يخطئ من يظن أنّ الحديث عن أدب نسوي ونقد نسوي هو الحديث نفسه عن المرأة التي تمسك القلم وتكتب للمرأة؛ بل يشمل الرجل الذي يتقمص كيان المرأة، ويتلبس قناعها ويكتب شاعرا بما تشعر به، مكابدا ما تكابده ودانيا منها دنوا قد لا تقدر على مثله المرأة نفسها.
لكننا إذ نتحدث عن المرأة مؤطرة بدلالة الأنثى ومؤنثة بجنسانية نقدية ليست تابعة ولا ثانوية؛ فإن ذلك مخصوص بالمرأة موضوعا مكتوبا، لكن ليس مشروطا في الكاتب أن يكون امرأة. بعبارة أخرى إذا كنا نتحدث عن كاتب يمكن أن يكون رجلا أو امرأة؛ فإن المكتوب لا بد أن يكون امرأة تحديدا وتخصيصا، كنص ذي شكل مؤنث ومضمون أنثوي.
أما إذا افترضنا إننا بصدد مكتوب للمرأة، وكاتب هو امرأة وليس رجلا؛ فإن ذلك نوع من جنسانية نقدية تستمد إطارها النظري من طروحات راديكالية نسوية أساسها النظر البايولوجي وليس المعطى الثقافي، ما يجعل النقد موسوما بأنه أنثوي أو أنه نقد أنوثي.
وتتعارض هذه الرؤية الجنسانية مع الرؤية الثقافية ذات الأطر التي تتعاضد ولا تتنافى مع التوجهات النقدية الانفتاحية، التي فيها الحوار والتناظر والاعتراف والتقبل فاعليات إنتاجية لا حدود تحدها ولا شروط أو قيود تحجم عملها، كما لا مصادرة فيها للآخر الذي هو ليس ندا ولا ضدا.
وما يجعل النسوية فلسفة هو الانفتاح والاتساع والامتداد بوضوح وجلاء، رغبة في مواجهة الأبوية ومغالبة منطقها في الاحتكار والقوة. ولا تعني تلك المواجهة تمايزا نوعيا أو ثنائية فكرية تصادمية؛ بل هي انتظام معرفي يتوحد ويتكامل، بقصد إثبات تعادلية الحياة بمنظورات الأبجدية الأولى للإنسانية وحتمية الوجود والتكوّن. والمرأة في أدبيات ما بعد الكولونيالية نص مكتوب وقيمة وجودية مخصوصة وقراءة مقصودة، وهذا خلاف ما تعمل عليه المنظومة الثقافية عندنا، التي ما فتئت تتحايل على النسوية، متمسكة بنظرتها الأحادية بكل اعتداد وجبروت، كي لا تدلل على وعي المرأة بالآخر ووعيه بها، غير آبهة بحتمية إعادة الاعتبار للخطاب النسوي الذي تتوزع إنجازاته الفكرية والإبداعية بين حقول المعرفة على اختلافها، ولا دافعة باتجاه الاستجابة لحتمية الوجود والكينونة.
وعلى الرغم من ذلك؛ فإن بالإمكان الإفادة من النقدية النسوية وما فيها من مفاهيم وتصورات، ووسائل أو آليات، في المساعدة على تفحص واقعنا، بما يمكننا من إعادة توظيفها في تفحص المنجز النسوي العربي، وصولا إلى نظرية نسوية صالحة لأن تنمو في بيئة عربية، وتنتج من ثم طروحات تتماشى مع تجارب النسوية العربية وتوجهاتها الكتابية.
وقد تعددت آراء الكتّاب أدباء ونقاداً، إزاء الإبداع النسوي وهي تحمل نظرا ازدواجيا، فهناك المؤيدون، وهناك المعارضون، وبضمنهم نسوة أيضا من اللائي اعتقدن أنّ من غير المنطقي تقسيم الإبداع إلى إبداع رجل وإبداع امرأة، أو أن النسوية موضوع آني سينقضي بانقضاء العنف تجاه النساء، وانتهاء الظروف الاجتماعية التي تضطهد المرأة وتهمش وجودها.. وغير ذلك من التصورات التي تؤكد الحاجة الماسة إلى دراسات ثقافية تسعى لإعطاء النسوية مكانها الصحيح. ولن يكون ذلك متحققاً على أرض الواقع ما لم يتم الحفر المعمق والمتمعن في واقع النسوية اليوم، مع التنقيب الجريء والفاعل بحثا عن مرتكزات كانت قد استندت إليها أصوات نسوية سابقة، ثم الاضطلاع في التشييد على قاعدتها بمزيد من الأبنية الجديدة الأكثر استطاعة في الاتجاه بالنسوية صوب تجلية المسكوت، وتعرية المستور، والبوح بخطر الخطاب الأيديولوجي الأحادي، وضرورة إقحام الجمالي فيه، تعبيرا عن فائدة الاختلاف وضرورة إشاعته فكريا وثقافيا.
ما عاد أمام النسوية العربية إلا أن تدلل على حضورها معنى ومعطى، صانعة لنفسها ذائقة مختلفة، كأن تؤسس لها معايير جديدة بشتى السبل الرسمية منها وغير الرسمية، وفي الوقت نفسه تلتفت إلى التراث الأدبي النسوي العربي، في محاولة إعادة قراءته والتركيز عليه ونفض التهميش عنه
ولا غرو في أن القوانين الوضعية والدساتير الأممية في بلادنا العربية، لم تضع المرأة في بالها إلا بالحدود التي استوجبتها اعتبارات مهمة وضرورية، متعاملة مع المرأة كخصوصية، فكان العمومي من تلك القوانين مراعيا الرجل، ومعمما على المرأة، لاسيما في ما يتعلق بالعلاقات المجتمعية والحقوق والواجبات المهنية. ومن المفيد جدا القيام بتصحيح مسارات القوانين الحياتية وتغيير رؤيتها الدوغماطية نحو المرأة، وأهم الأولويات التي ينبغي أن تنتبه إليها قوانيننا الوضعية، هي خصوصية المرأة طفلة ويافعة وشابة وكهلة، لأن لكل مرحلة من هذه المراحل جملة معوقات وتحديات ينبغي للمجتمع أن يقر بجدوى التصدي لها وتذليلها، عبر سنِّ الدساتير المجتمعية والقانونية، التي تحترم المرأة وتهتم بها بمثل اهتمامها بالرجل.
ولا يغيب عنا الدور الخطير الملقى على عاتق الكتابة النسوية، وكتابة النسوية معا في القرن الحادي والعشرين، حيث يسير العالم بتسارع مذهل، ولكنه متضاد أيضا. وهذا ما يجعل أمر التغيير والانقلاب مطواعا. وما على كتابات النسوية إلا أن يشدَّ بعضها عضد بعض، وأن يتكاتف أصحابها المؤمنون بها وصاحباتها المؤمنات بها في سبيل استعادة القيمة من جديد؛ وإلا فإن الرياح ستجري من دون أن تسير الحياة نحو الأمان، وقد تتهشم آمال النسوية على جادة الإقصاء والتهميش مثلما حصل في سالفِ العصور.
اعتقد جازمة أن هذا سيظل مرهونا بالعزم والتصميم، اللذين تتعاهد عليهما النسوية، مؤكدة قدرتها على امتلاكهما بقوة الإرادة والاستعداد لبذل التضحيات، مع عدم المهادنة في التنازل عن أي حق من الحقوق التي فرضها لها الوجود دينا ودنيا.
وللنساء العربيات في ذلك النصيب الأوفر والأعظم، فهن بعددهن وعدتهن وإمكاناياتهن قادرات على التأثير ومتمكنات من حمل عبء كبير مما تقدم، ولا بد من أن يتآزرن على موقف واحد معليات أصواتهن ومعلنات عن تطلعاتهن بلا وجل ولا كتمان، نافضات عنهن عهودا من التحجر والاحتجاب، رافعات عن أعينهن غشاوة الخوف وغمامة الوجل، منتقمات من حقب الظلم والفشل والقسوة واللامبالاة، عازمات بجدية لامتناهية على بلوغ ما يطمحن، ومصممات على قهر التهميش، كي يكون لهن حضورهن في خريطة الحياة بكل صنوفها.
وإلى أن يأتي ذلك اليوم تظل النسوية تحت طائلة الإشهارية الشعارية كمشروع غير ناجز وكيافطة احتفائية لا إنجازية فيها وكبرامج مرجأة واستثنائية وأحلام مؤجلة لا عاجلة وبوادر طارئة لا أساسية.
وإذا ما كُتب لكل ما تقدم أن يتحقق، فإن السلام والخير سيعمان الوجود، ولن تغدو الحروب والنزاعات أمرا واقعا ومفروضا؛ بل ستضحى أمرا طارئا وقابلا للحل كأبسط ما يكون. وعندها سيكون الحلم المثالي قابلا للتحقق، كاحتمال ليس مستحيلا بالمفهوم الأرسطي، فما بين الممكن المسموح سيحضر أيضا المتاح الكائن، وكذلك سيحضر المحال الذي يمكن أن يكون واقعا متحققا أيضا. وبإمكان الكتابة النسوية أن تحقق هذا الواقع المأمول وتحيله معقولا، بالتكاتف الذي فيه تنكشف حقيقة الهيمنة الذكورية، التي ما أرتنا إلا الدماء والوحشية، وجعلت الحياة سوداوية، منذ ذلك اليوم الذي صادرت فيه الوجود النسوي، ولم تعد المرأة هي الحاكمة وهي الحكيمة التي تشارك الرجل ولا تمتهنه، وتعاونه ولا تصادره وتعتد به مثلما يعتد هو بها.
ويقيناً ما عاد أمام النسوية العربية إلا أن تدلل على حضورها معنى ومعطى، صانعة لنفسها ذائقة مختلفة، كأن تؤسس لها معايير جديدة بشتى السبل الرسمية منها وغير الرسمية، وفي الوقت نفسه تلتفت إلى التراث الأدبي النسوي العربي، في محاولة إعادة قراءته والتركيز عليه ونفض التهميش عنه، وبما يبدد خطر التبعية للهيمنة الذكورية.
٭ كاتبة من العراق