الذي يتابع “حفلة الزار” التي يقيمها ويشيعها الإعلام الغربي، قد يتخيل أن يوم القيامة سيحل غدا، وأن مركز جهنم ربما يكون في أوكرانيا، التي تحشد روسيا على حدودها جيشا بكامل عتاده من مئة ألف جندي، بوسعه احتلال أوكرانيا في عشرين دقيقة، فيما تمد أمريكا وبريطانيا جسورا جوية كثيفة إلى “كييف” عاصمة أوكرانيا، تنقل إليها مئة طن عتاد حربي متطور كل يوم، إضافة لمئات ربما آلاف من المدربين العسكريين، مع سحب الرعايا المدنيين والدبلوماسيين، وتعبئة لحشد 50 ألف جندي من أمريكا وحلف الأطلنطي في شرق أوروبا المجاور لأوكرانيا، وكل ذلك من أجل الضغط على فلاديمير بوتين قيصر الكرملين، وردعه ومنعه من إطلاق رصاصة الجحيم الأولى.
وفيما تبدو موسكو هادئة الأعصاب، ويدير بوتين لعبته الخطرة ببرود لاعب الشطرنج المتمكن، ويمضي وقته بالفرجة على انفلات أعصاب غريمه الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي التقاه واقعيا وافتراضيا لمرات، ونصحه في كل مرة ربما على سبيل النكاية، أن يلتفت إلى أحواله الصحية، فيما تبدو صحة بايدن الثمانيني العمر إلى تدهور مضاف، ولا يتمالك نفسه بسبب استفهام مباغت من مراسل محطة “فوكس نيوز” في البيت الأبيض، سأل الرئيس عن زيادة معدل التضخم وأثره في مستقبله السياسي، ولم يرد بايدن، وإن التقط الميكروفون الحساس همهماته، وهو يشتم مراسل المحطة التلفزيونية الموالية تقليديا لمنافسه اللدود دونالد ترامب، وينعته بالغبي و”ابن…”، ثم نصح المساعدون رئيسهم بلم الموضوع والاعتذار هاتفيا للمراسل ففعل فورا، في واقعة تكشف ضعف اتزان بايدن، الذي تمنى في مؤتمر صحافي قبلها بأيام، أن يكون توغل قوات بوتين محدودا في أوكرانيا، وهو ما أفزع حليف واشنطن في كييف الرئيس اليهودي فولوديمير زيلينسكي، بما دفع بايدن إلى إعادة تصحيح أقواله، وإلى عقد اجتماع عاجل مع مجلس الأمن القومي الأمريكي، ووضع الآلاف من قوات الجيش الأمريكي في حالة تأهب قصوى، وتنظيم اجتماع افتراضي مع قادة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والاتحاد الأوروبي، وتسريب اتفاقات مع أوروبا على خفض استيراد الغاز الروسي بنسبة 43% والبترول بنسبة 20%، وهي تهديدات أقل كثيرا من عقوبات تهدد بها واشنطن موسكو في حالة غزو أوكرانيا، وتصل إلى الخنق الكامل للاقتصاد الروسى الضعيف نسبيا (1.7 تريليون دولار)، وحظر تصدير التكنولوجيا الإلكترونية المتقدمة إلى روسيا، من ألعاب الفيديو حتى برامج “الحوسبة” وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فيما بدت ألمانيا بالذات، وهي صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأكبر، أقل حماسا في التعاطف مع أوكرانيا، وفي التوسع بالعقوبات ضد موسكو، ورفضت توريد أسلحة إلى كييف، وبين موسكو وبرلين خط الغاز الضخم “نورد ستريم ـ 2″، المنافس الأعظم لخط نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، فيما تتلاعب موسكو بأعصاب الحلفاء عبر الأطلنطي، وتوقف من جانبها تصدير الغاز الروسي ضغطا على الدول الأوروبية، وتقرر إجراء مناورات بحرية بالقرب من شواطئ أيرلندا، وكأنها تريد نقل التهديد العسكري من مناورات الشرق في بيلاروسيا إلى الساحل الغربي لأوروبا، والرد مباشرة على مناورات مقررة لأمريكا وحلف الأطلنطي في البحر المتوسط، والوصول بخط سير الحوادث والمناورات والحشود إلى حافة الرعب النووي.
أوكرانيا تحولت إلى أسخن مسارح الحرب الباردة الجديدة، ولا يبدو أن واشنطن قد تكسبها، وهي التي خرجت ذليلة مستنزفة قبل شهور من أفغانستان
ولا تبدو موسكو في عجلة من أمرها، فمطامحها أبعد من أوكرانيا الخائفة المنشقة على نفسها، وفيها خمس السكان من أصول روسية، والجوار الجغرافي يمنح موسكو ميزة الدعم المباشر لجمهوريات منطقة “الدونباس” الأوكرانية، الراغبة بالانفصال والانضمام لروسيا، التي تزود حلفاءها بما يحتاجونه من سلاح، يفيد في الضغط على الاتجاهات الموالية للغرب في كييف، وقد تحتاج موسكو في وقت لاحق إلى غزو عسكري خاطف، على نحو ما فعلت عام 2014، حين قررت انتزاع ” شبه جزيرة القرم” وميناء “سيفاستوبول” من أوكرانيا، وكان بايدن حينها نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما، واكتفت واشنطن مع الاتحاد الأوروبي وقتها بتوقيع عقوبات اقتصادية على موسكو، تحلل أثرها مع مرور الزمن، ومع فرض وقائع جديدة، نسي معها الغرب جبرا قصة “القرم”، التي صارت روسية، في حين دفع بوتين إلى الواجهة بقضية الانفصاليين الروس في شرق أوكرانيا، ووقع مع فرنسا وألمانيا وأوكرانيا نفسها اتفاق “مينسك”، الذي ينص على توسيع الحقوق القومية والحكم الذاتي للروس في أوكرانيا، وهو ما تريد برلين وباريس، الأضعف ميلا لمسايرة “الهستيريا” الأمريكية ضد موسكو، أن تجددا مفاوضاته اليوم، في سعي أوروبي للتهدئة مع موسكو، التي يتقاطر إليها وزراء وقادة غربيون، بينما موسكو تبتسم للمذعورين، وتؤكد أنها لا تنوي غزوا لأوكرانيا في المدى المنظور، وأنها تكتفي بحشد قواتها داخل حدودها، وتصمم على مطالبها المودعة خطيا لدى واشنطن، وأهمها وقف توسع حلف الأطلنطي شرقا، والتعهد كتابة بعدم ضم “أوكرانيا” و”جورجيا” للحلف، والاعتراف الواقعي بعودة روسيا إلى دور عالمي، استنادا لقوتها العسكرية والصاروخية والنووية المتفوقة، مع بقاء التهديد باتخاذ “إجراءات عسكرية وتقنية صارمة”، إذا ما جرى التلكؤ في تلبية مطالب بوتين، وهو ما ترى واشنطن في قبولها هزيمة مذلة، وإن اضطرت للرد كتابيا طلبا لتفاهم مع موسكو، فليس عندها من بديل، اللهم إلا التسويف في قبول إلحاح كييف بتسريع ضمها إلى الحلف، درءا لاحتمالات الغزو الروسي، فليس بوسع الجيش الأوكراني مهما تلقى من سلاح، أن يصمد لدقائق في مواجهة الجيش الروسي، وليس بوسع أمريكا وحلف الأطلنطي الاستجابة لمطالب الرئيس الأوكراني المفزوع، ولا الدخول في صدام حربي مع موسكو، قد لا ينتهي بغير تدمير العالم كله عشرات المرات، وهو ما يشجع بوتين على المضي قدما إلى حافة الهاوية، تسريعا لإذعان واشنطن عمليا لمطالبه، ومواصلة حرب الأعصاب إلى أقصى حد، ودفع أوروبا للانشقاق الفعلي عن واشنطن، فبوسع صواريخ تطلق من غواصة نووية روسية واحدة، أن تدمر عواصم أوروبا كلها في غمضة عين، ودول الاتحاد الأوروبي تدرك خطر أصغر خطأ في الحساب الاستراتيجي، وتبدو أقل اندفاعا في معاندة موسكو، التي عادت تعزف على إيقاع العصر السوفييتي، وتسعى إلى عكس الهزائم التي لحقت بها بعد انهيارات موسكو الشيوعية السابقة، وتحلل الاتحاد السوفييتي ونهاية “حلف وارسو”، وحنث واشنطن بوعود سابقة أعطتها لموسكو غورباتشوف ويلتسين، وضمها لدول أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلنطي “الناتو”، وتعدي حدود عام 1997، وضم المجر (هنغاريا) وبولندا والتشيك، ثم ضم بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا عام 2004، وضم جمهورية “الجبل الأسود” عام 2017، وصولا إلى ضم جمهوريات البلطيق الصغيرة (ليتوانيا ـ لاتفيا ـ أستونيا) الملاصقة تماما لروسيا، وهو ما يعني نصب شبكات الصواريخ والأسلحة النووية الأمريكية لصق حدود روسيا، وهو ما جابهته روسيا بوتين بالقوة المباشرة، على نحو ما فعلت في “جورجيا” أواسط عام 2008، بعد شهور من دعوة أمريكا لضمها إلى حلف الأطلنطي، وكان الرد غزوا روسيا خاطفا لجورجيا، وانتزاع إقليمي “أبخازيا” و”أوسيتيا الجنوبية”، ومن وقتها ابتلعت واشنطن لسانها، ولم تعد تتفوه بكلمة عن ضم جورجيا لحلف الأطلنطي، وهو غالبا ما ستفعله واشنطن في حالة أوكرانيا، التي وجهت لها دعوة الانضمام ذاتها منذ عام 2008، ومرت 14 سنة دون تنفيذ، فلم يعد بوسع واشنطن تحدي اعتبارات موسكو الأمنية، ولا مواصلة الاستفزازات والإهانات، على نحو ما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما، حين وصف موسكو بأنها صارت “قوة إقليمية” لا قوة عالمية، ومع ذلك لم يجرؤ على مواجهتها عسكريا وقت غزوة “القرم”، ولا جرؤ الرئيس الأمريكي الحالي بايدن على ردع موسكو بعد تدخلها العسكري السريع الحاسم مؤخرا في كازاخستان، ومساحة الأخيرة تعادل مساحة أوروبا الغربية بكاملها، وهي عضو في “منظمة الأمن الجماعي” التي تقودها موسكو، وتضم إليها بيلاروسيا وأرمينيا وقيرغزستان وطاجيكستان وكازاخستان، وأعلنت عام 2002 عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان، وبدت كمحاولة من بوتين لاستعادة أراضي الاتحاد السوفيتي السابق أمنيا، وكتعويض عن غياب “حلف وارسو”، مع تقوية أواصر التحالف الوثيق مع التنين الصيني الزاحف عالميا، وبناء مشهد استقطاب جديد على القمة الدولية، تعادل فيه قوة الصين الاقتصادية قوة أمريكا، وتتكامل فيه قوة روسيا العسكرية مع قوة الصين الكبرى، وتضعان معا حدا نهائيا للعربدة الأمريكية، على نحو ما حدث ويحدث في أوكرانيا، التي تحولت إلى أسخن مسارح الحرب الباردة الجديدة، ولا يبدو أن واشنطن قد تكسبها، وهي التي خرجت ذليلة مستنزفة قبل شهور من أفغانستان.
*كاتب مصري
والسؤال الصعب هو هل ستكون أوكرانيا الشرارة للحرب العالمية الثالثة؟!!!!!
هذه كلها مقدمات لحرب عالمية ثالثة والله أعلم
شكرًا أخي عبد الحليم قنديل. خطر حرب عالمية لايبدو في الأفق وأعتقد أن الخاسر الأكبر في هذا الصراع ستكون أوكرانيا. ورغم أني أعتقد أن البادئ أظلم أي أن الخطأ الأساس هو محاولة أمريكا ضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي وهذه قباحة أمريكية في الحقيقة لأنها تمثل تهديد مباشر لروسيا بالإضافة إلى كونها تخالف تعهدات سابقة، لكن ليس أقبح من سياسة أمريكا هذه إلا سياسة بوتين وخير مثال هو الإحتلال الروسي لسوريا ودعم مجرم الحرب بشار الأسد.