خيري منصوراذا قدّر للنقد الأدبي في العالم العربي ان يسترد عافيته بعد سبات دام عقودا بسبب فقدان التوازن بين التأنق النظري والاخفاق في التطبيق فإنه سيجد منجما مهجورا مما أسميه الاستنساخ الصيني للنصوص واحيانا لمبدعيها، وهذا النمط من الاستنساخ لا علاقة له بالجينات او النعجة دوللي، انه نقل وانفعال، وأبعد مما كان يسمى وقع الحافر على الحافر. وقد ازدهرت هذه الظاهرة في غياب النقد والمتابعة، بعد انصراف المشتغلين في هذا الحقل الى الشجون الاكاديمية وتحويل مهنة النقد التي هي افراز حضاري بامتياز الى نمط انتاج، او بمعنى مباشر وسيلة تكسّب، وما كتبه د. علي الوردي عالم الاجتماع العراقي عن التكسّب ووعّاظ السلاطين ثم ما قدمه ناقد عراقي من نماذج هذا السياق بدءا من وصية الحطيئة لأحفاده واحفاد احفاده وهي اوصيكم بالمسألة، لا يجعل من نمط الانتاج هذا حكرا على الشعر، فالنقد نافسه في هذا المجال وتفوق عليه خصوصا في حقبة ريْعية عانت من فائض الثروة وشحة الابداع، واذا صدقنا ما قدم من تعريفات للنقد سواء كان جسرا بين المرسل والمرسل اليه كما يقول ستانلي هايمن او انه مجرد الحصى الهاجع في قاع النّهر كما يقول غراهام هيو، فإن هذه المهنة اذا فقدت نزاهتها تردّت، تماما كما تتردّى مهنة الطب حين ينزع عنها البعد الاخلاقي ويكتب تقارير مزوّرة عن السجناء الذين يقضون بسبب التعذيب، وقد تكون مهنة الناقد اشدّ خطورة لأن ما يقول لا يتوقف عند تقرير عن سجين واحد، بل يقدم شهادة زور ادبية قابلة للتداول والانتقال من زمن الى آخر، والاستنساخ الصيني كما هو معروف يبقى في حدود التصنيع، ومحاكاة الاصول بأشباه تطابقها من ناحية الشكل فقط، اما المضمون والكفاءة فهما خارج هذا المدار، ولا يتوقف هذا الاستنساخ عند اللغة والمفردات لأنها لو توقف عندها لكان من السّهل ضبطه متلبسا، انه يسعى بمهارة الى عبور النصّ واللغة الى الرؤى والافكار، ويبدو لشدة تقمّصها كما لو انه مخترعها، لكن النقد الجدير باسمه قادر على اكتشاف الفروق، والبرهنة جماليا وفكريا على ان الشبيه هو النقيض الحقيقي، لأنه يذكّرنا بغياب الاصل، وينتهي دوره عند هذا التذكير، ورغم ان لوركا لم يكن ناقدا الا انه استبق النقاد شأن العديد من أمثاله الى القول بأن الخطأ التقليدي الذي وقع فيه نقد الشعر هو تقسيمه الى شكل ومضمون فقط، وذلك تبعا لهيمنة الثنائيات على العقل الما قبل جدلي، فإذا كان الشكل هو اللحم والمحتوى هو العظم، فإن الأهم هو البعد الثالث وهو النخاع داخل العظم، لهذا كان لوركا يقف حائرا امام قصائد سليمة من الناحية اللغوية وكذلك من ناحية الايقاع لكنها تخلو من الشعر، وهذا ما سماه نقادنا القدامى الماء في القصيدة، واحيانا النّدى. الاستنساخ تتوقف مهاراته عند اللحم والعظم فقط، لكنه يعجز عن بلوغ النخاع، وهذا ما يتطلّب نقدا من طراز آخر غير هذا المدرسي او الاتباعي او حتى الحداثوي الذي لا يرى للبنيوية مثلا سوى فضيلة واحدة هي اعفاؤه من التقييم وكأنه مجرد مسافة ثابتة بين نصّيْن.* * * * * * *من المتوقع ان تنتشر النصوص المستنسخة صينيا وتهدد العملة الجيدة بالطرد، عكس ما هو شائع، وهذا ما لاحظته في المصنوعات الصينية القائمة على فن الاستنساخ، بحيث اصيبت شركات كبرى ذات سمعة كونية بالكساد لأن بدائل صناعاتها تباع بأقل من واحد بالمئة من سعرها، لكنها بالطبع لا تعيش، وغير قابلة للاصلاح اذا اصابها العطب لأنه ما من قطع غيار لها، ومؤخرا قامت تلك الشركات بحملة ضد الاستنساخ وشاهدت شاحنات تدمر اطنانا من السلع المستنسخة في شارع عام، وبلغ الامر حدّا استجابت له الصين وبدأت تراقب هذا الاستنساخ الذي تحوّل الى الأقبية والعالم السفلي شأن كل المحظورات.لكن الثقافة ليست كذلك، والاستنساخ منها يتم بأساليب اخرى، والنص ليس سلعة يمكن القبض عليها في متجر او على عربة بائع متجول، لهذا تتضاعف اهمية واعباء مهنة النقد في مرحلة كهذه، تراجعت فيها الكوابح الذاتية الى ما دون الحد الأدنى، وصدقت نبوءة ديستويفسكي بحيث اصبح كل شيء مباحا ومتاحا ليس هذه المرة بسبب فراغ السّماء، بل بسبب التجريف المعولم والممنهج للوعي والحاقه بالغرائز، خصوصا بعد أن أفرغت ثقافة الاستهلاك حمولتها في العقل وجعلت الانسان عبدا لما يصنع، وكان لهذا التجريف مرجعيتان في مجال السايكولوجيا على الأقل، الاولى بافلوفية تتلخص في اقتران رنين الجرس بلعاب الكلب الجائع، والثانية بأسلوب تدريب الكلاب على السباق بحيث يربط الكلب الجائع الى ذراع مروحة كبيرة تدور بسرعة هائلة لكن على الأرض وتربط قطعة لحم الى ذراع آخر من المروحة ذاتها، بحيث تبقى المسافة ثابتة بين الذراعين وبالتالي بين الجوع المتصاعد وقطعة اللحم الموعودة، ولا أجد فرقا بين هذا التعذيب وبين اسطورة يونانية عن انسان جائع وظامىء، تدنو العناقيد من فمه لتنأى، وكذلك الماء الذي ما ان يلامس شفتيه حتى يعود الى الغيمة.* * * * * * * *الاستنساخ حسب الوصفة الصّينية هو المرادف للقطعنة، وحذف أبعاد الانسان بحيث يبقى منها بُعد واحد، وهذا ما عبّرت عنه في عدة كتب اطروحة هربرت ماركيوز سواء في كتابه ‘الانسان ذو البعد الواحد’ او في كتابه الاخر ‘الحب والحضارة’، فتاريخ الانسان تبعا لهذه الرؤية هو تاريخ زجره وكبته تحت ذريعة التصعيد، بالمعنى الفرويدي ، لكن فائض المكبوت انتهى بنا الى تسفيل مضاد للتصعيد، بحيث باتت اهم الكشوفات العلمية في خدمة الغرائز والخلايا الزواحفية للدّماغ، وهناك دراسات حديثة تستلهم الداروينية كمرجعية لها حتى في مجال الاقتصاد منها دراسة ‘كرستوفر ميير’ عن الرأسمالية الجامحة والتي تستعير مقارباتها من علم الاحياء ومن نظرية دارون حول اصطفاء النّوع لأن الافراط في هذا الاصطفاء قد ينتهي الى ما يسميه الباحث الانقراض البيولوجي، بالمقابل ثمة انقراضات اخرى لكنها ليست بهذا المعنى العضوي القابل للرصد، منها انقراض لغات وهويات وثقافات رغم بقاء اصحابها على قيد الرغيف والعلف وليس على قيد الحياة.* * * * * * * * يضطرني السّياق مجددا الى التذكير بأمثلة أدبية عن الاستنساخ ببعده السايكولوجي منها شخصية رشدي في رواية شيء من الخوف لثروت اباظة، الذي يتعلق بانجذاب شديد الى شخصية البطل وينتهي به الامر الى الجنون لأن تقمّصه للشخصية أفقده المشيتين معا فلم يعد حمامة ولم يصبح غرابا، وثمة معالجة فذّة لجان جينيه حول هذا النمط من الاستنساخ، انها المقولة الماركسية المعروفة عن تكرار التاريخ باحدى صورتين اما تراجيدية او كوميدية، لكن عصر ما بعد ماركس اضاف صورة ثالثة لهذا التكرار تزاوج بين التراجيديا والكوميديا، بحيث يصبح ضحية التكرار مثيرا للشفقة والسخرية معا، مما يحرمه من المصير التراجيدي الكامل.ومثلما يحدث استنساخ صيني لنصوص يحدث ايضا لمبدعين، ومجرد اطلاق صفة على فلان بأنه نجيب محفوظ بلاده، او كافكا بلاده، هو تورط بالمصير الثالث، فالمسألة كلها قدر تعلقها بالوعي المفارق والابداع هي ان يكون المرء ذاته لا ان يخلي هذه الذات لسواه !!qadqpt