حاولت ألّا أعير النص، الذي كتبته ابنتي على صفحة الفيسبوك الخاصة بها في ذكرى النكبة الفلسطينية، أي اهتمام خاص، لافتراضي أن نشرها لا يخرج عن ضرورة التعبير الطبيعي في مناسبة، رغم أنها الحادية والسبعون، تستحق هنيهة من فيض الروح، والتفاتة قلب وردة غضة نحو غزالتها الشريدة في ليل حالك وطويل، كلّه انتظار وأمل مكدّس.
لكنني عدت إلى ذلك النص بعد أن قرأت أن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية عَقَدت في مدينة لارنكا القبرصية يومي 10 و11 مايو/أيار الجاري ندوة مغلقة تحت عنوان «ماهية المشروع الوطني الفلسطيني»، شارك فيها عدد من الأكاديميين والباحثين الفلسطينيين القادمين من فلسطين ومن خارجها. لم تنشر، حتى الآن، أوراق الندوة، ولا أي معلومات تشير إلى مضامين محاورها؛ لكننا نستطيع، بناء على ما نشرته صفحة المؤسسة، أن نستشفّ ما كانت الدوافع والدواعي التي حدت بمنظّمي الحدث، لاختيار ذلك الموضوع المهم كعنوان للتمحيص وللنقاشات؛ فمن منا لا يشعر بضياع البوصلة الوطنية وبالتيه، ومن لا يقرّ باختلاف المقاصد والغايات، يعيش إما في عالم من الخيال أو في واقع من الرمال.
ستبقى إثارة المسألة خطوة إيجابية ومفيدة، وذلك على الرغم مما أتوقعه من عدم تأثير الندوة، العملي والفعلي، على صنّاع القرار وعلى من بقي من قادة الفصائل الوطنية والحركات الإسلامية الفلسطينية. ورغم تشاؤمي، أتمنى أن يشكل نجاح المجتمعين بوضع تشخيص لبعض أعراض الأزمة المقلقة من ناحية، واقتراحهم لمخارج ولتوصيات لمواجهتها من ناحية ثانية، حافزًا يدفع بأُولي الألباب الصالحين وأصحاب الضمائر والقادة الوطنيين الأكفاء إلى إعادة حساباتهم وإعداد برامجهم النضالية من جديد.
بعيدًا عن لارنكا وما سيصدر عن لقائها، سأتناول في هذا المقال بعض الظواهر اللافتة التي نشأت، مع السنين، بين المواطنين العرب في إسرائيل، وأعتقد أنها تشكل أيضًا مؤشرات على ضياع بوصلة هذا الجزء من الشعب الفلسطيني السياسية، وعلى تحرّك أفراده في شعاب من غير هاد وبدون رشاد، وتشي بوجود حالة تتبلور فيها هوياتهم السياسية وقناعاتهم الاجتماعية بشكل عشوائي، وعن طريق ردات الفعل الاعتباطية وجيشان العواطف واندفاعها.
فما أدراك ما النكبة؟ لا تعيش أكثرية المواطنين العرب في إسرائيل في حالة تشكل فيها النكبة عنصرًا حياتيًا ملموسًا أو هاجسًا ملحًا يرافقهم خلال مسيرتهم المعيشية، ويؤثر على خياراتهم السياسية؛ فباستثناء من حسبوا كلاجئين أو مهجرين في أوطانهم وذريتهم، سنجد قلة قليلة من المواطنين الذين يعيشون «حالة الانتكاب» ويذوّتون معانيها وتأثيراتها ويترجمون ذلك إلى مواقف قيمية أو سلوكية أو نفسية أو سياسية. لا غرابة في ذلك، فبين الجماهير العربية في اسرائيل لا نجد، في الواقع، إجماعاً على معنى النكبة وعلى مكانتها وما كانت مسبباتها وما ترتب على حدوثها من تبعات ومن حقوق. قد يعتبر معظم المواطنين العرب، البالغين والناضجين، أن النكبة ، هكذا بمعناها البديهي والمطلق، هي مصدر للحزن وللتشرد وللقهر وللظلم وللخيانة، لكنهم لا «ينتمون» إليها ولا يعيشونها كعامل مؤثر في مدارات حياتهم؛ وهي، بهذه الحالة، ليست مركبًا حاسمًا في مبنى هوياتهم السياسية، مع انها قد تكون عاملًا في نفسيات بعضهم المهزومة.
سنجد إلى جانب هاتين الفئتين بين العرب في إسرائيل من لا يعرف عن النكبة شيئا، أو قد يعرفون بعضًا من رذاذها فقط، أو أنهم قد سمعوا عنها من مصادر معادية، نجحت في تشويه الحقائق عنها، ودفعت بهؤلاء إلى اتخاذ مواقف سلبية ومعادية ومستفزة مرفوضة على الإطلاق. قد نكون بحاجة إلى زيادة في عدد الندوات والدراسات، التي تعالج قضية النكبة ومعانيها المنتشرة بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ فهذه القضية، مثلها مثل غيرها من القضايا المهمة، قد أهملت أو سخّرت لأغراض سياسية حزبية فئوية، ولم تجد من يرعاها بالشكل الصحيح؛ وأخشى أن تواجه مصير ما ستواجهه قضايا مصيرية أخرى، لا تجد في حالة الضياع القيادية المستشرية بيننا من يؤطرها ويرعاها بالشكل الذي يخدمها أولًا، ولا يضر بمصالح الجماهير العربية، وما ينتظرها من سوء، تخطط لتنفيذه الحكومة اليمينية الفاشية المقبلة.
من لا يشعر بضياع البوصلة الوطنية ومن لا يقرّ باختلاف المقاصد والغايات، يعيش إما في عالم من الخيال أو في واقع من الرمال
تاريخنا لا يتوقف عن دورانه، ومجتمعاتنا حية لا تنام على مُرّ ولا تقبل إلا بأنفاس الموج حلمًا ومأوى؛ فكلنا نلاحظ كيف بدأت ترتفع في الآونة الأخيرة أصوات تعبر عن مقتها لواقعنا، وتصرخ من حناجر تائهة وتوّاقة لدماء الغيم؛ لقد اصطلحوا على تسميتهم بناشطي «الحراكات الشعبية» أو بجنود شبكات التواصل الاجتماعي؛ ومهما كانت المسميات، يبقى جميع هؤلاء أبناء حالة من «الإفاقة الشبابية» التي ما انفكت تأخذهم بعيدًا وتعيدهم إلى جوف مربعات «الهزيمة الأولى» حيث وضعت النكبة نطفتها فكبرت حتى تكوّنت شخصية العربي الذليلة الكسيرة المنكوبة.
إنهم شرائح مجتمعية جديدة ما زالت تبحث عن مراسيها في شوارع المدينة الإسرائيلية، وعلى أرصفة موانئ بعيدة. إنهم ابناء الغضب المأزوم وسعاة البرق، ماضون نحو الشفق، ولن ينتظروا نصائح الحكماء ولا مواعظ الشيوخ والفقهاء؛ فبعد أن اكتشفوا حطام قصص الأجداد وعنّات اللجوء وسكرات الذلّ وعربدات السلطان، قرروا أن يتمرّدوا على الرماد، وأن يمتشقوا أعواد المشانق ليحوّلوها إلى مصابيح، عساها تنير لهم عتمة الالتباس وتحررهم من عجز الوسائل؛ فالفرح عند العاشقين يسكن، هكذا علمتهم الوسائد، في غبار السرو وبين نثار النيازك. لا أعرف من سيجيبنا «ما النكبة» بعد واحد وسبعين عامًا؟ وكيف جاءت وإلى اين تمضي؟ لكنني أشعر أنها كروح السماء في الأرض باقية، ومرآة الملائكة وهم في طريقهم إلى قلوب البشر القاسية. النكبة لعنة من لا يتّعظ من عويل قلبه الدامي والمفطور عند أقدام السيوف المعربدة، وهي للودعاء الصابرين أم حانية.
ما النكبة وكيف يأتيها الأولاد وهم حفاة وعراة؟
لم تعِش مثلما عاش أهل المخيمات، ولا حتى مثل من يسعون وراء قرص الشمس حتى يخبزون رغيف عيشهم. عاشت في ظل عدل ضائع وحلمت مثل اترابها بان تنام كالغزالة وتصحو على شرفة الندى. فاجأتني عندما كتبت على صفحتها مستذكرة نكبة أكبر منها بخمسين عام فقالت: «71 عاما من القوة 71 عاما من الكفاح.. من المقاومة.. من التضامن.. من الظلم.. من الصراع على هويتنا، على أرضنا، على حريتنا، على حقوقنا وعلى وجودنا. كانت النكبة وستبقى جزءًا منا.. هي ليست مجرد ذكرى أو جزءا من التاريخ. فاليوم نحن نتذكر ونحترم أولئك الذين قضوا واولئك الذين نجوا.. واولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال والذين اقتلعوا ..شعلتنا لن تخبو ابدًا».
ما النكبة؟ لا ضير في الندوات ولا في الدراسات ولا في خلاصات المثقفين .. ولكن سيبقى المصير أقوى اذا كتبته ابنة لنكبة، لم تكن النكبة أمها.
كاتب فلسطيني