في الخريطة النقدية الأدبية العربية الآن، ما يدل على أن نقدنا الأدبي يمر بأزمة حقيقية. ولعل القارئ العربي، بمكنته أن يلاحظ بسهولة فائقة، أن ما يقرأه أحيانا، باسم النقد، من مقالات ودراسات، هي أقرب إلى أي شيء آخر إلا النقد.. النقد بما هو خوضٌ للعمل الأدبي، بفكر نقدي، ووعي به، وبمدخلات معالجته ومدارسته. فثمة إشارات قوية تدل على أن أعطاب وفتوق النقد العربي كثيرة، إلى درجة الأزمة، التي جعلت هذا النقد في جهة، والإبداع الأدبي في جهة أخرى. وسأقف في هذه المقالة عند بعضٍ منها بما يسمح به المقام.
أولاً ـ النقد الإخواني
نتصور اليوم، أن النقد العربي، قد أصبح، بما لا يمكن للعين الفاحصة أن تخطئه، إخواني النزعة، بدرجة كبيرة، ذلك أنه أضحى يعتمد في الأساس، في انتقاء النصوص واختيارها، على الصداقات والعلاقات والهبات، دون النظر إلى قيمة العمل الأدبي في ذاته. أمرٌ كهذا، يفتح المجال واسعا، أمام الرداءة والتفاهة، في أغلب الأحيان، باسم الأدب والإبداع. فكم من النقاد اليوم، لا يقرؤون النصوص الجديدة الجيدة، ولا يواكبون ما ينشر ورقيا وإلكترونيا، من أعمال ونصوص تستحق الرعاية والاهتمام النقديين، لكننا نجد أسماءهم حاضرة في الساحة النقدية باستمرار، والحال أنهم لا يستمرون إلا بالكتابة عن أصدقائهم وصديقاتهم. إنهم بصنيعهم هذا، يتحولون إلى دمى تكتب تحت الطلب. والحاصل هو أن هذا السلوك غير المبرر، ساهم في قسط وافر، في تأزيم الواقع النقدي العربي إلى حدّ إفساده. إننا بهذه الاتجاهات النقدية الإخوانية، التي انتشرت كالفطر، وأصبحت، من ثم، سلطة نقدية تهيمن على مشهدنا النقدي العربي، نخسرُ نصوصا عظيمة، قد تغير مجرى النهر، الذي كان من المفروض أن يجري في اتجاه خدمة الأدب العربي، إبداعا ونقدا ونظرا.
إن النقد الإخواني، نقدٌ هدام، لأنه يهتم بالأسماء قبل النصوص، علاوة على أنه نقدٌ يقوم على العشوائية والاعتباطية، لأن منطلقه، ليس النص في ذاته، وإنما المحاباة والمجاملات (صالونات الصداقات) الشيء الذي جعل الفاعلية النقدية الحقة، تبدو شبه غائبة. إنه نقد يُنتج شبه مقالات نقدية ضعيفة، بأحكام جزافية، وآراء ذاتية لا سند لها.
ثانياً ـ النقد الانتقامي
ظاهرة جديدة أخرى، بدأت تطفو على السطح، بشكل لافت، تتمثل في ما أسميه بالنقد الانتقامي، الذي ساهم بقسط كبير، في تأزيم النقد العربي. وهو نقد يقوم على تصفية الحسابات بين المبدعين، في مجالات الأدب، من خلال النقد المأجور الذي يسعى إلى تشويه بعض الأعمال القيمة، وكذا التعسف عليها دون حق، فقط لأن ناقدا ما، وبإيعاز من شخص آخر، لأسباب ذاتية، يحاول إضعاف هذا العمل أو ذاك، على الرغم من قيمته الفنية والجمالية. إن هذا النوع من النقد، وهو كما يبدو، يسير على الجهة المناقضة للنقد الإخواني، مطبٌّ آخر في النقد العربي، وقد انتشر، للأسف، بشكل كبير داخل ما يصطلح عليه بالنقد الصحافي، الذي يمتلك، قاعدة واسعة من القراء، من شأنها، بهذا السلوك، أن تغذي ذائقة أدبية فاسدة.
ثالثاً ـ المنهج قبل النص
إن بعض ما يُكتب، باسم النقد، لا يذهب إلى النصوص، في ذاتها، ولا يحتكم إليها، في الغالب، ما يجعلها، كما يقول صلاح بوسريف «بلا أثر، وبلا حجة، وأخطر ما يشينه، هو أنه نقد بلا ذائقة شعرية». فكيف يمكن لناقد يباشر النص، ويخوض فيه، بنتائج وخلاصات جاهزة مسبقا، أن يصل إلى نتائج جديدة، علما أن القاعدة تقول، إن المنطلقات نفسها لا تعطي سوى النتائج نفسها. وبذلك فإن الناقد وهو يفرض على النص، إجراءات منهاجية جاهزة، دون اعتبار لطبيعته، يُحوّل العملية النقدية إلى مجرد تمرين ليس إلا. تمرين له الفرضيات والمنطلقات نفسها، والخلاصات نفسها، وبالطبع النتائج نفسها. إنها فروض تصلح، في نظر هذا الناقد، لكل الكتابات الأدبية بشتى صنوفها، علما أن بين نص وآخر، مسافات تجعل النصوص، أحيانا، مختلفة تماما، من حيث هويتها وكينونتها، حتى لو كانت تنتمي إلى الجنس الأدبي نفسه.
إن النقد الذي لا يتلجلج، وهو يباشر عملية التحليل والتشريح، نقدٌ نأى بنفسه عن النقد نفسه، نقدٌ مشلول وغائب، لأنه غيب النص تماما. وهذا لعمري تضليل للقارئ، ما دامت الخرائط التي يقدمها، هي عكس ما يقوله النص. وأيضا، فإن الاقتصار على المناهج النقدية المستوردة من الغرب، من بنيوية وأسلوبية وتفكيكية وغيرها، أصبحت تحدُّ من قراءة النص العربي الذي أُنتج في سياق ثقافي خاص، إن لم أقل، تقتله أحيانا. فلا غرو في أن النص العربي اليوم، أصبح أكثر انفتاحا، بما يتوالج في داخله من رموز ودلالات تحتاج إلى قراءة ثقافية جديدة تُعيدُ له الاعتبار.
رابعاً ـ غياب فكر نقدي
ليس من شك في أن اعتماد نقدنا العربي، لعقود طويلة، على مناهج ذات طبيعة خاصة، دون العمل على تكييفها وتبيئتها مع خصوصية الثقافة العربية المنتجة لهذه النصوص، جعل النقد العربي اليوم أمام نوع من الانحباس، بحيث أن الأفق النقدي العربي، لم يعد قادرا على مواكبة التطور الحاصل في دواليب الإبداع العربي، في شتى أنواعه. هذا يدل على أن هناك قصورا منهاجيا، يمنعنا من التطور، كنقاد، بحيث أننا لم نعد قادرين، أمام هذه الأزمة، على الاجتهاد والمبادرة، من أجل تجاوزها. والحق أن السبب في هذا القصور، يتجلى في غياب فكر ووعي نقديين عند بعض النقاد. أقول بعض النقاد، لأن هناك، في الحقيقة، من يمتلك هذا الوعي، ويجتهد ويطور آليات التعامل مع النص الأدبي، بما تقتضيه ظروف المرحلة. إن غياب الفكر النقدي، عند بعض النقاد، ناجم في الأساس عن افتقارهم للمشروع النقدي، وعن عدم وعيهم بما يقومون به، أو بما هم مقبلون عليه. فتجد الواحد من هؤلاء، يتخبط بين البنيوية تارة، والسميائيات تارة ثانية، والأسلوبية تارة ثالثة.. دون وعي بهذه المناهج، ولا بطبيعة النص الذي هو بصدد معالجته أو مدارسته.
خامساً ـ غياب النقد التفاعلي
في أواخر الألفية الثانية، وبداية الألفية الثالثة، بدأ الأدب، في العالم العربي، يخترق عالما جديدا عرف باسم القارة السادسة، نحو أدب جديد، سمي بالأدب الإلكتروني (هناك اختلاف بين المنظرين في تسمية هذا الأدب) في الوقت الذي ظل فيه النقد غائبا عن هذا التطور الكبير، لأن آليات استقبال هذه النصوص، قد تغيرت، رأسا على عقب، فيما نقدنا العربي، ما يزال حبيس المناهج النقدية التي أصبحت متقادمة، بسبب عدم قدرتها على مباشرة هذا الأدب التفاعلي، بما يلزم من الدقة. إلا أنه وللأمانة، نستثني، في ذلك، بعض المحاولات الجادة، لنقاد متمرسين، وذوي فكر ووعي نقديين. لكنها، على كل حال، تبقى، لحدود الساعة، محاولات يتيمة وخجولة، هي في حاجة ماسة إلى دعم وتعميم.
سادساً ـ دور النشر وغياب النقد
وعطفا على ما سبق فإن منسوب أزمة النقد العربي، يرتفع أكثر، بسبب بعض الناشرين الذين لا يهمهم، في عملية نشر الكتب النقدية، سوى الربح، حيث إننا نجد مديري بعض دور النشر، يطلبون من بعض النقاد، وقد أصبحوا معروفين، الكتابة عن هذا الكتاب أو ذاك، لا لشيء سوى لان الكتاب هو لكاتب مُقرّب، أو لأن القارئ البسيط، استحسنه حتى إن كانت قيمته العلمية، لا تفوق قيمة كتب الطبخ، التي تباع وتستهلك أكثر من الكتب الإبداعية والنقدية نفسها. علاوة على ذلك إن هذه الدور، وهي تنشر منشوراتها النقدية، لا تحتكم إلى القيمة العلمية للكتاب، بقدر ما تحتكم لمنطق الربح والخسارة ، لأن أغلبها، بعيدا عن أي تعميم، لا تتوفر على لجن للتقييم والتحكيم. وهذا موضوع آخر، قد نعود إليه في مناسبة أخرى، لمدى خطورته على الأدب العربي برمته.
جماع القول، إن النقد الذي لا يتفاعل مع المستجدات الحاصلة في الأدب ودواليبه، ولا ينظر إلى الخرائط المتغيرة على الأرض، هو بالفعل نقد غائب، وهذا هو حال نقدنا العربي اليوم مع بعض النقاد، للأسف.
شاعر وكاتب مغربي