أمام ضياع المشروع البصري العربي بين الغربي والمحلّي وتداخل التّقنيات والعلامات الفنيّة، ظلّ مصير القطع الفنيّة البكتوغرافيّة، والأعمال البصريّة الخطيّة التّرقيميّة ضبابيا، وبقيت المدرسة الجماليّة العربيّة تُراوح بين التّهجين والتّدجين، إثر غياب الشّخصيّة التّشكيليّة المستقلّة. من هنا كان حضور الخطوطيّة العربيّة منذ التّاريخ العتيق (7000سنة ق.م) عبر الجداريّات والنّقش على الصّخور وهو ما يعبّر بجدارة عن جذور تشكّل وتطوّر المبحث المشرقي والمغربي (المغاربي) في تقابليّة متكاملة فيها وقوف جدّي وتحدّي وتصدّي للتأثير البصري الغربي وما يتضمّن من فنون وتقنيات تحولت بفضل النظرية والفلسفة والهندسة والرّياضيّات والميكانيكا والتشريح والمقاربة والمنطق إلى مدارس عالمية يتمّ تدارسها في الشمال والجنوب وفي الشّرق والغرب.
فشكّل تطوّر الهندسة الخطوطيّة العربيّة خاصة بعد ظهور الإسلام علامة بارزة ومحضنة تطوير وتنوير عملت على توجيه الحروفيّة التّوجيه السّليم من المسار الشّفوي اللّساني (القراءة، التّجويد) إلى المسار البصري التجريدي (التّدوين، التّدوير، التّمديد، الإكمال، التّسطير، التّنصيل، الزّخرفة). ولا أحد ينكر ذلك أساسا فأولى آيات النصّ القرآني بدأت بكلمة «إقرأ» ما يحيلنا إلى إعجاز السّجع والشعريّة الذي تحوّل شيئا فشيئا إلى نظام تجريدي رمزي يختزل الصورة والصّوت في الخط. فرقعة الخط بتناسقها الزّخرفي البديع الهندسي المحدّب والمُقعّر، والنّباتي المستدير والمقوّس، تحيل إلى سياقات دلالية سيميائية عناصرها الرّمز والصّورة، وذلك من خلال الآيات التي تحتوي على سور ومقاطع وعلامات وترقيمات، وهو ما يمثل أوج الشأن البصري في أبهى تجلياته. لكن اللّسان كنظام صوتي حروفي مكمل للصورة والرمز الخطوطي لم يتولد إلا بعد نضوج وتراكم ثقافي ومعرفي فكانت عوالم اللّغة في العصور الأولى بالحجاز والجزيرة العربية صامتة ثرية باِستعاراتها واِختزالاتها ومقاطعها الصُّوَريّة التي تعلّقت بمصادر الحياة، كالنّيل والفرات مضمّنة الإحالات الضرورية للحياة والدين والعاطفة (الحصاد، الصيد، القرابين…).
إنّ المتّأمّل في بدايات الخطوطيّة العربيّة يلحظ المعطى الصُّوري، حيث أنّ الصوت كان غائبا والصّورة حاضرة في المعاملات والعبادات والتعبيرات. برز الخطّ الصّوَري كوسيلة ماديّة محسوسة فرضتها الحاجة البشريّة واِرتبطت نشأتها بثلاث خصائص، من ذلك:
الخاصيّة الإنشائيّة المعاشيّة (الاقتصاديّة، التّجاريّة): وهو ما يرتبط بتبادل ومقايضة السّلع والمنتوجات. حيث اِختار الإنسان مراكز اِستقرار حيويّة واِستراتيجيّة بجانب الأنهار وعلى ضفاف البحر وفوق الأراضي الخصبة، ما مكنّه من اِنسيابية ومرونة في التعامل والتبادل مع نظيره الوافد. من هنا ظهرت المخطوطات المحمولة الأولى على رقاقات الحجارة كنتوءات وحفر متوازية تسجّل عدد وحجم البضائع المتبادلة، وذلك بِاِعتماد الكتابة الصُّوَريّة ذات البعد الملموس الذي يتضمّن مقاطع قصيرة، تقتصر على الجانب العملي المرتبط بالمقايضة (عدد السلع، طبيعتها، مصدرها) مثال: بيكتوغرافيا البقرة الباكية التي تعود إلى ما قبل الفترة الهيروغليفية الأولى ( 5000 سنة قبل الميلاد) إضافة إلى مجموعة من النقوش الصّخريّة تمثل صورا للجمال وعددا من الأنعام الأخرى ومشاهد الصّيد التي توثّقها الجداريّات المصريّة العتيقة خاصة في أوج الحضارة الفرعونيّة.
الخاصيّة الإنشائيّة الاِعتقاديّة: وهي الفترة التي ترتبط بالمقدّس وظهور الآلهة، فكان الفرد يعمل جاهدا على إرضاء المقدّس عبر القرابين والاحتفاليّات والولائم والهدايا التّحفيّة المنقوشة والمرقوشة، اِرتبطت هذه الفترة بالخصب والنّماء وضمان السّلامة والدّوام على الأرض باِعتماد الكتابة المقطعيّة الأولى التي بدأت تتشكل وتتّجه نحو التّرميز والتّجريد. كما أنّ جهل الإنسان للطبيعة والبراري والضواري جعله يبتكر الآلهة التي ظلّ يتقرّب منها درءا لكل مكروه، ويتبنى نشاطات طُقوسيّة متعدّدة (الشّمس، القمر، المعبد) التي اِعتمدها اليونانيون القدامى فيما بعد، وأحسن مثال على ذلك الكتابة الهيروغليفيّة التي طوّرت أشكال تقديمها عبر تضمين رموز وأشكال مختصرة، منها مشاهد الحصاد(الوفرة) ومشاهد الصّيد (القرابين) ونقوشات السّمك (الغنى والسلامة) ومشاهد العرش (القوّة والفتوّة).
الخاصيّة الإنشائيّة العاطفيّة: وهي ما يختلج في صدر الإنسان من عواطف جيّاشة (الحبّ، الغضب) من ذلك اِستعمال علامة التّقاطع للتّعبير عن الرّفض وعدم الرّضا وعلامة التّوازي للتّعبير عن الموافقة والرّضا، سيما باِعتماد الكتابة المقطعيّة الثَّانية (مقاطع بجمل أطول) والكتابة المسماريّة التي تختزل العديد من المعاني في رموز وأشكال قليلة (التّجريد). فكانت رغبة الفرد في التّعبير بمثابة مقياس لنفسيته ومخبر تحليل سيكولوجي لتبيان تطوّر الاِحتياجات الذاتية والاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة والأخلاقيّة ومحرارا لرصد تدرُّج المنحى البصري.
شكّل هذا التباعد والتّباين في الاِتجاهات والتّوجّهات رافدا مهما من روافد التّنوّع والثّراء، عمل على خلق حيويّة حروفيّة حتى خارج الإطار التدبيري التّعليمي وبمعزل عن المقتضيات القرآنية النصيّة (القراءة، السّجع، التّجويد). فشكّلت الدّلالية السيمولوجيّة اِختزال العنصر الصّوتي في العنصر البصري أو دمج اللّسان مع العين في ثنائيّة موحّدة لا يمكن فصلها عن بعضها، ساهمت في تنشئة وإنعاش شخصيّة ثقافيّة خطوطيّة عربيّة قادرة على مسايرة نسق التطوّر والتحوّر بِإدماج عناصر مجدّدة من خلال الاِنفتاح على المحيط، منها العناصر النّباتيّة والهندسيّة والزّاوية الحادّة والمنفرجة والتّلاعب بالخطّ الليّن واليابس والتّضخيم والتّفخيم وتمطيط وتنزيل المقدّمة واِستدارة المُؤخّرة وما قدّمه في القرن التّاسع الميلادي العالم والخطّاط اِبن مقلة (886- 939م) من نظريّات وإضافات في تحديد الحروف والتّنقيط اِزدهرت في العصر العبّاسي ووضعت الحركة الخطوطيّة في المقدّمة إبّان الفترة المملوكيّة. عدد آخر من المُطوّرين ساروا على نهجه أمثال اِبن البوّاب وياقوت المُستعصي الذي كان كاتبا لآخر خلفاء الدّولة العبّاسيّة المستعصم باللّه (1213-1258). هذا الاِنتشار الواسع للنشاط الخطّي خارج الخريطة العربيّة ساهم في إثرائه فظهر النستعليق (النسخ + التّعليق) في بلاد فارس وآسيا الصّغرى وخطّ الغبار والطّغراء في الدولة العثمانيّة (تركيا) والأخير يمثّل أختام السّلاطين والملوك ولا يستعمل للكتابة. حركة تقديره وتطويره من طرف العثمانيين أدّت إلى تصدير ثقافي غير مسبوق للغرب عبر البندقية وصقليّة والأندلس لينتشر بسرعة في شرق أوروبا وغربها، فنهلت منه الأمم وتبنّته الثقافات وتغذّى وتأثّر به التيّار الأرابسكي (الباب العالي، المشرق العربي، البندقيّة) والتّيّار المورسكي (المغرب العربي والأندلس).