائبة أو المهاجرة إلى هذا الإبداع أو ذاك؟ كفيلة بأن نضع اليد على الخيط الأيديولوجي، الذي يساعد على فهم ما يحيط بنا، أكثر فأكثر، من أفكار ومعلومات.
أبلغ من ذلك، فالقراءة الأيديولوجية، في هذا المستوى، حسب عبد الله العروي، ترمي إلى التعبير عن الغاية، التي يتوسل إليها الكاتب، انطلاقا من عناصر متعددة يتشكل منها الإبداع. فضلا عن أنها طريقة مثلى في التفكير، تساعد الإنسان على فهم الظروف المحيطة به اعتمادا على خلفياته المعرفية، وما يحصل عليه من معلومات. وفي ظل ذلك يتمأسس الإبداع على ثوابتَ مقننة، يرمي إلى فضح واستجلاء الغامض، وتفسير الظواهر في التجربة الإبداعية.
إن البعد الأيديولوجي، في دراسة الأدب، كان ولا يزال بمثابة قوة ضاربة وقاسمة للفكر الخرافي والأوهام، التي كان يتخبط فيها الإنسان؛ ويعيشها ملء جوانحه. ونتيجة لذلك، تأسس الفكر الأيديولوجي، وأرسى دعائمه المفكر والفيلسوف الفرنسي أنطوان دي تريسي؛ ليقطع الطريق، نهاية القرن الثامن عشر، أمام الخرافات والمبررات الميتافيزيقية، التي تشل الفكر الإنساني. فدخل دي تريسي في دوامة من الصراع مع الكنيسة، التي كانت بدورها تحارب الفكر الفلسفي، وروافده الثقافية والمعرفية بدعوى أنه ـ أي الفكر الفلسفي ـ يغذي الفكر الشيطاني ضد البشر.
وبانتقالنا إلى الفكر العربي، نجد أن النقد الأيديولوجي، للظواهر الأدبية والثقافية، جاء مغلفا بأحداث تاريخية مهمة، أثرت بشكل مباشر في وعي الإنسان العربي بقيمة الزمن؛ ومدى تأثيره في بناء نسق الأفكار. إن لتدمير المغول لبغداد، معقل الخلافة العباسية في الشرق العربي، وانهيار الخلافة العثمانية، أثرا بليغا في تشكيل وعي عربي بخطورة المرحلة الاستعمارية، التي تخترق الوطن العربي، خصوصا بعد انزياح الرجل المريض من على الخريطة السياسية في الشرق والغرب العربيين. ففي كتاب «مفهوم الأيديولوجية» لعبد الله العروي الصادر سنة 1993، أشار فيه إلى أنه من الضروري اعتماد طريقة علمية في التفكير، وتفسير الظواهر. ومن ثم فسح المجال للنقد الأيديولوجي؛ كي يشتغل على ظواهر أدبية ذات حمولة فكرية عميقة. بهدف فهم الواقع السياسي، والوضع الاجتماعي، اللذين يشلان عجلة التقدم من الدوران، على حد سواء. وعلى أساس ذلك، جاء مارون الخوري ليفسر الأطروحات الفكرية، التي تأسست عليها النهضة العربية، وبول سالم ليربط بين الفكر الأيديولوجي وتقدم العرب.

النقد الأيديولوجي، للظواهر الأدبية والثقافية، جاء مغلفا بأحداث تاريخية مهمة، أثرت بشكل مباشر في وعي الإنسان العربي بقيمة الزمن؛ ومدى تأثيره في بناء نسق الأفكار.

في المغرب، تعتبر إبداعات محمد زفزاف، في القصة القصيرة، أكثر استيعابا وتمثلا للنقد الأيديولوجي، لما تزخر به قصصه من ظواهر اجتماعية ملفوفة بعناية في دثار سياسي متين. ففي أضمومة «العربة» لمحمد زفزاف، التي نشر طبعتها الثانية سنة 1993، تطالعنا عناوين تغري بالغزو حسب باشلار. إلى جانب قصة «أطفال بلد الخير» التي اعتبرتها، من زاوية بنائها الكاسر، ظاهرة المجموعة بكل المقاييس، نجد قصصا أخرى، لا تقل أهمية من حيث التمثيل الأيديولوجي للواقع المغربي المعاصر، من أمثال: الكناس، سردين وبرتقال، عربة النساء، النباش، عندما يصير الرجل حمارا، ومظاهرة، وغيرها من القصص الأخرى…
في «العربة» المجموعة القصصية لمحمد زفزاف، نجد سيولة أيديولوجية مرنة، تعرّي واقعا موبوءا ومتعفنا، نظرا للتهميش والحرمان الذي تعيشه أغلب شخوص هذه المجموعة. فالعربة رمز للطبقة الكادحة، التي تتعب من أجل لقمة العيش. إلا أنه، وعلى غرار ذلك، تفاجئنا قصة «أطفال بلد الخير» بسمفونية جديدة، ومتفردة في بنائها، لا على مستوى الأدب الذي تطمح إليه، ولا على مستوى الحبكة القصصية، التي اعتمدها زفزاف، وهو يخط هذه القصة الفريدة.
تحكي قصة «أطفال بلد الخير» عن «الضاوية»؛ المرأة المغربية المقاتلة. ومن أجل توفير لقمة العيش لوليدها، تبيع الضاوية البرتقال في ساحة متربة خلف الفيلات وأمام الحي الشعبي. فهي ترعى طفلها من طليقها، في ما هو ظل متواريا وسلبيا في كل مراحل القصة. فالبيع في الساحة المتربة، خلف الفيلات، يفضي بالضاوية إلى أن تدخل في معركتين حاميتي الوطيس على واجهتين؛ الواجهة الأولى مع أطفال جياع خلفها، يتوسلون ابنها بأن يرمي لهم بعض البرتقالات المتعفنة؛ كي يسدوا بها جوعهم ورمقهم. بينما الواجهة الثانية مع سلطة تطارد الباعة المتجولين في الأزقة والشوارع والساحات العمومية؛ وهو ما سماها محمد زفزاف بمعركة ربع ساعة. فالسمفونية، التي تخيط القصة من بدايتها إلى نهايتها، جاءت على لسان الضاوية «ها الخير زيدوا ها الخير». يقول محمد زفزاف في قصة «أطفال بلد الخير»:
« ـ الضاوية. أريد برتقالة. أنا جائع.
ـ ها الخير! زيدوا ها الخير!
ـ أريد برتقالة.
ـ يا ابن الكلبة. ألا تحشم؟ منذ الصباح وأنت تأكل. الليلة سوف تتقيأ مصارينك. ركلته بقدمها، فسقط أرضا، وابتعد عنها بحوالي متر. استمرت هي:
ـ ها الخير! زيدوا ها الخير!»
فالقراءة النقدية، ذات الصبغة الأيديولوجية، تقضي بأن البلد يعاني الفقر والهشاشة؛ متضررا من إهدار ثرواته، دون أن تصل إلى الطبقات الكادحة، ما سبب خللا في سوء توزيع موارده الطبيعية. ونتيجة لذلك، ظل أطفال جياع خلف الضاوية يتحرشون بابنها، ليغدق عليهم ببعض البرتقالات المتعفنة، أو بما جادت به هذه الأرض السخية. وبالموازاة مع ذلك، فبنية التناقض حاضرة في حكي محمد زفزاف، بما هو تناقض مسجور بسخرية لاذعة، تعري واقعا موبوءا، ينتظر رجة التغيير في اتجاه القضاء على كل مظاهر الفساد، الذي يحول دون أن يأخذ القطار سكته الحقيقية.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية