في الوقت الذي كانت فيه قيادات «النهضة» التونسية تتحدث فيه عن استعدادها لتقديم تنازلات جديدة، قد تشمل تخليها عن بعض السلطة حفاظاً على «المسار الديمقراطي» كان وفد من حركة طالبان الأفغانية يصل العاصمة الصينية بكين لفتح حوار وتأسيس علاقة استراتيجية، مستفيداً من التنافس الأمريكي الصيني المتصاعد.
قد لا يحبذ كثيرون المقارنة بين «النهضويين» الذين يعيشون على ما يبدو لحظة تراجع، والطالبانيين الذين حولوا حركتهم من مجموعة منبوذة متهمة بالإرهاب وملاحقة، إلى جسم ذي ثقل عسكري وسياسي لا يمكن تجاهله، على حد تعبير الناطق باسم الخارجية الصينية، إذا كنا نريد الحديث عن الأمن، أو السلم، أو حتى إعادة إعمار أفغانستان.
المقارنة، رغم الاختلاف في الظروف والجغرافيا وطريقة العمل، تفرض نفسها، فكلتا الحركتين يضمهما ذلك المصطلح الكبير «الإسلام السياسي» الذي يشمل بدوره طيفاً واسعاً من الحركات والمجموعات، التي تقول إنها تستمد شرعيتها من الدين الإسلامي الذي يجب أن يحكم حياة المسلمين.
على الرغم من هذا المنشأ المشترك، إلا أن الحركتين اختارتا مسارين مختلفين، ففي حين رأت الأولى الأخذ بالقوة، التي تستطيع عبرها فرض نفسها على المشهد السياسي، رأت حركة النهضة أن الرهان على اللعبة الديمقراطية والاستفادة من موجة ما يسمى بالربيع العربي، قد يكونا فرصة سانحة لها للصعود للمسرح السياسي مستندة على الذين يرون فيها ممثلاً جيداً لهم، ومحققا لآمالهم التي تشمل خيري الدنيا والآخرة. بعكس النهضة التي اجتهدت خلال السنوات الماضية لكسب الداخل والخارج، عبر إرسال رسائل مطمئنة مفادها أنها منفتحة على الجميع، وأنها ليست إسلامية بالمعنى التقليدي، كانت حركة طالبان ترفض تقديم أي تنازل، كما كانت ترفض التخلي عن سلاحها، أو وقف هجماتها، أو التصالح مع فكرة وجود الأمريكيين أو عملائهم في البلاد. تبدو اليوم حركة النهضة متراجعة، كما تبدو رهاناتها على المجتمع الدولي فاشلة، فالأخير لا يبدو متعاطفاً مع الحركة، على الرغم من كل ما قدمته، كما لا يبدو الأوروبيون مقتنعين بأن إزاحة المجموعة سوف تقود بالضرورة إلى عدم الاستقرار، الذي سيؤدي بدوره لتدفق أعداد جديدة من المهاجرين كما صرح الغنوشي. الحقيقة هي أن خسارة النهضة لم تبدأ يوم أن تلا الرئيس قراراته، وإنما قبل ذلك بكثير، وبالتحديد حينما تنكرت الحركة لشعاراتها ولبرنامجها الذي سمح لها بكسب قلوب الملايين، لتدخل السياسة من باب تقديم التنازل تلو التنازل، بحجة ضغوط الواقع الذي لن يسمح بوجود إسلاميين متشددين في البلاد. يوماً بعد يوم تحولت خطابات الحركة لكلمات بلا روح، أقرب لبيانات الأحزاب العلمانية والليبرالية من خطاب جماعة دفعت أثماناً غالية، وظلت تعلن أنها تناضل من أجل الشريعة، وأن أعداءها يكرهونها بسبب ذلك.
في هذا السياق تم تمرير القوانين التي تتعامل بحياد مع قضية الدين، بل عمدت الحركة، حتى على مستواها الداخلي، لفصل فريد من نوعه بين الدين والدنيا، ليصبح القسم الدعوي فيها مستقلاً عن الجسم السياسي وغير ملزم له بحجة أن علماء ورجال الدين قد لا يصلحون لفهم الواقع السياسي. ذلك التوجه الذي أدخل الحركة وسياسييها في حالة من السيولة الفكرية والعقدية، أصاب كثيراً من أنصارها والمتعاطفين معها بالإحباط، فإذا كانت الحركة ستقر في النهاية بالقوانين العلمانية، وتقتنع بضرورة فصل السياسي عن الدعوي، ففيمَ كانت تناضل طوال تلك العقود؟ ولماذا دفع كثير من شبابها أثماناً غالية في سبيل تحقيق شيء هو في الأساس موجود ولا خلاف عليه؟
المنتصر هو الذي يستطيع أن يحصد الدعم، ليس فقط من الجماهير، لكن أيضاً من مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والإعلام
ابتلاع مبادئ الحركة لم يكن خطيئة النهضة الوحيدة، وإنما كانت هناك الخطيئة الأكبر المتمثلة في التراجع عن مطالب الثورة، والسماح بارتباط «الكتلة الأكبر» بالفساد، وتعطيل إنشاء المحكمة الدستورية، للأسف فإن كل التنازلات التي تم تقديمها بشكل مجاني لم تقد إلى كسب أنصار جدد، أو تجعل الأعداء التاريخيين يتعاطفون مع النهضة، أو يعتبرونها شريكاً موثوقاً. كان ذلك يعني أن «النهضة» خسرت حلفاءها التقليديين، من الذين كانوا يرون فيها مثالاً للنضال من أجل الإسلام، كما لم تكسب ود منافسيها، أو حتى عامة الناس الذين كانوا ينتظرون أداء أفضل. هذا كله ساهم في أن تكون عملية «سحب البساط» سهلة وسلسة، خاصة في ظل الفشل والتراجع الاقتصادي، الذي لا يمكن أن تتنصل الحكومة من مسؤوليتها عنه.
أصحاب رؤية «السيولة السياسية» كانوا يروجون لأن طالبان لا مستقبل لها، فهي أولاً لا تجيد التفاوض، لأن التفاوض عندها يعني فرض رؤيتها فقط، وثانياً لأنها في حرب مع الأمريكيين وكان من الصعب على عقل هؤلاء تصور أن ينتصر أحد في حربه على القوة الأكبر، لذلك فإن الحل كان بنظرهم هو مفاوضات دبلوماسية مبنية على القبول بالتنازل، على الطريقة الفلسطينية، والعمل على كسب ود الأمريكيين، أو على الأقل اتقاء شرهم، الذي حدث هو أن طالبان قامت بما هو عكس ذلك تماماً، فتمسكت بمواقفها أكثر وأظهرت عداءها، ولم تتقبل وجود القوات الأمريكية العسكرية في أفغانستان، والآن تثبت مشاهد انسحاب الأمريكيين و»المتعاونين معهم» من الأفغان وقبول واشنطن الحوار مع طالبان، وفق شروط الأخيرة، أن الجاهل بالواقع لم يكن الحركة التي تتمدد الآن على رقعة واسعة، وتتعامل معها دول الجوار كشريك محتمل، بل أولئك «الواقعيين» الباحثين عن أسباب لتبرير ضعفهم.
منذ أن أعلن قيس سعيد قراراته التي أوقف فيها عمل البرلمان والحكومة انقسم الناس بين مؤيد ومعارض، وبدأ كل قسم باتهام الآخر بخرق الدستور والتعدي على القانون. هذه النقاشات لم تكن مجدية، لأنها تستبعد جانب القوة في المعادلة، فمن الثابت أن قيس سعيد لم يقدم على خطوته تلك فقط لاقتناعه برجاحتها القانونية، وإنما لثقته في دعم المكونات الصلبة للدولة، وعلى رأسها المؤسسات الأمنية والعسكرية، أما المجموعة التي كانت تظن أنها تحتكر السلطة، فكان انسحابها واجباً أيضاً ليس لأي سبب دستوري وإنما لافتقارها لأي سند صلب. تعيد هذه الأحداث إلى الواجهة مرة أهمية الجيوش ودورها في أي تغيير، ورغم أن كثيرين يقللون من دور الجيش التونسي، إلا أنه لا يمكن بأي شكل سحبه من المعادلة، فإذا كانت الأمور تتأرجح حتى اليوم بين فرقاء يتنازعون السلطة، فإن المنتصر هو الذي سوف يستطيع أن يحصد الدعم، ليس فقط من الجماهير، لكن أيضاً من مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والإعلام، أما الطرف الذي يراهن على الاكتفاء بالتمسك بما يسميها شرعيته فإنه سيخسر رهانه من دون شك. الدرس الأكبر الذي يمكن تعلمه هنا هو أن التنازلات وتمييع المواقف ومحاولة الظهور بمظهر المعتدل من أجل كسب تعاطف الجميع، سوف لا يقود إلى أي مكاسب وذلك أولاً لأن رضا جميع الناس غاية لا تدرك، وثانياً لأن الأعداء والمنافسين سيظلون ينظرون إليك كعدو مهما فعلت.
يذكّر ذلك بمصير الحركة الإسلامية السودانية في نسختها الترابية المعارضة لحكم البشير، التي تماهت مع فصائل المعارضة العلمانية، وراحت تفتخر بظهور قادتها مع ممثلي الحزب الشيوعي في جبهة موحدة. أولئك «الإسلاميون» تفاجأوا بعد سقوط البشير بأن رفاق نضالات الأمس لم يذكروا لهم كل ذلك وهم يضعون البيض كله في زنزانة واحدة.
كاتب سوداني
رأيت بأم عيني الغنوشي وهو يقول ما معناه أنه لم يعد مرتبطا بجماعته الأم ولا يرى في الاجتماعات الدولية التي كانت تضم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ولا في قراراتها أي جدوى.
ولم أكن أتخيل أن يتم في برلمان يضم الإخوان المسلمين، وحتى لو لم يكوِّنوا الأغلبية من ذلك البرلمان، بأن يُمرَّر قانون مثل القانون الذي يسمح بتساوي الميراث بين الابن والبنت في تعدّي صارخ وواضح على نص قرآني صريح وقطعي الدلالة، بل والتبرير له.
رأيت الغنوشي وهو يشرح بأنه أصبح يضع رابطة العنق (الكرافتة) وأنه لا يرى في ذلك حرجا ونحن معه في ذلك. لكن الطريقة التي برر بها ارتداءه لرابطة العنق أوْحَت للمشاهد أن الرجل بدأ يتنازل شيئا فشيئا عن ثوابته لكي يبدو للمشاهد وكأنه رجل متحضِّر لا يرى في المظاهر الغربية أي تناقض مع كونه مسلماً.
التنازل عن الثوابت يؤدي إلى بَهَتان (من باهِت أي عديم اللون) الشخص. يعني الميوعة في الشخصية تزداد كلما زاد التنازل، وكما ذكر كاتبنا الموهوب د. مدى الفاتح “لتدخل السياسة من باب تقديم التنازل تلو التنازل، بحجة ضغوط الواقع”.
ليعلم الجميع أن الحرب المعلنة وغير المعلنة هي على كل ما له علاقة بكلمة “إسلام”. وتقديم التنازل تلو التنازل لن يؤدي إلا إلى
يتبع
ميوعة من يعتبر نفسه ممثلا للإسلام، ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. ولن ترضى عنك صهاينة العرب حتى تركع لأولياء نعمتهم من الصهاينة الأصليين.
ليكن لنا فيما حدث في أفغانستان عبرة، فهل من معتبر؟
أحمد حمدي / ألمانيا
شكرًا أخي مدى الفاتح. مقارنة جيدة بلا شك، لكن لاننسى أن قيس سعيد منتخب بشكل ديمقراطي سليم لاينكره أحد. هذه هي نقطة القوة الرئيسية برأيي، وطبعًا هو يعلم تمامًا أنه يتمتع بدعم مؤسسات الدولة قبل الجيش وما حديثة عن الدماء إلا تعبيرًا عن ضعف خبرته السياسية. في المقابل بشار الأسد يملك الجيش ومؤسسات الدولة بكل بساطة لأنه لايوجد جيش ومؤسسات دولة أصلًا، فكلها تحت سيطرة مخابرات التظام وشبيحته. أما السودان فهو المرارة الكبرى لنا! حيث أن الجيش تابع للخارج أكثر من أي شيء آخر وهكذا مصر أيضًا. فالجيش الوطني هو الكفيل بالحفاط على الوطن، وفي حالة تونس هو كذلك وهو الذي دفع بن علي للهرب ومهد للربيع العربي.