إزاء تداعياتِ ما نعيشه من انكساراتٍ حضارية، تبدأُ لعبة الأسئلة الحادة، أسئلة «المعيش المنقوص» والتردي الفاضح في بناء المنظومات المؤسساتية الحاكمة، على مستوى الدولة والمجتمع والفرد، وعلى مستوى الخدمات والحقوق والحريات والتعليم والصحة وغيرها، إذ تقترن تلك الأسئلة بالحاجة إلى النقد، أي نقد الظواهر ومشكلاتها، وعلى نحوٍ يجعل من مفهوم المغايرة، أي مغايرة النظر إليها، في مستوى خطورتها، وفي مستوى الفاعلية الإجرائية لمفهوم النقد، لأن مزاوجة النقد بالتغيير هو المقدمة الحقيقية لفعل الإصلاح، ولمساءلة العقل العربي المغلق، والمزدحم بالعقد والصراعات والأوهام.
مفهوم نقد العقل لا يعني الاكتفاء بنقد العقل الثلاثي- البرهاني والبياني والعرفاني- على طريقة محمد عابد الجابري، ولا يعني نقد الآخر والهيمنات المركزية الغربية والأيديولوجية على طريقة إدوارد سعيد، حتى لا يعني نقد الخطاب في سياقه الإسلاموي، أي نقد «سوسيولوجيا الإخفاق» كما سمّاها محمد أركون، بل يعني نقد «الأنا» بوصفها ذاتاً حاضرة، ومجالا سلبيا للاستسلام والتقليد والشعبوية، والضعف، والتماهي مع مفهوم «القوة» بوصفها التعويضي والإشباعي والرمزي، ما يعني مقاربة التعالق المأزوم مع تاريخ «جامد» ومسكون بالأشباح، وبالانغلاق على خطابٍ عدمي، تتعإلى فيه الخرافة، ووهم «سلطة النص والجماعة» وعصاب «الذاكرة المغرورة» التي يضعف إزاءها صوت العقل، وبكل ما يحمله من دوافع تخص «نزع السحر عن الأفكار» والنظر إلى التراث والماضي بمنطقية، وإلى الآخر بموضوعية، ومقاربة الخطاب الديني بعقلانية نقدية، تملك أهلية «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» الذي أورده ابن رشد، فضلا عن إمكانية نقد العقل الاستشراقي بموضوعية، وبعيدا عن أوهام «الذات النقية» التي تشبه في أدلجتها فكرة «الفرقة الناجية» وتمثلاتها لاحتكار السلطة والمقدس، ولإشكالات التفكير المضطرب، وانعكاساته على تعطيل صناعة الخطاب الضدي.
الحديث عن أزمة التفكير، ترتبط بالحديث عن أزمة مواجهة «الانسداد الحضاري» مثلما ترتبط بأزمة غياب الموقف النقدي، وفاعلية الرؤية، وهي قضايا تدخل في سياق استدعاء النقد للمراجعة، ولمساءلة الواقع، ولفحص ما في مظاهره من انغلاقات قارة، على مستوى النظام السياسي والنظام الثقافي والنظام الاجتماعي، والنظام التعليمي، أو على مستوى «التاريخ» وهي بطبيعتها انغلاقات قاتلة، ومسؤولة عن إرجاء السؤال النقدي، وعن تعطيل مساءلة التراث والسلطة، والعقل المخزني المهيمن مؤسساتيا وشرعيا، وغيرها من المرجعيات النسقية التي تؤدي وظيفة الاستملاك وحيازة القوة والمعرفة والثروة. إرجاء السؤال النقدي، تعني تقويضه، وتجريده من قوته، وعندها سيجد «العقل الثقافي» نفسه وأدواته خارج الاستعمال، ليس لضعفها ومحدوديتها، بل بسبب انغلاق السياق وتضخم الرثاثة في بنيته، وبسبب طبيعة المهيمنات، وعلاقتها بوهم «صناعة العدو» والخوف العصابي على النص والذات والمقدس، ما يعني تجييش الوهم المضاد، وتحويل القوى الرجعية، أي قوى الخرافة والعنف إلى مرجعية مهيمنة، تملك سطوة الفعل، والإرهاب وتكفير الآخر، وتوصيف فعل التغيير، وكأنه نظير لفعل الزندقة، والخروج عن الأمة والجماعة، وهذا يعني – أيضا – إخضاع العلاقة مع الآخر إلى الشك التبشيري والاستشراقي والاستعماري، وتحويل النقد إلى إثم، مثلما هو تحويل مؤسسات النقد إلى مؤسسات سرية، تخضع جماعاتها إلى المراقبة والحسبة، والمعاقبة، وبالتالي إفقادها أي وظيفة للإشهار والتأسيس، وفي استدعاء فعل النقد ليكون قوتها الفاعلة في «الاختلاف والمغايرة» وفي البناء، وفي إعادة تمثيل الإنسان وحقوقه الطبيعية داخل السياقات الحاكمة، على مستوى الدولة والمجتمع والمؤسسة.
النقد المزدوج والمواجهة
حديث النقد، هو حديث إجرائي لتسويغ المواجهة، ولإنضاج الفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية، لتكون أدوات حقيقية في تبني فعل التغيير، لكن تجزئة هذا النقد، وحصره بنقد الآخر فقط، تعني تعويمه، وتسريبه في أنساق تمثيلية عامة، أي إفقاده منهجيته، وعلميته وجدواه، وأحسب أن أطروحات عبد الكبير الخطيبي في مشروع النقد المزدوج – في هذا السياق – تملك أهلية توسيع فعالية الخطاب النقدي، وعلى نحو يتم معها تحديث أدواته، وأغراضه، ليكون واحدا من العناصر المؤسِسة لمرجعيات نقد الخطاب، والنظام، والتفكير، وليشمل نقد ثنائية الأنا والآخر، وباتجاهٍ تتوسّع فيه مديات مراجعة الأزمة، ومدى علاقتها بطبيعة الصراع بين القوى المتعددة، العقلانية، وغير العقلانية، التنويرية والرجعية، لاسيما في مجال نقد التاريخ، وفي كشف ملفات «المقموع والمسكوت عنه» لأن واقعنا العربي يعاني من سطوة مركزية التاريخ أكثر من معاناته إزاء مركزية الآخر، أو كما سماها عبد الله إبراهيم بـ«المركزية الغربية» وسردياتها الكولونيالية، ما أسهم في تعويم أيّ تداولية لمفهوم الإصلاح، ولما اقترن به من مفاهيم مجاورة، مثل الحداثة والأنوار والتنوير والتجديد والإحياء وغيرها، والتي ما كان لها أن تكون قيما فاعلة، وضاغطة لولا الاصطدام بالآخر، والتفاعل مع حضارته وأسئلته، ومع مظاهر مدنيته، وإنجازاته في العمران والحقوق والعلم والفنون والإدارة، بعيدا عن سطوة «الذات المنغلقة» والنظرة الاستشراقية الضيقة، التي كنّا نحن العرب جزءا من إشكالاتها وأغراضها، ما دفع البعض للنظر إلى الاستشراق كمفهوم بنظرة عدائية جامعة، عبر ربطه بالاستعمار والتبشير والهيمنة ونزع الهوية ومحو الذات، وغيرها من الأحكام التي تحتاج إلى مراجعة دقيقة وموضوعية وعلمية..
الخطابات العربية، هي خطابات الأيديولوجيا، فقد لعبت أفكار وشعارات الأحزاب القومية، والأحزاب الدينية دورا في تشويه تلك الأيديولوجيا، لا سيما ما يتعلق بمفاهيم العروبة والإسلام، إذ دعت إلى ربطها، وبشكلٍ متعسف بالواقع، وبتعلية التراث بوصفه قوة صيانية للذات والهوية، في وقت أن المصالح والعلاقات السياسية والاقتصادية ارتبطت بالآخر.
التغيير وهدم الميتافيزيقا
قد يبدو هذا الأمر فلسفيا مجردا، أو جزءا من أطروحات عاش تحدياتها العقل الغربي، منذ كانط وإلى يومنا هذا، وهو ما دفع البعض إلى تبني الغلو في العقلنة، وفي فرض التغيير، أو التلفيق به خارج السياق، أو الدعوة إلى التنوير، دون مراعاة الظروف الموضوعية لذلك، لاسيما مع وجود عصابية لأنماط الحكم، ومع المفهومات الحاكمة وتمثلاتها في السلطة وفي الخطاب الديني، والشعبوية.. هدم الميتافيزيقيا، وتقويض خطابها ليس أمرا سهلا، ولا حتى تمثيلا حقيقيا لإجراءات فعل النقد، لأن هذه «الميتا..» ما زالت تملك منظوماتها، وقوتها العميقة في السلطة وفي المقدس، رغم أن نقدها يعني نزع السحر الفائض فيها، ما يعني في أي تفسير، نزع السحر من تلك السلطة، ومن الأيديولوجيا ومن الجماعة ومن المقدّس أيضا، وهي «مكونات» ما زالت محكومة بغرائز طقوسية، واستملاكات لا واعية، في واقعنا العربي، مقابل ذلك غياب تام، لاستراتيجيات التغيير، ولبرامجه، ولمشاريعه وخططه، لاسيما مع وجود نظام تعليمي عاجر، وبنيات تنموية هشة، واستغراقات عميقة في الخرافة، والجهل، وفي عسكرة مفرطة تقوم على المغالبة والمغانمة، والعسكرة الجماعوية، بما فيها من تضخيم «الحروب الطائفية» والأهلية المشتعلة في أكثر من مكان عربي، وبأقنعة متعددة.
مساءلة هذا الواقع، أو مراجعته هو العتبة الإجرائية لفعل النقد، أي البدء من نقد الذات الثقافية نفسها، أي عبر تحريرها من عقد العزل، والتعالي، والتوهم، ووضعها في السياق الفاعل الذي تحدث عنه غرامشي في الثلاثينيات من القرن الماضي، على مستوى تفعيل قوة المثقف العضوي، ووجود المؤسسات العضوية، أو على مستوى صياغة مفهوم «الكتلة التاريخية» وهي فعالية «تصنيعية» يمكن أن تدعم فعل القوة الإيجابية، وتعزز وظيفة المثقف في الجماعة والحزب والمؤسسة، وأحسب أن هذه النظرة المغايرة كانت عنصرا مؤسسا في تجديد النظرة الماركسية لمفهوم التغيير، التي اقترحها غرامشي كوظيفة فاعلة للمثقف، في علاقاته، وفي تمثيله، وفي أدائه داخل الحزب، والأيديولوجيا، والخطاب، وخارج المفهوم القهري للطاعة المركزية.
التقويض هنا، والقول للخطيبي هو هدم «فكرة ثابتة وساكنة مجتثة من أصولها الموضوعية وشروطها التاريخية» التي تخلق ما يسمى بالثنائيات «خارج/داخل -غرب/شرق – خير/شر» وتستغلها في الممارسة العملية، لذلك كان أسمى هدف لمفهوم التفكيك هو كسر هذه الثنائيات وفضح الميتافيزيقا» فضلا عن اقتران فعل التقويض بوجود الحرية، إذ يعني سلب الحرية سلب المعرفة، وهي نظرة هيغلية للنقد، التي تعني إجرائيا إخضاع المجتمع والأفراد إلى نوع من الاستلاب، أي خلق الفرد المستلب المهيأ للقبول بالطاعة والتشيؤ والخضوع، والبعيد عن وعي التفكير النقدي، لأن الإقالة من التفكير، هي شكل من أشكال الإرهاب الذي تمارسه السلطة، وحتى الجماعة والأيديولوجيا، وحاجة النقد هنا، تنطلق من تفعيل حرية، لصياغة موقفٍ ضدي، ووعيٍ يمكنه أن يناقض ما هو زائف في أدلجة السلطة، وفي خطابها.
التغيير وعقدة الهوية
لماذا لم نستطع التكيف مع العصر وحاجاته «ولماذا الانزواء الصياني في أقبية الهوية؟ ولماذا تتحول الهوية تحت الضغط إلى عصاب، وإلى إرهاب وإلى أصوليات قاتلة؟ هذه الأسئلة، تستدعي النظر لمقاربة عقدة الهوية، بوصفها نكوصا إلى الماضي، وخوفا من الحاضر، وأن مساءلتها تفرض وعيا بمستوى الحاجة إلى مقاربتها، بوصف أن مفهوم الهوية ليس ثابتا، وأنه مفهوم متحرك ويتشكل على الدوام، لكن ذلك، والقول للخطيبي لن يأتي «إلا من خلال اللجوء إلى تفكيك كل المفاهيم التي أحاطت بهذه الهوية، عن طريق ممارسة نقد مزدوج، يحيط من جهة بالخطابات العربية السائدة، ومن جهة ثانية بأيديولوجية الغرب التي جعلت من السيطرة والخضوع أحد أهم مرتكزاتها».
الخطابات العربية، هي خطابات الأيديولوجيا، فقد لعبت أفكار وشعارات الأحزاب القومية، والأحزاب الدينية دورا في تشويه تلك الأيديولوجيا، لا سيما ما يتعلق بمفاهيم العروبة والإسلام، إذ دعت إلى ربطها، وبشكلٍ متعسف بالواقع، وبتعلية التراث بوصفه قوة صيانية للذات والهوية، في وقت أن المصالح والعلاقات السياسية والاقتصادية ارتبطت بالآخر، وكثيرا ما تدار المؤسسات من خلال سياساته، وتوجهاته السياسية والأمنية، وحتى مفهوم «اللاهوت» لم يكن بعيدا، عن عقدة الأيديولوجيا، ولا عن «المتخيل التاريخي» وربط ذلك بأسطرة المكان، كما شيعت له الأساطير الصهيونية، أو ربط اللاهوت والهوية باللغة، كما كرسه الاستعمار الفرنسي والإسباني والبرتغالي في افريقيا، وفي أمريكا الجنوبية، إذ تكرست الديانة المسيحية الكاثوليكية، والهويات الإيبيرية والفرانكفونية في دول عدّة، انسحقت فيها هوياتها ودياناتها القديمة..
كاتب عراقي
رائع. شكرا للكاتب.