قامت إحدى اللجان المهتمة بالثقافة في اليونسكو بإحصاء معدّل ساعات القراءة للفرد الواحد في السنة في مختلف البلدان، وكانت النتيجة 234 ساعة للمواطن البريطاني، 156 ساعة للفرنسي و78 ساعة للسنغافوري.. وكانت حصة العربي كارثية: ثانية واحدة معدّل ما يقرأه الشخص الواحد في بلداننا العربية في السنة.
يقول بورخيس: «لو طُلب منّي أن أذكر أهمّ حدث في حياتي لقلتٌ إنه وجود مكتبة أبي». بالنسبة إليّ، المفصل الأهمّ في وجودي هو أنني عشت طفولتي في بيت أهلي في مدينة العمارة. كان اسم الحيّ «بستان عائشة»، ويضمّ المنزل، بالإضافة إلى أجنحته العديدة الواسعة، أربع حدائق ونافورة. العمران نسخة مطابقة لما كانت تبنيه الطبقة المتوسطة العليا في تركيا أتاتورك، الواقعة تحت سحر الحداثة. المنزل المليء بالمحبّين يجعل من العسير على صبيّ حسّاس مثلي مغادرته، لغرض المطالعة في مكتبة المدينة الواقعة في حيّ غير بعيد اسمه بستان الجدّة. كنت أذهب إلى المكتبة راكباً دراجتي الزرقاء اللون وأصل في أول دقيقة من الدوام. في الخارج ياسمينةٌ ترمي أغصانها بحبّ على السياج، تخاريم من نور الشمس ترتعش مع اهتزاز الأغصان في الريح، تغطي بوابة المكتبة المصبوغة بالأبيض. حديقة صغيرة في الداخل، ويقابلك البهو المخصص لاستعارة الكتب. كل شيء هنا يضيء ويشتعل، والجوّ مفعم بالودّ الذي ينبغي أن يلازم كل عملٍ يُراد له النجاح.
تأخذ ورقةً من على سطح الطاولة العالية. تبتسم الموظفة الشابة لك، وتخبرك بصوت خفيض يشبه الهمس طريقة استعارة الكتاب. بسبب الصمت الكبير تُسمع أدق الأصوات، فيما يبين من وراء زجاج النوافذ الواسعة بهاء الأشجار في الخارج. تتكلم الموظفة بطلاقة لسان وبثقة بالنفس وبلطف. عليك أن تبحث في بطاقات الفهرست أولاً، تدوّن اسم الكتاب، ورقمه، مع اسم دار النشر ورقم الطبعة، وتكتب اسمك في الأخير، ومهنتك وعنوانك، وتوقّع. أنت تعرف هذا، لكن الموظفة تعيد عليك الكلام نفسه في كل مرة. إنها تعاليم مدير المكتبة. بطاقات الفهرس يضمّها كوميدونو من خشب الصاج المدهون بالأصفر الذهبي. بعد دقيقتين من الانتظار تأتيك الموظفة بالكتاب، وتغادر مستثاراً بصحبته. الظلال المخملية للياسمينة على السياج آخر من يودّعك.
يقول بورخيس: «لو طُلب منّي أن أذكر أهمّ حدث في حياتي لقلتٌ إنه وجود مكتبة أبي». بالنسبة إليّ، المفصل الأهمّ في وجودي هو أنني عشت طفولتي في بيت أهلي في مدينة العمارة.
كان بيت أهلي يمثّل لي عالماً روحياً متكاملاً كأنما ولدتُ منه ثانية، ولم يكن يدور في خلدي أني أستبدله بهذه المكتبة، رغم وجود مديرها الذي يطلب مني أن أجرّب البقاء في قاعة المطالعة وإنهاء الكتاب، وهو يراني أستبدله مرتين في اليوم بطريقة الإعارة الخارجية. تحتاج الذات المراهقة لإسنادها إلى كتابين، واحد في النهار، وآخر في اللّيل. أعود إلى المكتبة قبل انتهاء الدوام المسائي لاستبدال الكتاب. المدير رجل قصير القامة ومتواضع، إلى درجة أنه يقوم بدور البستانيّ عند غيابه، بدون إعطاء الأمر كبير أهمية. كان يستغرب سرعتي في القراءة، وقال لي ذات يوم وهو يتحسّس كتاباً مفتوحاً بأطراف أصابعه، وينظر إليّ بعينين واسعتين، حصيفتين، متوسلتين:
لا تتعجّل بالقراءة يا بُنَيّ. أنت لا تقرأ بعينيك ولا بعقلك، إنما بيديك، تتحسّسان كل كلمة كما لو كانت منحوتة.
كأن كرامة كانت تسكن هذا الرجل وتشعّ من حوله، وأنا استعيد ذكراه بعد هذا الكمّ من السنين. حتى اللحظة، أرى الحروف ناتئة في صفحات الكتب مثل نقش بارز. رغم كل شيء، لم يستطع المدير إقناعي بمغادرة بيت أهلي، الأم الثانية التي أنجبتني. يكون العناد مثمراً أحيانا، وهكذا كان عنادي.
تبعثر أثاث هذه المكتبة العظيمة بين أسواق بيع المزاد في أيام الانتفاضة، بعد حرب تحرير الكويت، وبيعت كتبها على الأرصفة في أحسن الأحوال، إن لم تكن قد أُحرقت واستعملها الناس وقوداً. بعد الغزو الأمريكي عام 2003 تهدّم المبنى ثم أُقيم مكانه بناء هزيل، ولكن أين الثرى من الثريّا! علماً أن البناية الأولى قامت في خمسينات القرن الماضي في عهد لم يكن النفط يكوّن سوى نسبة قليلة من اقتصاد البلد. الآن، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من ذلك الماضي السعيد، زمن يفاعتي وشبابي الأول، قرّرتُ أن أزور المكتبة التي ابتعدتُ عنها كثيراً في المكان، بل إني لم أذهب إلى ذلك الحيّ منذ سنين عديدة. مدينة العمارة كلها اختلفت، الشوارع موحلة والأكياس المستعملة وقناني المياه وعلب السجائر الفارغة في كل مكان. النهر الذي كان قريباً من الشارع ابتعد كثيراً حتى غدا شبه ساقية. والغبار، الغبار، الغبار يغطي كل شيء ماحقًا إياه، حتى وجوه الأطفال. اختفت شجيرة الياسمين من واجهة المكتبة، والحديقة الجميلة اندثرت بين الأزبال، وبدل الأثاث الأنيق تطالعك الآن رفوف من الحديد الفظّ عليها بضعة كتب مثقلة بالغبار، ومبعثرة. الموظف الوحيد في المكتبة كهلٌ ذو لحية شعثاء وهندام يليق بحوذييّ أيام زمان، كما أن له صوتا جهوريّا خشنا يصيح به طول الوقت على زوجته وطفليه، وللقارئ أن يذهب ببصره ويتخيل ثوب الزوجة والطفلين، وهذا الرجل الفظّ هو الوالي. ثم تفهم بعد السؤال والملاحظة أن الكهل اتّخذ المكان بيتاً له. الطبّاخ في جانب الصالة المخصّصة للمطالعة، والفراش والأغطية مكوّمة عند الزاوية. فترى على الجانبين من الصالة نفسها رفوفاً من الحديد الصّدئِ، وكتباً مبعثرة لم يكلّف أمين المكتبة – أي الكهل- نفسه إزالة التراب الثخين عنها ليجعل عناوينها مقروءة على الأقل.
ماذا حلّ بقاعة المطالعة؟ وأين هي صناديق الفهرست البديعة التكوين؟ بل أين هي الكتب التي كانت ترتفع رفوفها إلى السّقف؟ لا يوجد ما يشير إلى استعارة خارجية أو داخلية في المكتبة. لا أحد هنا غير هذا الجلف الذي لم يكتفِ بأن جعل المبنى بيتاً له، بل إنه قام بفتح بوابة المكتبة الرئيسة مباشرة على دورة المياه، ومن يريد أن يقضي حاجته من المارة في الشارع يقصد المكان الذي نُقشت على سياجه الخارجي لافتة: «دورة مياه عامة. وأجرة الدخول 500 دينار»، أي نصف دولار تقريباً.
بقيتُ أسير في الشوارع، ثم دخلتُ المقهى القريب حيث دخان السجائر الثقيل شديد الزرقة. لا عقل في رأس بني آدم يستوعب أن هذا الرجل القميء كان يعمل موظفا للإعارة في المكتبة، وأميناً وبستانياً وحارساً ومديراً! هذا هو حال المؤسسات التابعة لوزارات الدولة. فليس من الغريب أن تجد مدير المعمل أو المدرسة أو الجامعة يعمل حارساً وميكانيكياً وعامل خدمة في الوقت نفسه، والأمر كلّه يعود إلى الجشع والطمع والعين التي لا تشبع إلّا بجمع هذه الوظائف والرواتب كلّها، ولا يملأ عين بني آدم في الأخير إلا التراب.
عدت في اليوم التّالي ووجدت الكهلَ القميءَ يجلس بكلّ بلادة على كرسيّ عند الباب الخارجيّ، بجواره طاولة وصحن يجمع فيه النّقود من الذين – يقضون حاجتهم – مثلما يقولون هنا، في دورة المياه القذرة التي تتوسط المكتبة العامة في المدينة.
لن أزور هذا الحيّ بعد الآن، ولن «أعتّب» هذا المكان ثانية!
بالإضافة إلى التخلص من الأرق، وإدراك الوجود، تنمّي قراءة الكتب لدينا عادة النظر إلى العالم بشكل مختلف. كلّ ما موجود أمامنا له نظير حقيقي على الورق. نقرؤُه، ونتذكّر أننا شاهدناه من قبل، ثم نسيناه، وتعود ذكراه إلينا مثل الصدى، ويأتي اكتشافنا له هذه المرة عن طريق الذاكرة، الغرفة التي نجتمع فيها مع أسلافنا بدون أن نشعر. نحن نستقبل الماضي أثناء القراءة بقلب فاضٍ، كل ما طُبع على زجاج السنين تزيل عنه الغبار الكلمات على الورق. الأجيال التي تمرّ تروي للقادمين الجدد ما رأته، والخبرة تتقوّى بتراكمها، بمعنى أن خبرتنا بالأشياء تزداد بواسطة المعرفة التي تهيّأت لأجدادنا الغافين في ذهننا المضمر، أي وجداننا، المكان الذي يطلق عليه العلماء اسماً شاعرياً هو اللاّوعي، وتنتقل إلينا هذه المعرفة عبر الزمن بواسطة الذاكرة التي تحيي بطريقتها الشيفرات المغمورة في التراب مع عظام أجدادنا، وهكذا تتكون لنا رؤية جديدة للعالم. الأسلاف يترعون كأسنا في كل صفحة نقرؤها وفيها مشروب منعش لم نتذوّقه من قبلُ. هذه الحقيقة تفسّر لنا لماذا بقيت الشعوب التي بلا حضارة مكتوبة في بدائيتها، رغم مرور آلاف السنين عليها. إنهم يعيشون في غشية السّحر والإيمان بالخرافة والطقوس الغريبة في تفسير وإدراك الغموض الذي يكتنف الكون.
أخبرني القاصّ محمود عبد الوهاب مرةً إنه لا يستطيع الخروج إلى الشارع، والتكلّم مع الناس إذا لم يقرأ مدة أسبوع واحد فقط. سبعة أيام كافية كي يتحقّق النسيان وعندها يواجه المرء الحياةَ وهو أعزلُ إلّا من خبرته. لقد تخلّى عنه أسلافه وتركوه وحيداً في المعركة.
الفرق بين العيش في سلام عن غيره يحدّده حرف الجرّ الذي يتوسّط عنوان المقال: الهروب من، وإلى المكتبة. تخيّلوا وجود مزاول تدور في سمائنا ترصد هروب قاطني بلدانها المعمورة من وإلى المكتبات، وتنقل الصورة مباشرة إلى الأعلى.
كي أعبّر عن تأثير كتب الأدب عليّ أستعير مشهداً قصصياً للكاتب البرازيلي ماتشادو ده أسيس (1839 – 1908) في قصته «دونا باولا».. يعلن لها عشيقها عن حبه وهي خارجة من المسرح متأخرة عن زوجها بخطوات. شعرتْ فجأة بدم مختلف يجري في عروقها: «حدث هذا في المسرح الغنائي ذات مساء، وكنا نوشك على مغادرته. كان يأتي إلى مقصورتي ليرافقني إلى العربة. وعند خروجنا، نبس بثلاث كلمات». الكلمات الثلاث هذه جعلت العاشقة تنفصل عن زوجها في طريق العودة بكل روحها وجسدها: «لم أكن قادرة على الجلوس ساكنة. نظرت من خلال نوافذ العربة، ومن وقت إلى آخر لم يكن في وسعي أن أرى سوى وهج مصابيح الشّارع، ثم لم يعد في وسعي حتى أن أرى ذلك، وبدلاً منه رأيت الشّرفات العليا للمسرح والسلالم وجماعات الناس، ورأيته بجواري يهمس في أذني بتلك الكلمات ثلاث كلمات لا غير…».
أصغى كلّ منّا ذات يوم إلى مثل هذه الكلمات الثلاث، وتغيّرت بعدها حياته. بالنسبة إليّ، حدث الأمر مع شعر محمد سعيد الحبوبي أول مرة في بداية تسعينيات القرن الماضي في أثناء استراحة الظهيرة، بعد يوم شاقٍّ من العمل. تناولت غدائي، وطالعت قصيدتين من الديوان، لم أستطع البقاء بعدها في مكاني فنزلت إلى الشارع، وكنت أنظر إلى ما حولي تماماً مثلما جرى للسيدة العاشقة في قصة الكاتب البرازيلي. كنت أردد مع نفسي الكلمات الثلاث، وأرى كلّ شيء تغيّر. تكرّر الأمر ذاته بعد انتهائي من قراءة قصص «رغوة السّحاب» لمحمود عبد الوهاب. كنت أجلس في مكتبة تطلّ بنافذتها على الطريق المؤدي إلى السوق، أتممتُ الكتاب وخطرت أمام ناظري امرأة ورأيتها فجأة بصورة جنّية مبحرة على الأمواج، والهواء الرطيب مثل دمٍ أبيض يلّون جسدها المختفي وراء قميص أصفر وتنورة سوداء. بعد تينك الخطوتين أحسب أنه صار في مقدوري أن أقوم بالخطوة الثالثة وأدخل وطني الجديد: جنة الأدب.
الفرق بين العيش في سلام عن غيره يحدّده حرف الجرّ الذي يتوسّط عنوان المقال: الهروب من، وإلى المكتبة. تخيّلوا وجود مزاول تدور في سمائنا ترصد هروب قاطني بلدانها المعمورة من وإلى المكتبات، وتنقل الصورة مباشرة إلى الأعلى. سنة إثر سنة والمكتبات في العراق تخلو من الزائرين، إلى أن أصبحت منسيّة. في سنواتي الأولى في القراءة كنت ألجأ إلى بيت أهلي في «بستان عائشة»، وصار البيت مكتبتي. ما أكثر المكتبات التي قضيت فيها أسعد الأوقات في مدن العالم التي زرتها، أو سكنتها، لكنّ ذلك البيتَ ذا الحدائق الأربع يبقى مكتبتي الأثيرةَ، إلى حدٍّ أظن فيه أنني لم أخرج من ذلك البيت أبدًا.
٭ طبيب وقاص من العراق
((( ماذا حلّ بقاعة المطالعة؟ وأين هي صناديق الفهرست البديعة التكوين؟ بل أين هي الكتب التي كانت ترتفع رفوفها إلى السّقف؟ لا يوجد ما يشير إلى استعارة خارجية أو داخلية في المكتبة. لا أحد هنا غير هذا الجلف الذي لم يكتفِ بأن جعل المبنى بيتاً له، بل إنه قام بفتح بوابة المكتبة الرئيسة مباشرة على دورة المياه، ومن يريد أن يقضي حاجته من المارة في الشارع يقصد المكان الذي نُقشت على سياجه الخارجي لافتة: «دورة مياه عامة. وأجرة الدخول 500 دينار»، أي نصف دولار تقريباً.))).كل هذا وتقول ((( أيام الانتفاضة )))؟
استعمال المزاول خطأ، لأن المزولة ساعة شمسية مثبتة في فضاء مفتوح، فكيف يمكن تصور مزولة تصور؟
سرد قصصي واقعي لواقع نعيشه في العراق حصرا والكاتب د.حيدر من جيلي وانا من جيله وهو زميل لي في الدراسة والمهنه فقد كنا سويا في الاعدادية المركزيه في العماره وفي كلية الطب جامعة بغداد….وما طرحه الاخ الكاتب هوطرح موفق……فقد عرض التراجع القهقري في المجال الثقافي رغم أن هذا التراجع هو مركب ومتعدد الابعاد سياسيا واجتماعيا وثقافيا وحتى دينيا…….والماضي فينا صار غرسا وهشيما تذروه الرياح…..والحاضر في ذمة الله بعدما حررت شهادة وفاته وكل ذلك بفعل فاعل مع سبق الاصرار…..تحياتي
{{قامت اليونسكو بإحصاء معدّل ساعات القراءة للفرد في السنة، وكانت النتيجة 234 ساعة للبريطاني، 156 ساعة للفرنسي و78 ساعة للسنغافوري.. وكانت حصة العربي كارثية: ثانية واحدة في السنة.}}
لعبة الأرقام هذه لا يُلجأ إليها إلا في العالم الرأسمالي المتعجرف والمهووس بالتراتبيات. كيف حسبوها (ثانية واحدة في السنة معدل قراءة العربي)؟
كنت أود لو قاموا بإحصاء من يقرأ من الحكام العرب .. و لا تحتاج بعدها لإحصاء من يقرأ تحت حكمهم . لو كان حاكمنا يقرأ لحمل المجتمع على القراءة. أشكرك !