هذه هي الديمقراطية الأضخم عالمياً، بمعنى الأرقام أوّلاً (قرابة 900 مليون ناخب، ونحو مليون مركز اقتراع)، وزمن التصويت (سبع مراحل، على امتداد 39 يوماً)، والإنفاق المالي على الحملات الانتخابية (سبعة مليارات، ويكفي التذكير بأنّ الهيئة الانتخابية صادرت مليار دولار من المصروفات غير الشرعية). في الانتخابات السابقة، سنة 2014، كانت الأرقام هكذا: 551 مليون ناخب، صوّتوا في 930,000 مركز اقتراع، واستهلكوا من حبر التصويت قرابة 15,000 لتر! وقبل إغلاق تفصيل الأرقام هذا، يجدر التذكير بأنّ هذه الديمقراطية الهائلة تعاني، في المقابل، من عجز رهيب في تمثيل الأقلية السكانية المسلمة: في ولاية أوتار براديش، التي يسكنها 43 مليون مسلم، لا يوجد في البرلمان أيّ نائب مسلم؛ وتمثيل الهنود المسلمين لا يتجاوز 24 نائباً، من أصل 543، وهي الأدنى منذ 1952 لنسبة 15٪ من إجمالي السكان؛ كما أنّ «حزب الشعب الهندي»، الحاكم منذ 2014، لم يقدّم أيّ مرشح مسلم.
انتهت عمليات الاقتراع بالأمس، وآلت إلى فوز «حزب الشعب الهندي»، بزعامة رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي، بعدد من المقاعد يفوق ما كان قد أنجزه في انتخابات 2014، بحيث تعزز موقعه في احتكار الأغلبية للمرّة الثانية على التوالي؛ وتلك نتيجة لم تكن منتظَرة حتى من جانب الحزب الظافر. ذلك لأنّ الوعود الاقتصادية الوردية، التي كانت ثاني عناصر صعود مودي وانتصاره في الدورة السابقة، لم تبلغ النتائج المرجوّة في ناظر الناخبين الهنود، خاصة في ميدان مكافحة الفساد وتقليص نفوذ الشركات الكبرى والعملاقة التي تُعدّ الحليف الأبرز لرئيس الوزراء. وأمّا العنصر الأوّل، أي إحياء النزعات القومية والدينية الهندوسية، على حساب المذاهب والأديان الأخرى وخاصة الإسلام، فقد تمتّع بدرجة عالية من الثبات، وبعض الاشتداد أيضاً؛ وشكّل، استطراداً ومجدداً، عامل الفوز الأوّل.
وفي هذا السياق، لم يكن ينقص مودي سوى العملية الإرهابية التي شهدتها بلدة بولواما، في منطقة كشمير المتنازَع عليها مع الباكستان وذات الحساسية الهندوسية ــ الإسلامية، منتصف شباط (فبراير) الماضي، وأودت بحياة 40 جندياً هندياً. لقد أسقط رئيس الوزراء محرّماً عمره عقود، فأرسل القاذفات الهندية لقصف مواقع الجهاديين في داخل الأراضي الباكستانية؛ ثمّ نفض الغبار، أكثر من أيّ وقت مضى، عن خطاب التحريض القومي والتحشيد المذهبي؛ وأعاد تدعيم صورته (التي كانت قد تهلهلت، في الواقع) كزعيم قويّ حريص على أمن الهند وسلامة أراضيها وجيشها (ومعابدها الهندوسية، بالطبع!)… وهكذا، بقدرة هذه المؤثرات المترابطة، نفخ الحياة في معنويات أنصاره الراكدة، فتراجع السخط إزاء اعتلال الاقتصاد إلى مرتبة خلفية، وتقدّمت حمّى الفخار القومي والمخاوف الأمنية والعصبيات الدينية.
وبمعزل عن المآلات المنطقية لمسار كهذا، يخصّ علاقة الطرد التاريخية التي تُسند إلى الإرهاب، وخاصة ذاك الذي يتقنّع بالدينيّ والمذهبي، في إبعاد السياسة عن السجال في الفضاء العامّ؛ فإنّ انتصار مودي وحزبه في انتخابات 2019 يشكّل انتكاسة نوعية جديرة بالتأمّل، وأخذ الدروس، لدى كلّ حريص على ديمقراطية الهند ونظامها وأمثولاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنولوجية… فالخاسر هنا ليس «حزب المؤتمر» وتراث السلالة الغاندية العلماني والليبرالي، والرابح ليس «حزب الشعب الهندي» بتوجهاته القومية والهندوسية، رغم صحّة هذه الخلاصة في صناديق الاقتراع؛ وإنما الخاسر هو تلك الأمثولات الكبرى التي صنعتها الهند في التاريخ الحديث للمجتمعات والدول النامية، أو شعوب ما بعد الاستعمار في التوصيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأدقّ، أو حتى البلدان النامية والعالمثالثية في توصيفات الماضي وأواسط القرن المنصرم.
انتصار مودي وحزبه في انتخابات 2019 يشكّل انتكاسة نوعية جديرة بالتأمّل، وأخذ الدروس، لدى كلّ حريص على ديمقراطية الهند ونظامها وأمثولاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنولوجية
وفي عداد متغيرات الخسارة الهندية أن يقع مرشح آل غاندي، راهول، الذي يحدث أنه ابن راجيف غاندي ويتزعم الحزب أيضاَ، تحت تهديد خسران مقعد الأسرة البرلماني التاريخي في مركز أميتهي؛ على يد مرشحة «حزب الشعب»، سمريتي إراني، نجمة المسلسلات الميلودرامية، والشخصية الشعبوية القوموية، ثمّ الأهمّ: وزيرة الإعلام السابقة التي حاولت فرض قيود على حرّية الصحافة حين تولّت الوزارة. وفي عداد الخسارات أن يعود الحزب الحاكم إلى عزف أسطوانة المعبد الهندوسي الذي يتوجب بناؤه على أنقاض المسجد، أو تسعير العداء ضدّ المسلمين عن طريق ترشيح غلاة الهندوس (وذوي السوابق الجنائية ضدّ المساجد) في قلب الدوائر الانتخابية ذات الأغلبية المسلمة. ولعلّ الخسارة الأخطر هي انجراف الحزب الحاكم نحو مزيد من التقوقع الهندوسي على الذات، مقابل انفتاح أوسع على بيوتات المال، وتضييق الخناق على ملايين الفقراء في الهند عبر إجراءات تحمل من التجويع والإفقار أكثر بكثير مما تعد على مستوى تحسين القدرة الشرائية (إلغاء الأوراق النقدية من فئة 500 و1000 روبية، على سبيل المثال).
كلّ هذا لا يطمس البتة مسؤولية «حزب المؤتمر» الذي حكم طوال عقود، وكان على الساحة بمثابة اللاعب الرئيسي أو شبه الوحيد في الواقع؛ ولم تكن أنماط تقصيره في مختلف القطاعات الاقتصادية، والتسبب في ارتفاع معدلات البطالة مقابل هبوط معدلات النمو، وكذلك شيوع الفساد وتفضيل الشركات العملاقة في القطاع الخاص… لم تكن، في أوجهها الأخرى، سوى العوامل التي ساعدت على صعود «حزب الشعب» وزعيمه شخصياً. هذا بالإضافة إلى مسؤولية الحزب عن أعمال العنف ضدّ المسلمين، الأمر الذي كان على الدوام جذوة اتقاد التشدد الهندوسي والنزعات القومية المتطرفة التي بلغت شأو العنصرية الصريحة. وهذه، في نهاية المطاف، ديمقراطية عريقة هائلة، تتصف بالمشاركة البشرية الأضخم على مدار التاريخ، وبالتالي كان محالاً أن تغفر لحزب (أياً كان تاريخه وأياديه البيضاء في بناء الهند الحديثة)، أو لزعيم سياسي (أياً كان محتده العائلي) كلّ تلك المستويات من التقصير.
وفي يوم 15 آب (أغسطس) من العام 1947 نالت الهند استقلالها، وفقدت بريطانيا العظمى مستعمرة لا تشبه سواها، سُمّيت بحقّ «درّة التاج»، بل لعلها انفردت بصفة أعظم الدُرَر بين عشرات البلدان والأمم التي وقعت تحت نير الاستعمار الإنكليزي، في أربع رياح الأرض. لكنّ الإنسانية، من جانبها، كسبت مركز قوة جديداً وفتياً كان بالفعل قارّة كاملة متكاملة، وليس مجرّد «شبه قارّة» كما تقول تصانيف الجغرافيا. ولا يغيّر من دلالة ذلك التحوّل الكوني الكبير أنّ أواخر القرن الماضي كانت قد شهدت انقراض الكثير من التسميات التي شاعت في أواسطه: عتبة آسيا، قلب حركة عدم الانحياز، العالم الثالث، اللاعنف، المقاومة السلبية… هذه، الهند، هي الدرّة القديمة إياها، وقد أخذت تحتلّ تدريجياً موقع الدرّة الجديدة في تيجان جيو ـ ستراتيجية قادمة، في أطوار ما بعد نظام القطبين القديمين، وأطوار الأقطاب المقبلة في عقود القرن الراهن.
وفي سنة الاستقلال كان جواهر لال نهرو قد قطع على نفسه، ثمّ على حزبه، ثلاثة وعود: إقامة نظام ديمقراطي تعددي، ومحاربة التخلف وانعدام المساواة الاجتماعية، وإقامة بنية اقتصادية وطنية حديثة وحداثية. ولقد بدت هذه طوباوية مغالية الآمال ومبالغة المطامح، خاصة وأنها تصدر عن أوّل رئيس وزراء لدولة قارّة شاسعة واسعة: آسيوية حتى النخاع، مثقلة بالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، تقذف 18 مليون وليد إلى شوارع بومباي وكلكوتا ودلهي كلّ سنة، وتقوم على خليط عالي الانفجار من موزاييك إثني ومذهبي، وانشطرت ساعة استقلالها إلى هند هندوسية ـ مسلمة وباكستان مسلمة ـ هندوسية…
وهذا مشهد حافل معقد، طافح بالآمال والآلام بالطبع، لكنه ــ بمحاسنه ومساوئه، بنهوضه أو ركوده، بعافيته أو اعتلاله… ــ يظلّ قدوة حسنة في عوالم ما بعد الاستعمار، وأمثولة تُحتذى وتُقرأ وتُحلّل، ومنها تُستمدّ الدروس.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
[وانشطرت ساعة استقلالها إلى هند هندوسية ـ مسلمة وباكستان مسلمة ـ هندوسية] …
نسيت أن تقول أيضا يا أبا صُبَيْحٍ … وبنغلاديش مسلمة-مسلمة … !!!
كلام صبحي حديدي دقيق لأنه في ساعة استقلال الهند وانشطارها الى هند وباكستان لم يكن هناك بنغلاديش وهذه تأسست سنة 1971 بعد حرب استقلال طويلة.
تصحيحا لمعلوماتك (التاريخية) ولمعلومات أبي صُبَيْحٍ بالنيابة… بناء على تقسيم البنغال والهند سنة 1947، تم تأسيس بنغلاديش بحدودها المرسومة كما هي معروفة الآن … وخاصة بعد أن صارت بمثابة الإقليم الشرقي لباكستان (كان اسمه باكستان الشرقية) … والهند آنئذ كانت تفصله عن الإقليم الغربي (وكان اسمه باكستان الغربية) … الثورة الشعبية ضد باكستان الغربية هي التي أدت إلى قيام حرب الاستقلال سنة 1971 وانفصال (باكستان الشرقية) التي صارت بنغلاديش من قبل … !!!
صدقت وأصبت أخ ثائر المقدسي ؛ بنغلاديش باللغة البنغالية تعني حرفيا (أرض البنغال أو البنغاليين) !؟
أحب أن أضيف إلى ما ورد تحت عنوان (الهند: ديمقراطية هائلة واقتصاد عليل يجمّله تطرّف هندوسي) من وجهة نظري هناك تشابه كبير بين طرق نجاحات عبدالفتاح السيسي (الإقتصادية) ونجاحات رئيس وزراء الهند من خلال صفقات الأسلحة الفرنسية العملاقة، المصاحبة لزيادة قروض صندوق النقد والبنك الدولي، لتمويل المشاريع،
وزد على ذلك فوز رئيس وزراء الهند بتكريم مؤتمر قمة الحكومات الإليكترونية عام 2018 في نجاح خطته في تغيير العملة النقدية وربط عملية التغيير مع الرقم الوطني،
لإخراج ما تحت البلاطة الذي كان ضائع على الدولة في فرض الضرائب والرسوم والجمارك عليه.
على أرض الواقع عقلية الفهلوة في إدارة كازينوهات قمار لاس فيغاس شيء، وعقلية حوكمة الحكومة الإلكترونية في إقتصاد أي دولة شيء آخر مختلف تماما،
وهذا ما ستواجهه مصر والهند وفرنسا (السترات الصفراء) خلال القادم من الأيام.