تأتي ذكرى النكبة لا لتفتح جراح الماضي فقط، بل لتطرح اسئلة على الحاضر والمستقبل. مسيرة العودة الى لوبية التي نظمها الفلسطينيون في وطنهم المحتل، أعلنت بأعلامها الفلسطينية وحشدها الكبير اصرار ابناء فلسطين وبناتها الذين تحولوا الى لاجئين في وطنهم، ومواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم، لا على حقهم في ذاكرتهم فقط، بل على حقهم في ارضهم واصرارهم على العودة اليها.
ردود فعل المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة على لسان وزير الخارجية ليبرمان، قالت حقيقة المشروع الاسرائيلي الذي لا يزال في طور التطبيق منذ ستة وستين عاما. فالمهاجر الروسي الى فلسطين الذي يتصرف بوصفه وصيا ‘الهيا على الأرض’، دعا الفلسطينيين الى اكمال مسيرتهم الى رام الله. أي انه استعاد مقولة الطرد التي كانت ولا تزال سلاح الغزاة من اجل محاصرة الفلسطينيين وتطويعهم واخضاعهم.
لكن المسألة لا تتوقف هنا، فالدعوة الليبرمانية الى التخلي عن المثلث بهدف تأبيد الأكثرية اليهودية في فلسطين 1948، لا تقول حقيقة النوايا الاسرائيلية. فالنوايا الصهيونية، كما علمتنا تجربة الإعداد لتأسيس دولة اسرائيل، لا تقاس بالكلمات بل بالأفعال. فخلف قفاز خطاب اشتراكي أتقنه حزب العمل، كمنت جريمة التطهير العرقي عام 1948، ومعها سلسلة المذابح في المدن والقرى الفلسطينية بهدف طرد سكانها والاستيلاء على بيوتهم وارضهم.
واليوم تأتي ذكرى النكبة وسط انهيار المفاوضات، لتشير إلى الحقيقة التي ترفض المؤسسة السياسية الفلسطينية ان تراها، مكررة بشكل واع او لا واع خطأ الشعور الذي ساد عام 1948 بإستحالة نجاح المشروع الصهيوني، لأن العالم العربي سيرسل جيوشه لمنع الكارثة!
ما لا يراه المفاوض الفلسطيني هو الأفعال على الأرض.
لا تصدقوا أن الاسرائيليين يضعون شروطا للسلام، شروطهم هي لعرقلة أية تسوية، لأنهم يشترون الوقت بالكلام، ويبيعوننا الوهم، كي يصلوا الى الفصل الجديد من النكبة الفلسطينية الذي بدأنا نرى ملامحه بشكل واضح في الضفة الغربية.
انظروا الى خريطة الاستيطان التي تمتد من القدس الى الأغوار، لتكتشفوا ان مستوطنات اليوم تشبه مستوطنات ما قبل عام 1948، وان العمل الاستيطاني ليس مشروعا ‘اسكانيا’، بل هو مشروع عسكري اولا.
كان دور الاستيطان قبل عام 1948، هو خلق بؤر سكانية عسكرية من اجل تطويق القرى والمدن الفلسطينية، بحيث تلعب دور المواقع العسكرية المتقدمة، التي حين يتم ايصالها ببعضها البعض، عبر القوات العسكرية المتحركة التي عمادها الهاغانا، يتم احتلال المنطقة بأسرها وطرد سكانها.
ولقد توسع الاستيطان وتغوّل في ظل حماية قوات الانتداب البريطانية ورضاها، وما التوتر الذي ساد في نهاية الانتداب بين الحركة الصهيونية والانتداب سوى انعكاس لضمور الامبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية وصعود قوتين دوليتين جديدتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
اليوم يتغوّل الاستيطان ليس بحماية حكومة اسرائيل فقط، بل بقرار منها، حيث توظف اموال طائلة، ويتم وضع موارد الدولة في خدمة المشروع الاستيطاني، بحيث يتم فرض حقيقة استحالة الانسحاب من الضفة، التي ستنجم عنها بالضرورة حقيقة جديدة هي الوصول الى الفصل الأكثر وحشية من فصول النكبة المستمرة منذ ستة وستين عاما.
لعبة المفاوضات لا هدف لها سوى اضاعة وقت الفلسطينيين بالركض وراء سراب، وتغذية هذا السراب بوعود امريكية تدل على تداخل المصالح الاسرائيلية الامريكية من جهة، وفقدان الولايات المتحدة لقدرتها على فرض اي شيء على اسرائيل، من جهة ثانية.
منذ اوسلو وفلسطين تعيش في المؤجل، انجاز منظمة التحرير هو انه نقل فلسطين من المغيّب الى المؤجل. لكن المؤجل يصير تدريجيا أحد أسماء الغياب، وتجربة ستة وستين عاما من النكبة المتواصلة تعلمنا ان التغييب ليس مسألة مستحيلة، وان الحقائق الاستيطانية تنتظر لحظة تاريخية- دولية ملائمة كي تنتقل الى التوسع الشامل، والى احتمالات شتى تبدأ بتحويل المعازل الى وقائع قانونية، لكنها قد لا تنتهي هنا، لأنه قد يصاحبها عمليات طرد كبيرة أو صغيرة، بدأنا نعاين وقائعها في القرى المتاخمة للجدار، او المحاصرة بالمستوطنات، حيث صارت الحياة اليومية شبه مستحيلة.
نحن لسنا امام الخيار بين حل الدولتين او حل الدولة الواحدة ثنائية القومية. الخياران وهميان: حل الدولتين انتهى أمره وأعلن نتنياهو موته السريري، وحل الدولة الواحدة مرفوض اسرائيليا لأنه يهدد بتحويل ‘الأغلبية’ اليهودية إلى أقلية.
نحن أمام حقيقة النكبة، فالنكبة للأسف ليست وراءنا لكنها أمامنا. انها تتشكل في الغور اولا، وفي الجدار ثانيا، وفي التوسع الوحشي للمستوطنات ثالثا، وفي القدس رابعا، وفي غزة التي تحولت الى غيتو كبير محاصر بالنار خامسا، وفي كل مكان سادسا وسابعا…
اما لماذا اضاعت اسرائيل فرص السلام كلها؟ هل كان هذا مجرد خطأ ام كان جزءا عضويا من تركيبتها العنصرية؟ ام جاء بفعل صعود التيارات الدينية الأصولية فيها؟
أغلب الظن ان هذه العوامل الثلاثة اجتمعت في بؤرة ما اطلق عليه الباحث الفرنسي فيدال ناكيه اسم ‘خطيئة اسرائيل الأصلية’، اي التطهير العرقي عام 1948.
لكن هذا التطهير الذي قاده علمانيو الهاغانا والبالماخ، يأتي في سياق بنية ثقافية وسياسية تجمع فوبيا الخوف الى عظامية التسلط، وحلم ان تكون اسرائيل دولة علمانية غربية بكابوس ‘شرعيتها’ الدينية. بحيث صار من المستحيل على المحكمة الاسرائيلية العليا أن تعلن وجود قومية اسرائيلية. فقد نشرت صحيفة ‘هآرتس’ في 5 ايار/ مايو 2014 تفاصيل حكم صادر في تشرين الأول/ اوكتوبر 2013، حول طلب مجموعة من الاسرائيليين بأنهم أبناء قومية اسرائيلية، والقول انه سيكون ممكنا تغيير تفاصيل القومية في سجل السكان من ‘يهودي’ الى ‘اسرائيلي’.
‘وكان التعليل لرفض الالتماس هو أنه لم يثبت وجود قومية اسرائيلية، واشار القاضي حنان ملتسار الى أنه ‘لم يثبت قضائيا وجود ‘قومية اسرائيلية’ô ومن غير المناسب تشجيع نشوء ‘شظايا’ قومية جديدة’.
عندما تصدر المحكمة العليا قرارا بأن لا وجود لقومية اسرائيلية، وحين يسعى رئيس الحكومة الى تغيير القانون الأساسي للدولة من اجل اعلانها دولة قومية للشعب اليهودي، فمن المنطقي ان نتوقع فصلا نكبويا جديدا، لأن نابلس اكثر قداسة من يافا، والخليل اكثر قداسة من حيفا، ومياه الغور اكثر من ضرورية والى آخره…
هذه ‘العلقة’ مع اسطورة ‘شعب الله المختار’ وخيمة وحمقاء ومليئة بدم الاساطير وجثث الضحايا، والحكاية ايها السيدات والسادة ان لا نهاية لهذه المقتلة الا بعد ان يحقق الاسرائيليون ‘الحل النهائي’، اي الاستيلاء على كل الأرض، والابادة السياسية والثقافية لسكان البلد عبر طرد بعضهم وتركيع بعضهم الآخر.
لا تخطئوا، النكبة ليست ذكرى انها حقيقة يومية، ومقاومتها لا تكون بشراء الوهم التفاوضي الاسرائيلي بالوهن الانتظاري الفلسطيني، بل تكون بتأسيس افق مقاوم جديد.
الياس خوري
والله ياأستاذ الياس اصبحنا بعد نكبة فلسطين نكبات
الله وكيلك نكبات في كل عام ومن دول كثيره
وسبحان الله كلها لها علاقات فوق الطاولة وتحتها مع اسرائيل
اعتقد انك فهمت قصدي لاني خايف أدخل بالتفاصيل فيلغى تعليقي
على قول غوار القديم : خليها لربك يا مواطن
ولا حول ولا قوة الا بالله
عندما تنتبه عين الأديب إلى تفاصيل السياسة… ترى مل لا يرى.
شكرا أستاذ.
أبيدت شعوب عديدة أو مزقت أوصالها و خاصة في العالم الجديد (القارتان : أميركا و الأوقيانوس ) من طرف القوى الكولونيالية الأوروبية الغربية و لم يحصل ولو اعتدار لتلك الشعوب من طرف القوى الإستعمارية . و في المقابل تمنح الحركة الصهيونية وطنا على حساب السكان الأصليين بفلسطين من طرف الإمبريالية العالمية بدعوى تعرض يهود ألمانيا للإبادة من طرف النازية . إن إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين المحتلة ليس بوازع التعاطف الديني للغرب المسيحي مع اليهود كما يدعي الكثيرون , إد لو كان الأمر كدلك لتعاطفوا مع الفلسطينيين المسيحيين , فواقع الحال الآن على الأرض يشير إلى أن المسلمين و المسيحيين تضرروا من الإحتلال الصهيوني مع ملاحظة أن المسيحيين هم الطرف الأكثر تضررا حيث أن نسبة السكان المسيحيين بفلسطين تراجعت بشكل أكثر من تراجع نسبة المسلمين بها . إن الدافع وراء مساندة القوى الإمبريالية للمشروع الصهيوني ليست حتما لأسباب دينية و إنما لجعلها قاعدة أمامية في منطقة الشرق الأوسط تضمن من خلالها إمكانية التدخل في بلدان المنطقة قصد التحكم في ثرواتها الطبيعية و في الممرات البحرية الحيوية بها . إن الإحتلال الإستعماري عادة ما يكون من أجل استغلال خيرات البلد المستهدف بينما أرض فلسطين فقيرة من حيث الثروات المعدنية و الطاقية كما أن المجال الزراعي بها ضيق . فالإحتلال الصهيوني لفلسطين ليس هدفا في حد داته رغم البروباغندا الصهيونية المدعومة إمبرياليا و إنما بهدف جعلها قاعدة متقدمة للهيمنة على خيرات و شعوب المنطقة . لقد أبدع الشعب الفلسطيني في أشكال المقاومة و التضحية بأنواع و درجات لم يتم تسجيلها لدى حركات المقاومة في مناطق أخرى من العالم و مع دلك ما تزال فلسطين خاضعة للإحتلال . و نتدكر رد زعيم الثورة الفييتنامية الجنيرال جياب على كلمة الرئيس ياسر عرفات ممجدا الثورة الفييتنامية بالقول : أنتم العرب ( و يقصد الفلسطينيون ) تتواضعون كثيرا , أنتم استطعتم أن تخلقوا من لا شيء ثورة , أما نحن فوراءنا الفييتنام الشمالية و الصين الشعبية و الإتحاد السوفياتي . إن تحرر فلسطين مرتبط بالتحرر الفعلي لدول المنطقة .
الاخ ابو جمال تعليق منطقي رائع يرسم الواقع كما هو … اسرائيل ليست دولة اسرائيل قاعدة عسكرية تحت مسمى دولة هدفها الهيمنة و السيطرة على ثروات شعوبنا بما يخدم روحية الغرب الاستعمارية … حينما هذه القاعدة العسكرية تصبح غير قادرة على فرض ميزان قوة و ردع في منطقتنا يصب في مصلحة الغرب عندها سيتخلى الغرب عنها و تزول … نحن اليوم امام واقع يتطور اقليميا و جيوسياسيا .. من الناحية الاقليمية ما حققه حزب الله من معادلة توازن الرعب مع العدو هو مسمار في نعش اسرائيل … انتفاضات شعبنا و اصراره على حقوقه هو مسامير في نعش الكيان الصهيوني … النهوض الروسي و الصيني و تغير معادلات التوازن الجيوسياسية هي مسامير في نعش الكيان … اسرائيل جيش معمول له دولة عندما يصبح هذا الجيش غير قادر على اخافة احد كلبنان اليوم لماذا الغرب يصرف الغرب المليارات على جيش لا يخيف احدا و سيتخلى عنها الغرب و تزول … ان الهيجان الاستطياني الحالي ليس الا عبارة محاولة اسرائيلية لذر الغبار في عيون الغرب لتظهر اسرائيل انها ما زالت قوة هيمنة و ليس اكثر … 90% من المستوطنات فارغة .. 8 سنوات لم تنقطع التهديدات الاعلامية الاسرائيلية للبنان و حزب الله … هذا دجل اعلامي هدفه اظهار ان اسرائيل ما زالت تخيف … اسرائيل لا تستطيع و لن تستطيع خوض اي حرب جدية على لبنان لان هذا سيكلفها على الاقل هجرة ربع سكان اسرائيل … بالاضافة لذلك ما يحصل من تغيرات جيوسياسة تصب في مصلحة روسيا و الصين سيضعف الغرب في منطقتنا .. الغرب لا يسعى للديمقراطية الفعلية في منطقتنا … بل يسعى لشكل جديد من الاستعمار تحت مسمى الديمقراطية و حقوق الانسان .. . نموذج ذلك ابو غريب و مليون شهيد عراقي .. و بلاك ووتر المجرمة … لا اعترض على التوصيف الذي ذكره الاستاذ الياس و لكن استنتاجاته المتشائمة لا تمت للواقع المستقبلي بصلة … ما يقوم به بوتين ليس استعادة الاتحاد السوفياتي كما كان … بل اعادة تركيب العالم متعدد الاقطاب بهدف اضعاف الهيمنة الغربية على العالم … و منطقتنا العربية و فلسطين التاريخية و ليس اسرائيل تشكل حلقة مركزية في الرؤية التكاملية الروسية مع العرب …
مقالة رائعة كالعادة.
شكرا استاذ خوري
شكرا اخي الياس لكن اين هذا الافق وماهي معالمه الاولية وكيف سينشأ ويكبر ويتطور يبدو انني متشائم قليلا ولو انني اعتقد ان التقارب الفلسطيني بين حماس وفتح يبعث على التفائل وان الربيع العربي على الاقل اثبت ان ارادة الشعوب العربية قوية ولاتقهر وانه لايوجد استقرار لطالما ان هناك قهر وحقوق انتزعت من اصحابها وان استقرار اسرائيل سيبقى مسألة غير مضمونه
أخي الياس ….تكرار اعتزازي بك هـو مفخرة لي ولكل عربي حر تثير كلماتك بـه أجمل الآمال وتعزز الثقة والاصرار على استرداد الحق الذي ..لا كرامة لامتنا من غير استعادته باصرار لا يتزعزع ..؛ لك كل أماني التوفيق وليرعاك المولى بعين عنايته .