باريس ـ «القدس العربي»: في الأيام الأخيرة، كثرت التصريحات الروسية والتصريحات التي سربتها وسائل إعلام غربية عن مصادر روسية دقيقة وأخرى أوكرانية لم يتم الكشف عن هوياتها بشأن ما سُمي «الهجوم الأوكراني المضاد الكبير» والذي أكد الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين، يوم الجمعة الماضي أنه «بدأ» على الجبهة، مشدداً أن قوات كييف لم تتمكن من «تحقيق أهدافها» في أي من ساحات المعركة، في وقت أشاد فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في اليوم نفسه (الجمعة) بـ «بطولة» جيشه. وعشية ذلك، قال معهد الأبحاث الأمريكي لدراسة الحرب، المشهور بتغطيته الشاملة للنزاع في أوكرانيا، في تحليل نُشر يوم الخميس، إن «عمليات الهجوم المضاد جارية في جميع أنحاء المسرح الأوكراني» متوقعاً «حصول انتكاسات أولى للقوات الأوكرانية نظرا لكثافة خطوط الدفاع الروسية».
لا بد من الإشارة هنا إلى أن يومي الرابع والخامس من شهر حزيران/يونيو الجاري شهدا سلسلة من تصريحات وتلميحات تصب كلها في موضوع هذا الهجوم المضاد. ففي يوم الأحد الماضي حظي فيديو سربته وزارة الدفاع الأوكرانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي برواج كبير ظهر فيه وزير الدفاع الأوكراني وعدد من الجنود الأوكرانيين وهم يلبسون بزات عسكرية ويدعون مشاهدي الفيديو للزوم الصمت وذلك من خلال الاكتفاء بوضع بعض أصابع أياديهم على أفواههم في إشارة صامتة إلى أن شيئا ما يحدث.
رأى العديد من مشاهدي هذا الفيديو القصير من الأوكرانيين أو غير الأوكرانيين على أن فيه دليلاً على أن الهجوم الأوكراني الكبير على القوات الروسية قد بدأ لإنهاء سيطرتها على المناطق التي احتلتها أو على الأقل لاسترجاع جزء من هذه المناطق على غرار ما حصل خلال فصليْ الصيف والخريف الماضيين، حيث تمكنت القوات الأوكرانية في أواخر شهر آب/اغسطس الماضي من القيام بهجوم مضاد سمح لها باسترجاع بعض المواقع في مقاطعة خيرسون الواقعة في جنوب البلاد، قبل أن تُسيطر مجدداً في شهر أيلول/سبتمبر الذي يليه على مساحة ألفين وخمسمئة كيلومتر مربع من خلال هجوم مضاد على القوات الروسية في عدة مقاطعات يقع جزء كبير منها في شمال البلاد الشرقي، في مقدمتها مقاطعات خاركيف ودونيتسك.
تحريك الجبهة الشرقية
إذا كانت جبهات القتال بين القوات الروسية والأوكرانية تشهد منذ أشهر عمليات كر وفر من قبل الطرفين، فإن منطقة الدونباس الواقعة في الشرق الأوكراني عرفت خلال الأيام الماضية تحركا ملحوظا من جانب القوات الأوكرانية تعامل معه الجانبُ الروسي باعتباره مؤشرا على بداية «الهجوم المضاد» الذي تقول كييف إنها تعد إليه منذ فترة طويلة. وقد دأب الروس على التأكيد على أن قواتهم توصلت إلى دحر العدو في كل المحاولات التي يقوم بها لاسترجاع الأراضي التي يسيطر عليها الروس. وفعلا ذكرت وزارة الدفاع الروسية قبل أيام أنها صدت «هجوما كبيرا» في الدونباس وقتلت العشرات من الجنود الأوكرانيين حاولوا اختراق الدفاعات الروسية في المنطقة. وأضافت أنها أتلفت دبابات مدرعة ومعدات عسكرية أخرى. وسعى الروس إلى التوثيق إلى ذلك من خلال فيديو بثوه على المنصات الإلكترونية. ولكن الخبراء العسكريين أكدوا أن الفيديو ربما يكون مزورا شأنه في ذلك شأن فيديوهات كثيرة أخرى يطلقها الطرفان الروسي والأوكراني من حين لآخر في إطار الحرب النفسية والإعلامية القائمة بين الطرفين لرفع معنويات المقاتلين وتثبيط عزائم العدو.
الملاحظ أن الجانب الأوكراني لم يؤكد ما ذهب إليه الروس من أن تحرك جبهة الدونباس يعني بداية الهجوم المضاد. ولكنه شدد على أهمية التقدم الذي أحرزه المقاتلون الأوكرانيون في الجبهة الشرقية قرب مدينة باخموت. وذكرت مصادر روسية غير رسمية أن القتال مستمر فعلا بين الجنود الأوكرانيين والجنود الروس من حول المدينة التي نجحت القوات الروسية في السيطرة عليها في شهر أيار/مايو الماضي.
بين معارك زاباروجيا وانفجار سد نوفاكاخوفكا
بصرف النظر عما إذا كان الهجوم الأوكراني المضاد قد بدأ أم أنه ما يزال في طور المشروع، فإن الأوكرانيين نجحوا في الأيام الأخيرة في تحريك جبهة القتال في منطقة زاباروجيا في جنوب أوكراينا الشرقي. فقد أعلن وزير الدفاع الروسي يوم الثامن من الشهر الجاري أن قوات بلاده تصدت لهجوم أوكراني وأن العدو «تكبد خسائر» بشرية وعسكرية فادحة. ولكن مصادر أوكرانية عدة تؤكد العكس وتقول إن الأوكرانيين تفوقوا على خصومهم في هذه المعارك لأنهم استخدموا فيها معدات غربية متطورة جدا منها دبابات ومدرعات وصواريخ أثبتت جدواها. وشددت هذه المصادر على أهمية إشراك ألوية جديدة في هذه المعارك تم التوصل إلى إنشائها من خلال الموارد البشرية الأوكرانية التي أرسلت إلى دول حلف شمال الأطلسي خلال الأشهر الأخيرة والتي تلقت دورات تدريبية على فنون القتال كما تمارَس اليوم من قبل جنود الدول الأعضاء في هذا الحلف.
ويرى عدد من الخبراء العسكريين أن هذه الدورات التدريبية كان لها دور كبير في تحريك عدة جبهات قتال في الحرب الروسية الأوكرانية الأمر الذي أربك الطرف الروسي وجعله يدمر سد نوفاكاخوفكا الواقع في منطقة خيرسون أي في جنوب البلاد والقريب من شبه جزيرة القرم التي اجتاحتها القوات الروسية في عام 2014 وتصر روسيا اليوم بكل الطرق على الاحتفاظ بها أيا تكن نتائج الحرب الجديدة التي تشنها على أوكرانيا منذ شهر شباط/فبراير عام 2022. من بين هؤلاء الخبراء الفرنسي غيوم أنسيل وهو ضابط سابق برتبة مقدم في الجيش الفرنسي ومحلل متخصص في الاستراتيجيات العسكرية. ويقول هذا الخبير العسكري إن روسيا هي التي أقدمت على تدمير السد حتى تحبط كل محاولة جادة لتسجيل انتصارات أوكرانية في الجبهة الجنوبية القريبة من شبه جزيرة القرم. ولكن الجانب الروسي يوجه تهمة تدمير السد إلى الطرف الأوكراني ويرى أنه ليس لديه مصلحة في القيام بمثل هذا العمل.
جبهة بيلغورود الجديدة
أيا تكن القراءات بشأن تحرك جبهات الحرب الروسية الأوكرانية التقليدية، فإن عددا من المحللين العسكريين يرون أن أهم ما في الاستراتيجية الأوكرانية اليوم هو حمل المعارك إلى داخل العمق الروسي. وهذا الطرح كان حلفاء كييف وما يزالون يحذرون من عواقبه. وتقود الولايات المتحدة الأمريكية الطرح الذي يقول إن في نقل المعارك إلى داخل التراب الروسي مخاطر جسيمة، وهو ما يفسر التقاعس الأمريكي في تسليم أوكرانيا دبابات أبراهامس وطائرات افــ 16.
بيد أن اشتعال جبهة «بيلغورود» الجديدة في الأيام الأخيرة يدل فعلا على أن أوكرانيا بدأت تعي أهمية شن هجمات داخل التراب الروسي دون اللجوء بالضرورة إلى دبابات ابراهامس وطائرات إف 16 الأمريكية. وقد أقر الروس بأن منطقة بيلغورود الواقعة في الغرب الروسي شهدت معارك ضارية، لكنهم ذكروا أنهم توصلوا إلى صد الهجوم الأوكراني. وسواء نجحوا في هذا المسعى أو فشلوا فيه، فإن المعلومات التي تناقلتها عدة مصادر غربية وحتى روسية تؤكد أن كييف تستخدم في الهجوم الجديد الذي تسعى إلى تكراره في المناطق الروسية القريبة من الحدود الأوكرانية مقاتلين متمرّسين في القتال يقودهم بولنديون.
تريد أوكرانيا من وراء ذلك التأكيد على أنه إذا كانت مجموعة «فاغنر» الروسية شبه العسكرية سندا مهما للجيش الروسي في عمق الأراضي الأوكرانية، فلدى كييف اليوم مجموعات مقاتلين خارج إطار جيشها قادرة على ضرب روسيا في عقر دارها. ويتجلى ذلك من خلال فتح جبهة بيلغورود الجديدة في عمق الأراضي الروسية. كما يتجلى الأمر من خلال قدرة أوكرانيا على الوصول عبر الطائرات المسيرة إلى العاصمة الروسية موسكو. وهذا ما حصل قبل أيام ما يجعل عددا من الخبراء العسكريين يقولون اليوم إن نقل المعارك إلى داخل التراب الروسي هو الذي يشكل عصب الهجوم الأوكراني المضاد وليس تحريك جبهات القتال التقليدية. بينما شدد الرئيس الروسي فلاديمير الجمعة على أن أوكرانيا ما تزال تملك «قدرات هجومية» رغم فشل هجومها المضاد حتى الآن، على حد قوله.