الحاجة إلى الدرس النظري تظل قائمة، لتقعيد علمية هذا الدرس، ولصياغة المقدمات التي توسّع مديات المقاربات النقدية، على مستوى توصيف النصوص موضوع الدرس، أو على مستوى استقراء ما في محتواها وفي خطابها. النظر المُجرّد إلى هذه الحاجة ليس بريئا، ولا معقودا بدوافع ثقافية معرفية خالصة، فكثيرا ما بات هذا الدرس خاضعا لتوجهات مُضلِلة، تتجاوز حدود حاجته، وتذهب في اتجاه إخضاع القارئ والدارس إلى مهيمنات وإغواءات استهلاكية وإشباعات رمزية..
هذا الأمر لإشكالي يتطلب مراجعة، وتدقيقا علميا، وبما لا يخلّ بضرورة العلاقة اللازمة بين القيمة النظرية والقيمة الإجرائية، التي نتوخاها في سياق معرفة النصوص، وفي مقاربة اشتغالاتها، ومدى فاعلية علاقتها بالتقانات التي يوفّرها المجال النظري.
البعض، وربما الأكثر من نقادنا يضعون الدرس النظري في سياق متعال، وكأنه الشرط الماكر الذي يُعزز هذا السياق، ويمنح النص المقروء أهلية التعبير عن حيازة قوة المعرفة، وجدوى تمثيله للأفكار المُراد تسويقها أو تسريبها، حدّ أن التقديم النظري، والإسراف فيه سيبدو تضخيما وتجريدا للمعرفة، وبما يجعل وضعها وتوظيفها في السياق الإجرائي محدودا، ومغالبا له، ومتجاوزا عليه، ناهيك من الجَنبةِ الاستعراضية التي يُجاهر بها هذا البعض، على شكل تنصيصات، أو مقدمات تُحرِج أيّ مقاربة إجرائية، أو تجعل من تأطيرها النقدي مُلفَقا ومتعسفا، وربما منقطعا عن فواعل التشغيل النظري ذاته.. لست معنيا بإطلاق أحكام على آلية النقد، وعلى طرائق هذا النقد في توظيف الدرس النظري في هذا المجال أو ذاك، لكني أجد نفسي مهتما بموضوع الفكر النقدي الذي ينبغي التأسيس له، بوصفه مجالا إجرائيا، وعلى أسس معرفية، ينبغي أن تستثمر الدرس النظري في سياق الكشف، والتعرّف والتجاوز، ما يعني جعل هذا الدرس وليد المناهج الغربية، التي نستعملها بإفراط، خاضعا إلى مقاربات تجعل منها وكأنها ارتداء قسري لثياب «الإمبراطور» التي لا تحجب عُريا، ولا تمنح لذة، وربما توحي بأنّ النص النقدي وكأنه مكتوب بطريقة «مُهلهلة» وكولاجية، ولا أثر لها سوى ما تُقدّمه من إغواء، أو من فضح تتفاصح فيه الرثاثة التي يتورط فيها أولئك النقاد، وللأسف بعض الأكاديميين، وتحت يافطة مُضلِلة تتوهم المعرفة والانفتاح، وصولا إلى التأسيس على أطروحات تدّعي أنها تمثل ما يُسمى بـ»النقد الأكاديمي» وهي تسمية إقصائية، وطاردة وغير علمية، لأنّ الدرس الأكاديمي هو مجال للضبط التعليمي والتعريفي، الذي ينبغي أن تتعزز فيه المنظومة المعرفية وفواعل الجهاز المفاهيمي، وبما يساعد الناقد على تغذية جهازه النقدي بالدقة العلمية، ويساعد القارئ على مقاربة الفهم والتلقي بنوعٍ من الوعي المعرفي..
الحديث عن «النقد الأكاديمي» قد يعني التجريد، وقد يعني أيضا العزل المؤسسي من جانب، مثلما يعني فصل عمل الناقد صاحب المخزن النظري عن الجو العام من جانب آخر، وبالتالي سيكون الاحتكام إلى الدرس النظري قسريا وضاغطا، وإلى تسويغ آراء وأحكام تقوم على التسليم بسطوة هذا النقد « الأرثوذوكسي» القار والمحمي، والمُترِاكم بفعل الاستنساخ النظري والاستعمال التدريسي..
توريش العمل الاكاديمي «من الورشة» هو المجال الحر للحركة ولتنمية المعرفة، ولمقاربة التاريخ، في اتجاه فكّ التباسات مخازنه وغموض محتوياتها، لاسيما وأنّ أغلب أطروحات التجديد والتجاوز في العالم برزت من خلال المؤسسات الأكاديمية، وعبر مثقفين وباحثين، أدركوا أن الشجاعة لا تعني التماهي مع أوهام السيد سرفانتس، بل تكمن في المواجهة الحرة.
الأكاديمية والتخصص
كان مدني صالح يقول: أنا لست فيلسوفا، أنا أدرّس الفلسفة. هذا التوصيف الأخلاقي للتواضع العلمي، يجعل العلاقة ما بين الأكاديمي ودرسه وتخصصه، أكثر تعبيرا عن الوعي بالحاجة إلى توصيف الدرس، وإلى تغذيته بما هو جديد، لكي تتحول الإضافة إلى قوة، والسؤال الثقافي فيها إلى حافز يستدعي المعرفة دائما، وبما يجعل من إطار الدرس مفتوحا للتواصل، مثلما يجعل من مادة الدرس محكومة بمدى علاقتها الفاعلة والإجرائية بالنص المقروء، بعيدا عن جعله وكأنه «جثة» للتشريح، وهو ما يناقض أهمية الحاجة الحيوية إلى الدرس النظري، فالنص ليس «جثة» والناقد لا يشتغل في مشرحة، أو في مقبرة، لأنه يتعامل مع عالمٍ من النصوص الحية، ومع أسئلة تنطّ كلما استفزت هذه القراءة، أو تلك ما هو خفي أو مُهمل أو مسكوت عنه في النص..
الأكاديمي قد يكون هو المتخصص والمهني والتقني كما يُسميه رامي أبو شهاب، لكنه أيضا المُعلم الذي يملك سلطة ما للخطاب. هذه التوصيفات لا تعني بالضرورة جعله «ناقدا» بالمعنى المفهومي للعبارة، لأن الناقد كائن معرفي، شكّاك، مُتسائِل، يدرك أهمية التخصص والدرس، ويدرك ـ أيضا- أهمية التجاوز والتعالي وتوظيف الحرية/ أقصد حرية البحث لغرض تعرية النص ومقاربة محذوفاته، التي قد لا تُجيزها المؤسسة الأكاديمية، ولا حتى «العقل الأكاديمي» المؤسسي والمقونن والخاضع إلى مركزيات، تجعل من المنهج دستورا، وتجعل من النظرية غرفة عائلية وليست مختبرا للتجريب والتجدد والتجاوز. مجاورة الناقد للأكاديمي لا تعني تبادلا للأقنعة، بقدر ما تعني تعالقا تحكمه الحرية والمعرفة والقدرة على صناعة الأسئلة، وعلى فكِّ التلاصق ما بين سلطة المؤسسة والعقل المؤسسي، وصورة «المُدرّس» المتمرد الذي عرضه فيلم «جمعية الشعراء الموتى» للممثل روبن وليامز، حيث يتحول التمرد على الوثيقة في كتب الشعراء الأنكلوسكسون إلى خيارٍ واعٍ وصادم ومفارق..
كما أن هذه المجاورة لا تعني الهروب من الوظيفة، ولا إلى تحويل الأكاديمي إلى كائن طائر، بقدر ما تعني زحزحة «الثابت» لصالح «المتحوّل» والعمل على تحويل المؤسسة الأكاديمية إلى ورشة عمل، وليس الإبقاء على طابعها الحكومي أو الاستثماري، كما هو حال الجامعات الأهلية في واقعنا العربي، التي تحولت للأسف إلى ظاهرة غريبة للرسملة الثقافية، ولغسيل الأموال وللترويج للشهادات المزورة..
توريش العمل الاكاديمي «من الورشة» هو المجال الحر للحركة ولتنمية المعرفة، ولمقاربة التاريخ، في اتجاه فكّ التباسات مخازنه وغموض محتوياتها، لاسيما وأنّ أغلب أطروحات التجديد والتجاوز في العالم برزت من خلال المؤسسات الأكاديمية، وعبر مثقفين وباحثين، أدركوا أن الشجاعة لا تعني التماهي مع أوهام السيد سرفانتس، بل تكمن في المواجهة الحرة، وفي نقد سلطة الهيكل، ولعل ما حدث في ثورة 1968 الباريسية، يكشف عن الوجه الآخر لقوة المعرفة، ولأطروحتها في نقد النظام والسلطة والمركزية، وعلى نحوٍ لا يجعل اللعبة محصورة في الدرس فقط، بل في تجاوزه، وفي الثورة عليه، وفي تحويل الجهاز المعرفي إلى جهاز للنقد، ولمواجهة مظاهر الاستبداد، حتى لو كان استبدادا معرفيا.
الترجمة والحرية والتغاير
تُعدُّ الترجمة من أكثر مُغذيات الدرس النظري، فعبرها تعرفنا على المناهج الحديثة، والنظريات الكبرى، وفي مجالات المعرفة والفلسفة والعلوم، فضلا عن دروس النقد في سياقيه الأدبي والثقافي، لذا كان من الصعب معرفة العالم والآخر دون هذه الترجمة، فخيانتها كانت بالنسبة لنا من أنبل الخيانات، وأكثرها أهمية في التلصص على أفكار الآخرين، وحتى سرقتها والانتفاع بها لتكون جزءا من منظومتنا ومن تداولنا، ومن خطابنا، وربما جعلتنا نُفكّر من خلالها، عبر مقارباتها لكلِّ أسئلة المعرفة، وقضايا الفكر والاجتماع والأنسنة والمناهج والنظريات، وحتى ما يخصّ علوم اللغة والهويات والحقوق والحريات، وغيرها من الأطروحات التي روجت لها «الحداثة» في زمنها السياسي الاستعماري، وفي زمنها الثقافي الاستشراقي، إذ حملت هذه الحداثات مفاتيح التنوير والتجديد.
توسّع مؤسسة الترجمة، لا يعني توسّع حريتها في التعاطي مع أسئلة المعرفة، ومع الحاجة إلى آليات جديدة للقراءة، لاسيما القراءة التي تخصّ مناهج معينة، دخلت منظوماتنا المعرفية، فكانت أشبه بالثورة.
خطورة الترجمة تكمن في مشكلات الفهم، ومدى صدقيتها في النقل، ولما ينبغي أن تكون فاعلة في تعزيز هذا الفهم، وفي تسويج آليات الترويج لها، وحتى توظيفها في أجهزة العمل والدليل والقاموس، ولكي تكون جزءا من الاستعمالات الثقافية، ومن المقاربات التي توسّع فضاءات الدرس النظري، فهذا الدرس الجديد، بات أكثر تعالقا بما تُنتجه مطابخ الترجمة، وبما تُكرّسه من توجهات وسياسات واستراتيجيات للتعرّف على العالم الآخر، الذي أصبحنا نجاوره في «قرية ماكلوهان» أو في لوحة «الموبايل» أو في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ نشاطره يومياته وأفكاره وأسئلته، لكن السؤال المرعب يكمن في المدى الذي يجعل هذه الترجمات أمينة، وصالحة لكي نفهم ذلك الآخر، أو لكي نجعله دون مواربة، جزءا من درسنا الثقافي، ومن إجراءاتنا التطبيقية..
علاقتنا بتاريخ الترجمة ليس آمنا بالكامل، فبقدر ما قدّمت لنا الترجمة من موائد دسمة، لكنها قدمت لنا أيضا أفكارا ملعونة، وشكوكا حول تعدد مقارباتها، والتصرّف بها كواجهات أيديولوجية وأنثروبولوجية تجعلنا نجسّ جلودنا دون خجل، ونفتش كثيرا في خفايا مسكوتاتنا، وسرائرنا، بما فيها القضايا التي تمسّ المقدس في ثالوثه الجنسي والديني والسياسي..
الاعتراف بأن مرجعيات المناهج والنظريات غربية يجعلنا ندرك خطورة علاقة درسنا المعرفي والنظري بتلك الترجمة، وبالحرية التي بات يملكها الباحثون والمترجمون، لاختيار ما ينبغي ترجمته، ليس لتأسيس مكتبة «قومية» نظيرة للمكتبة التاريخية، بل لإيجاد «فضاء عمومي» يمكن من خلاله تداول الدرس النظري، والاشتغال المنهجي، بما يُحفّز أسئلة الحرية والتغاير، والبحث عن رؤى جديدة للتعاطي مع دروس النقد، وتوسيع مديات وفواعل الجهاز النقدي، ليكون أكثر قدرة في التعبير عن جدّته وحداثته، وعن تغاير استعمالاته وإضافاته.
الزخم الترجمي النظري تحوّل عند البعض إلى مجال استحواذي، وإلى حيازة للمجاهرة بالتعالي النقدي، مقابل رثاثة في الإجراءات، وفي التجريبات، وفي اتجاه تسبب في تعقيد فهم الأطروحات النظرية والمناهجية، التي حوّلها البعض إلى «منصات» للإشهار، والغلو، والتصرّف بها على نحوٍ تجريدي، أو تهويمي، ضعفت فيه وسائط التشبيك مع النص المقروء، ومع حاجته للفهم عبر الوضوح، وعبر توظيف الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي في تنمية القراءة وفي إجرائية النقد..
توسّع مؤسسة الترجمة، لا يعني توسّع حريتها في التعاطي مع أسئلة المعرفة، ومع الحاجة إلى آليات جديدة للقراءة، لاسيما القراءة التي تخصّ مناهج معينة، دخلت منظوماتنا المعرفية، فكانت أشبه بالثورة، ورغم أنها وصلتنا متأخرة، فإنها تحولت إلى حافز عارم لتوسيع الفضاء الترجمي، الذي ظلّ للأسف بلا موجهات، وحتى بلا مؤسسات، وأنّ أغلب اختياراته تقوم على العشوائية والإشاعات الثقافية، وعلى شغف دور النشر، وحتى المؤسسات الأكاديمية لم تستطع إلى اليوم بناء مؤسسة ترجمية رصينة، تُلبّي احتياجاتها التعليمية والتعريفية، وتعزز توجهاتها في أن تكون مؤسسات طليعية في مجتمعات تحتاج إلى جرعات عالية من قيم الحداثة والتنوير، وبما يعزز قيم التداول لحرية الاستثمار الثقافي، وفاعلية التغاير الثقافي والانفتاح العلمي على الجديد والمُختلِف، ويقلل من هامش احتكار الثقافي/ الترجمي/ النظري عند البعض الذي يتعامل مع الثقافة وكأنها سوق تُنعِشه نظرية العرض والطلب وليس البناء والعمران والتجاوز..
كاتب عراقي