جولة جديدة من حروب دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ ألمانيا، بلداً وشعباً ومجتمعاً مدنياً وحرّية رأي وتعبير، على خلفية صيغة من القداسة المطلقة تفرضها النسخة الإسرائيلية (وليس الرواية الصهيونية وحدها) لمعنى الهولوكوست؛ أو بالأحرى للحدود الدنيا والعليا التي يتوجّب على أيّ تأويل أن يلتزم بها، طبقاً للمعايير الإسرائيلية/ الصهيونية، وحدها وحصرياً. وهذه الجولة انطوت على غضبة إسرائيلية رسمية، تولتها وزارة خارجية الاحتلال وعدد من دبلوماسييها وحلفائها على نطاق داخلي وخارجي، ضدّ فرع «معهد غوته» الألماني في تل أبيب؛ احتجاجاً على ندوة كان المعهد أعلن عن تنظيمها تحت عنوان «فهم ألم الآخر: الهولوكوست والنكبة وثقافة التذكر»، مهّد لها المعهد على موقعه هكذا: «بعد قرابة 75 سنة على تأسيس دولة إسرائيل، يظلّ التذكّر منطقة مثيرة للجدل سياسياً. اليهود يركزون على الهولوكوست، بينما يركز الفلسطينيون على سنة 1948 المشؤومة حين صار مئات الآلاف منهم ضحايا النزوح والترحيل على أيدي المقاتلين اليهود، وهي سنة تُعرف بالعربية تحت تسمية النكبة».
كذلك كانت الندوة تزمع مناقشة كتاب الصحافية الألمانية شارلوت فيدمان «استيعاب ألم الآخرين»، الذي صدر بالألمانية ويساجل في صالح انتهاج طرائق أخرى في الذاكرة والتذكّر، وبلوغ درجة من العدل والمساواة بين مختلف الضحايا، فضلاً عن اقتراح طرائق متقدمة لاستعادة التاريخ على نحو يشمل إبراز جرائم الاستعمار والإمبريالية. يُشار إلى أنّ اثنين من المشاركين لهما باع طويل في قراءة النكبة والهولوكوست: الفلسطيني بشير بشير أستاذ النظرية السياسية في الجامعة المفتوحة، وعاموس غولدبرغ أستاذ تاريخ الهولوكوست ومدير معهد أبحاث اليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية. وفي الخلفية الأعرض، كان المعهد قد شدّد على أنه يمثّل قِيَم المصالحة والحوار، وسيهتدي بها في أعمال الندوة (…) ويدعو المشاركين إلى إلقاء الضوء على الموضوع في العمق، من خلال الاهتداء بكتاب شارلوت فيدمان».
ليس هذا ما يرضي الخارجية الإسرائيلية، التي سارعت إلى إصدار بيان يعبّر عن «الصدمة والاشمئزاز»، ويعتبر أنّ تنظيم الندوة «ازدراء فاضح للهولوكوست، يتحايل على إقامة رابط بين المحرقة النازية والنكبة بهدف تشويه سمعة» دولة الاحتلال؛ وأنّ الوزارة لن تتوقف عند تأجيل موعد الندوة (الذي يتوافق مع «ليلة البلور»، 9 و10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، الشهيرة في تاريخ مآسي يهود ألمانيا خلال الحقبة النازية)، بل تطالب بإلغائها نهائياً. رئيس منظمة «إيم تيرزو» الصهيونية لم يتأخر في إصدار تصريح ناري يقول: «بدل أن تحني رؤوسها أمام الشعب اليهودي والإنسانية جمعاء بسبب ما اقترف أسلافهم، فإنّ مؤسسات الحكومة الألمانية تروّج لبروباغاندا هادفة إلى تبييض صفحة الفظائع الألمانية وفي الآن ذاته إشاعة أساطير معادية لإسرائيل تسعى إلى إنكار حقّ دولة إسرائيل في الوجود».
تلك هستيريا جَمْعية، أو تكاد، سوف يواصل انتهاجها عشرات الكتّاب والمنظّرين والساسة الصهاينة: لا شبيه، البتة، لضحية الهولوكوست، ومحظور أن يكون لها شبيه؛ حتى مع، أو رغم، انقلاب بعض أبنائها وأحفادها إلى… قَتَلة ومجرمي حرب
خارج دولة الاحتلال لم يتأخر «مركز سيمون فيسنتال» عن إذكاء الهستيريا ضدّ «معهد غوته»، فصدر بيان يجاري الآخرين في حدّة اللهجة من جهة أولى، وفي تأثيم ألمانيا الشعب والتاريخ قبل الدولة والمؤسسات من جهة ثانية: «إقامة مثل هذه المناقشة في إسرائيل، عشية ذكرى ليلة البلور، من جانب حزب سياسي ألماني يساري التوجّه، وفي معهد غوته تحديداً، هو استفزاز مقيت». والحاخام أبراهام كوبر، مدير النشاط الاجتماعي الدولي في المركز، «تكرّم» قليلاً فلم يجد ضرراً في «استكشاف مشاعر الفلسطينيين»، ولكنه حكم على أيّ ربط بين النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي و«الحلّ النهائي» النازي بأنه «إهانة وحشية لضحايا المحرقة، ولدولة إسرائيل اليهودية، وللناجين من المحرقة، وللحقيقة التاريخية»… هكذا بالجملة، دفعة واحدة!
المعهد انحنى، غنيّ عن القول، وقرر تأجيل الندوة إلى موعد لا يتزامن مع أيّ تفصيل في تاريخ الهولوكوست؛ فكان بذلك يحذو حذو مؤسسات أخرى ألمانية، حكومية أو خاصة، رضخت لحملات دولة الاحتلال وأصدقائها في ألمانيا ذاتها، وفي الولايات المتحدة وأوروبا عموماً؛ حيث فزّاعة التخويف الأولى تبدأ من تهمة العداء للسامية، وتشمل أيّ وكلّ موقف يرمي دولة الاحتلال بوردة يتيمة بريئة. الواقعة الأقرب كانت سحب جائزة نيللي ساكس الأدبية الألمانية من الروائية البريطانية كاميلا شمسي بسبب مواقف الأخيرة المساندة لحركة مقاطعة الاحتلال المعروفة بمختصراتها BDS، حيث انقلبت لجنة التحكيم على تثمين للفائزة مفاده أنّ كتابتها «تبني الجسور بين المجتمعات»، وأخضعت التقييم الأدبي لقرار سابق اتخذه البرلمان الألماني وقضى باعتبار حركة المقاطعة «معادية للسامية»؛ وذلك رغم أنّ 60 كاتباً وأكاديمياً يهودياً انتقدوا التشريع لأنه يستهدف «إلصاق تهمة معاداة السامية بمؤيدي حقوق الإنسان الفلسطينية».
واقعة «معهد غوته»، وقبله سحب جائزة شمسي، وسواهما وقائع كثيرة، تضرب بجذورها في تربة الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش كلّ وأيّ ضحية أخرى، وتقزيمها، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن؛ خاصة ألمانيا، لأسباب يبدو بعضها مبرراً شكلياً بسبب الحاضنة النازية، ولكنّ الكثير منها ليس مفتعلاً وجائراً فقط، بل هو أقرب إلى نزعة عداء مستبطنة وجامعة مانعة. على سبيل المثال، ما الذي يضير في اعتزام الأمّة الألمانية تكريم ضحاياها (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الألمانية، والكونية، الجَمْعية؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟
المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت (الذي يُحتسب عادة في صفّ المؤرّخين «المعتدلين») أدان خطوات كهذه لأنّ أهدافها الخافية هي افتعال ذكرى لإحياء الفترة النازية، منعتقة من الرأي الاتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه «بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان». أمّا سجلّات التاريخ فتقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 ــ 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الاتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، كي لا نتحدّث عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟
ولعلّ أشهر (وأردأ، وأسوأ) نماذج تأثيم ألمانيا على نحو جماعي صدرت عن الأمريكي دانييل جونا غولدهاغن، صاحب مجلد في 619 صفحة، عنوانه «جلاّدو هتلر المتطوعون: الألمان العاديون والهولوكوست». أطروحته الوحيدة هي التالية: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست، و«ما يُقال عن الألمان لا يمكن أن يُقال عن جميع الأمم الأخرى مجتمعة. الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست». قبله كان إيلي فيزل (الصحافي والروائي والأكاديمي الذي لا يفضّل لقباً آخر سوى «عميد ضحايا الهولوكوست»)، قد رفض بشدّة أيّ استخدام مجازي لتعبير «الهولوكوست الجديد» في وصف فظائع الصرب في البوسنة والهرسك، أو في أيّ مكان آخر على وجه البسيطة.
وتلك هستيريا جَمْعية، أو تكاد، سوف يواصل انتهاجها عشرات الكتّاب والمنظّرين والساسة الصهاينة: لا شبيه، البتة، لضحية الهولوكوست، ومحظور أن يكون لها شبيه؛ حتى مع، أو رغم، انقلاب بعض أبنائها وأحفادها إلى… قَتَلة ومجرمي حرب!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
الأمر بالنسبة للصهاينة هو تسول عطف واحسن من وصف هذا الشي الكاريكاتير الذي فاز باحسن رسم بالمسابقة الإيرانية التي وصفت الهولوكوست بآلة نقود تدر ارباح على الذين يدعون بالصيغة العبرية
الخوف من الاجيال القادمة جعلهم يجنون ويحولون الموضوع الى امر مطلق بالرغم من ان آينشتاين كان قد نفى وجود المطلق وهو لم يستطع العيش في دولة بني صهيون وعاد الى المانيا.
على خد معرفتي، أينشتاين هاجر إلى أمريكا هربًا من النازيين وبقي هناك حتى وفاته في جامعة أمريكية. طبعًا لم يرغب أن يصبح رئيس لإسرائيل رغم محاولة إغراءه بهذا المنصب!
شكرا أخي صبحي على مستوى الوعي والمعلومات والإهتمام بالشأن الثقافي بين النكبة الفلسطينية والهولوكوست،
وإضاءة المسرح السياسي على نزعة،، إحتكار دور الضحية،، بلا منازع في الماضي، والحاضر، والمستقبل .
شكرًا أخي صبحي حديدي. في الحقيقة تذكرت الرئيس الأمريكي بايدن وقوله أو بالأحرى أقواله العديدة مثلًا أنه صهيوني وأنه لو لم تكن توجد إسرائيل كان يجب إيجادها … الخلاصة هؤلاء الراقصين الصهاينة الصغار إنما يرقصون على طبل كبار القوم ليس إلا! هكذا هو التاريخ البشري ومبدأ قوة اليد، أو كما قالها في وجهي قبل سنوات صحفي إسرائيلي يساري يتكلم الألمانيا ( Moche Zimmerman) ردًا على سؤالي الإستفزازي له وبالألماني ( Der Recht ist der Faustrecht) أو بالعربية الحق هو قوة قبضة اليد!
القانون الالماني لا يعاقب من ينكر الهلوكوست ما دام هذا الانكار يتم بين اربعة جدرا
جيل الحرب العالمية الثانية في افضل اجابة له عن سؤال ان كان قد تم الهلوكوست ام لا يجيب لم نكن نعلم!
اما الاجيال الاحقة فينطبق عليها قول الاعرابية من انبئك ان اباك كان ذئبا!