تعتبر العلامات اللغوية، خاصة المفهومية منها، بمثابة مفاتيح إجرائية، تمدنا بإواليات معرفية، من شأنها تنظيم الفوضى الدلالية التي يصطدم بها الوعي، خلال بحثه عن المعنى. والملاحظ، أن هذه العلامات غالبا ما تكون محملة بأصداء خطابات، وبآثار مقاربات، كانت من قبل طرفا أساسيا في تشكل خصوصيتها، عبر فضاءات مكانية وزمانية مختلفة. الشيء الذي يحول دون حفاظها على نقائها وصفائها الدلالي.
فالعلامات الأصلية، المتعلقة بقطاع معين من القطاعات الثقافية، تؤكد قابليتها الدائمة للتنازل عن غير قليل من مقوماتها، على قاعدة تبنيها المتجدد، لما تنتجه الصيرورة المعرفية من إبدالات، إذ من خلال هذه القابلية، يستطيع أصل العلامة أن يتنقل بسلاسة بين الأمكنة والأزمنة، باعتبار أن المفهوم العلاماتي الموحي بجدته وبحداثة ظهوره، يمكن أن يحيلنا بشكل أو بآخر، على أكثر من مقابل موضوعي له، في حقول مفاهيميـــة قديمة.
على أساس أن حركية الصيرورة، لا تكون مجبرة بالتزام مسار خطي، ومستقبلي الوجهة. إذ بإمكانها أيضا، أن تأخذ شكل إيقاع ارتدادي، أو حلزوني على سبيل المثال لا الحصر.
وكما هو ملاحظ، نحن نشير في هذا السياق، إلى البعد التناسخي الذي يتميز به الأصل. من منطلق بحثه الدائم عن هويته المتحولة بتحول ما يضطلع به من مهام ومن وظائف. بمعنى أن شرط استمرارية البعد الأصلي للعلامة، يكمن في تكييفه للشروط التاريخية، التي يتواجد فيها، من خلال إخضاعها لسلطته المعرفية والإجرائية.
وفي حالة انتفاء شروط تفاعل هذا البعد الأصلي، قد تكتفي العلامة بالإعلان عن حضور رمزي، تمارس فيه أدوارا ومهام دلالية، لا علاقة لها بخصوصيتها المعرفية، ولا ترقى إلى وظائفها الجوهرية. علما أن أمد توظيف هذا الحضور الرمزي، يمكن أن يطول، بما يؤدي إلى انزياحها بعيدا عن أفقها الخاص، لتندمج في أنساق غريبة عنها، بانتظار صدفة معرفية ترد لها الاعتبار، واضعة إياها من جديد في الاتجاه الصحيح. وعلى غرار سوء التلقي، الذي كثيرا ما تصطدم به النصوص العالية، يمكن أن تواجه العلامات المفهومية هي كذلك، بعائق سوء التناول، على امتداد أزمنة طويلة، إلى أن تحظى في لحظة استثنائية ما، بحضورها الموضوعي والطبيعي .
فهذا الواقع، بوصفه إشكالا معرفيا، يدعونا إلى ضرورة توخي الحذر، في تعاملنا مع غير قليل من العلامات، التي عانت من مضاعفات حجر فكري أو إبداعي، حال دون تموضعها في المشهد الثقافي، مؤثرا سلبا على إمكانية تفاعلها مع محيطها بصورة عقلانية، حيث إننا وفور اقتناعنا بنهايتها، نفاجأ باستعادتها لديناميتها بصيغة جديدة. وهي ظاهرة تدعونا للاحتفاظ بهامش إعادة القراءة، وإعادة التأويل، قصد إتاحة الفرصة للعلامات ككل، كي تجدد قابليتها للكشف عن أسرارها. فالعلامات المنظوماتية والمقولاتية عموما، تمتلك بحكم قانون التأقلم والتكيف، كل الإمكانيات الكفيلة باستعادة حضورها، باعتبار أن الوجود الأصلي للعناصر، واقعية كانت أو استعارية، لا يعدو أن يكون مادة أولية، معززة باحتمال تناميها وتكاملها، على ضوء استفادتها من المساحات المعرفية، التي يمدها بها تحول الأزمنة والأمكنة. باعتبارها فسحة، تعدنا بآفاق لم تكن من قبل حاضرة في الحسبان. كما أن التأكيد على مساحة الاحتمال، هو في حد ذاته تأكيد على إمكانية تلقي إشارات لا منتظرة من صوت، فكرة، أو دلالة، حيث يعد الاحتمال رحما، يتجدد فيه تشكل ما كان من قبل موضوع إجهاض. أي بما هو فرصة متاحة من جديد للنواة الدلالية، كي تجرب حظها في الوجود.
لا يمكن أن نتلذذ بإيقاع علامة ما، وهي محفوفة بكل مستويات الصخب المحايث لها. بمعنى أن قراءتنا لها عن بعد، هي الكفيلة باستعادة جوهرها المنسي.
إنه فضاء حيوات، وفضاء إبدالات ممكنة، وفي الوقت نفسه، فضاء العدم التام.
فكلما امتدت المسافة الزمنية الفاصلة بيننا وبين العلامات، إلا وتيسرت إمكانية الإنصات، حيث يسمح الصمت الزمني، بتبين نبرات الدلالة التي يجهر بها المفهوم. كما أن النص كلما كان قريبا زمنيا، كان محفوفا بدوامات صوتية وتأويلية، تضج بصخبها المؤدي إلى طمس ملامحه، وإحداث حالات من الالتباس في منهجية التعرف، خاصة حينما تتسرب عناصر جانحة، إلى الصوت الأساسي، المعني بالإنصات. هنا تحديدا، لا يكون التعدد الصوتي من طبيعة دلالية، بقدر ما يكون نتاج تسرب الأصوات الغريبة إلى صوت العلامة. ولعل تتالي التسربات، والاختراقات الخارجية، والمحايثة، هي مصدر التلوينات الغريبة، والطارئة على هويتها. ما دامت اللحظة الزمنية/التاريخية، تجسد الإطار الموضوعي لتتالي سلسلة طويلة من الاختلافات والتماهيات. وكلها عوامل تندرج ضمن العناصر العامة، الفاعلة في تكوين النواة الدلالية للعلامة. إنها بمثابة قدر ملازم لها، الذي من أجله، وبسببه خلق البعد الزمني، الذي بقوته يمكن للنصوص وللعلامات، أن تحيا أو تموت.
تبعا لذلك، فإن الزمن يصبح الإطار الفعلي الذي يمنح هذه الكائنات المعرفية الحق في الوجود، من خلال شحنها المتواصل بالأنساق المعرفية المحايثة لها. إن الأمر قد يتعلق بصدفة تواجد العلامة زمنيا، في كنف الشروط الكفيلة بإثراء دلالاتها، التي تبدو شبيهة بحقل غواية، يستدرج إليه الفراشات والضوء والهديل، وكل سمفونيات الغبطة المعرفية. أيضا، تعتبر الصدفة الزمنية، بمثابة إطار فارغ تماما من أي دلالة ثابتة ونهائية، كما لو أنه ممر حتمي، تعبره الإشارات الفردوسية والجحيمية. ولعل أهم ما يزكي ذلك، تسرب إشعاعات دلالية دخيلة، تزرع فيه نوعا من جاذبية الاختلاف، الموحية بمصداقيته، باعتبار أن حضور الاختلاف، هو دليل حضور حياة دلالية مغايرة وجديرة بالاهتمام. وعلى الرغم من الدينامية الداخلية التي يمكن أن تتميز بها العلامة، إلا أنها تظل عرضة لفقدان جاذبيتها في حالة تواجدها داخل ظلمة الأمية والكراهية، أو اللامبالاة، حيث يكون مصيرها الفناء المبكر، الذي يلزمها بالخلود إلى الصمت لأزمنة طويلة، قبل أن تتمكن من استعادة نبراتها المسموعة، وأحيانا المدوية.
فنحن لا يمكن أن نتلذذ بإيقاع علامة ما، وهي محفوفة بكل مستويات الصخب المحايث لها. بمعنى أن قراءتنا لها عن بعد، هي الكفيلة باستعادة جوهرها المنسي. غير أنه، سيكون من المستحيل، القول بحضور إمكانية الإنصات إلى الخصوصية الكلية للعلامة. ما دامت هذه الخصوصية هي أيضا، تنبني على ضوء الأصوات الحافة بها. مع استثناء نسبي للعلامة الدينية، التي تظل باستمرار، رهينة لتلك الأصوات المختلطة والمتداخلة، بفعل التزامها بخوض غمار تواصلاتها الزمنية والمكانية، والسعي إلى ترسيخها، ضدا من أي عائق محتمل، بخلاف العلامة الشعرية أو الفلسفية، التي تخوض البحار ذاتها بصيغتها الخاصة، حيث يمكن القول، إن العلامة الدينية لا تستطيع أبدا أن تستمتع بلذة الصمت، كي تتفرغ لتأمل دواخلها.
إنها علامة منذورة لرهبوت تعدد أعمى، بفعل حرصها العنيد على التواجد في فضاءات خاصة الخاصة، كما في فضاءات عامة العامة، لذلك، فإنها غير مهيأة للاختلاء بذاتها في مسكن النسيان المؤقت، الذي يتيح لها فرصة استعادة ما قل من جوهرها. إنها علامة مستحضرة ضدا منها، بفعل عامل موضوعي ما، أو بدونه. وجاهزة للمشاركة في كل الطقوس المقترحة عليها، بدءا من طقوس الموت، وطقوس التيه والرعب، وانتهاء بطقوس اللذة والانتشاء.
إنها العلامة التي لا تدين لحضورها الأبدي، بأي اختصاص معرفي ثابت ومحدد، أو بمؤسسة مجتمعية معينة. لأن قوتها تكمن في تلك التواجدات التي لا يمكن أبدا إخضاعها لأي منطق ثابت. مادام بعضها يمحو البعض الآخر، أو يعيد تثبيته.
إنها تتآكل هنا، كي تتجدد هناك، جدليا أو عشوائيا، لا فرق مادامت قادرة على الاحتفاظ بوجودها في هنا، كما في الآن.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
بعد قراءة ما نشره المغربي رشيد المومني تحت عنوان (الهجرة المتجدد للعلامة) فهمت فرض التغريب على كل شيء في هذا الموضوع بداية من الدين ومفهومه له، ولذلك السؤال هنا لماذا؟
خصوصا وأن أهل ما بين دجلة والنيل مهد تدوين لغة الحضارة الإنسانية،
اخترعوا علم التدوين للغة مثل ما تُنطق تُكتب، من أجل جمع كل قراءات ألسن العرب، لكتابة لغة القرآن بنص لغوي واحد، وهذه عبقرية لغوية خلقت كل علامات الوقف التي تكلّم عنها رشيد المؤمن.