حددت الشخصيات غير المكتملة والموضوعات الخالدة ببعدها الإنساني والاستخدام الإبداعي لتقنيات صناعة الأفلام التقليدية، أسلوبا أثر في أجيال متعددة من صانعي الأفلام حول العالم. من بينهم المخرج مارتن سكورسيزي، الذي اجتاز بأسلوبه السينمائي اختبار الزمن، باختبار فني وإبداعي رائع، تاركا وراءه بصمة فنية وعلامة تجارية لا تمحى في تاريخ الفن السابع.
من بين المؤثرات التي أعطت قوة كبرى لأسلوب التصوير السينمائي لمارتن سكورسيزي، فهمه المبكر لمدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية لصانعي الأفلام مثل، روبرتو روسيليني الذي يعتبر فيلمه «روما المفتوحة» أول عمل لهذه المدرسة السينمائية، ثم المخرج فيتوريو دي سيكا، مايسترو الكلاسيكيات مثل، «ماسح الأحذية» و»سارق الدراجة». ووجد سكورسيزي في أعمال هؤلاء المخرجين على مستوى البناء السردي، الفرصة الملائمة للتعبير عن أصوله الصقلية، ورواية قصة «الحلم الأمريكي» من منظور المهاجر الإيطالي. كان شغوفا بسينما روسيليني ودي سيكا، وبأعمال أهم مخرج في إيطاليا بعد الحرب فيديريكو فيليني.
بعض الموضوعات التي اكتشفها صانعو الأفلام الإيطاليين، أضحت بمثابة نقطة الانطلاق لسكورسيزي، لتطوير معاييره الخاصة حول موضوعات عالمية مثل، أهمية الأسرة، والحفاظ على الثقافة، والنضال الوجودي للفرد، والتشكيك في الإيمان… وهي الموضوعات التي يتم استقراؤها، وتحويلها إلى شخصيات غير مكتملة تعيش في عالم غير أخلاقي.
شخصيات غير مكتملة
بدأ سكورسيزي في اكتساب مكانة سينمائية مرموقة منذ بداياته، واستوحى من إنجازاته الأولى «سائق التاكسي» (1976) كما صنع أفلاماً مثل، «نيويورك نيويورك» (1977) «الطفل الأمريكي» (1978)، على الرغم من حصولها على بعض الجوائز، إلا أنها لم تجذب اهتماماً كافيًا لتغطية النفقات المالية، لكنه استمر في تلميع هذا الأسلوب، من خلال الانغماس في الجريمة وشوارع نيويورك وثقافة الحلم الأمريكي… والبحث عن أسلوبه الخاص.
إن النقص البشري المتجسد في الشخصيات ذات البوصلة الأخلاقية المشكوك فيها، هو جزء من أسلوب مارتن سكورسيزي السينمائي. بعد كل شيء غالباً ما يعمل المخرج على تطوير حبكات أفلامه حول شخصياته، ويتساءل عن رحلة البطل التقليدي ويقدم للجمهور نوعا جديدا من الرحلات السينمائية، التي لا يمكن أن تتوقع نهايتها ومساراتها السردية وغوصها في سياقاتها التاريخية والنفسية.
إن البطل الذين يطارده ماضيه، وينساه المجتمع، ويصبح مُهْمَلاً، هو أحد النماذج الأصلية الكلاسيكية الممثلة في سينما سكورسيزي. يميل هذا النوع من الشخصيات إلى إنشاء قانون أخلاقي خاص به لتحقيق العدالة بيديه. كل أفعالها هو تمثيل للتعقيد والطبقات العديدة التي يأويها الإنسان عند السير على الخط الرفيع، الذي يفصل بين الخير والشر. ومن الأمثلة على هذه الشخصيات الأسطورية شخصية ترافيس بيكل سائق التاكسي الذي يلعبه روبرت دي نيرو، والذي تعاون معه سكورسيزي في عشرة أفلام حتى الآن مع فيلم «قتلة زهرة القمر» (2021) « The Killers of the Flower Moon» .
غالبا ما تكون شخصيات سكورسيزي في صراع وجودي مستمر، تعيش نوعا من الضياع وباحثة عن مكان لها في العالم، من خلال إفسادها وإغرائها من قبل الجانب المظلم في الحالة الإنسانية. الشخصيات في فيلم «ذئب وول ستريت» (2010) (The Wolf of Wall Street )هو مثال صادق على ذلك. حيث نواجه قصة معاصرة عن الجانب اللاأخلاقي الذي يخفي مفهوم الحلم الأمريكي. تلعب اللغة دورا حيويا في تطوير سرد يحذرنا بروح الدعابة السوداء وغير الصحيحة سياسياً، من عواقب الإفراط في الجشع.. جشع الرأسمالية المتوحشة التي تأكل الأخضر واليابس وتلتهم شخصياتها.
يعمل سكورسيزي في مجمل أعماله على تعميق الجوانب النفسية لكل شخصياته، وتظهر اضطرابات الوسواس القهري دائما في قصصه. بهذه الطريقة يعمل المخرج من وجهة نظره في بناء الشخصيات داخل سينما العصابات الكلاسيكية، حيث أن شخصية رجل العصابات هي نموذج أصلي، سعى المخرج إلى تطويرها معتمدا على مفاهيم الثقافة والجذور، والقوة والاعتماد على الذات، باستغلال موارد تاريخية لا علاقة لها بالقصص مثل، الهجرة الإيطالية، وموت الأب، وسلطة رجل المافيا… في فيلم «أطفال طيبون» (GoodFellas) ( (1990نرى مشاهد تتجاوز الجدل لتظهر أصول الثقافة والحفاظ عليها، حيث تتولى النساء مسؤولية ترتيب المنزل والطبخ والقيام بإعداد الوجبات الغذائية المشتركة للمة العائلية.
ربما يكون النوع الأكثر شهرة في أفلام سكورسيزي المذهل هو تركيزه الكبير على شخصية «رجل العصابات» من أفلامه الأولى حتى فيلم «الإيرلندي» (The Irishman)(2020). تبحث العديد من أفلامه في عالم الجريمة المنظمة والمافيا، وغالبا ما تستند إلى شخصية رجل العصابات ببعده النفسي والاجتماعي. يدور هذا النوع من القصص حول المصدر السردي لـ»السمك خارج الماء» حيث يرافق الجمهور البطل في رحلته إلى عالم غير معروف في البداية، والذي يقدم مع مرور الوقت هيكل الأسرة «الأخوة التي لا تتزعزع، وآصرة العائلة» لبطل الفيلم والتحامه الأسري وانصهاره في بوتقتها. تأتي نقطة التحول الأولى في شكل قرار أخلاقي، مرتبط بشكل عام بعمل من أعمال العنف. بمجرد اتخاذ هذا القرار لا مجال للتراجع، حيث الشخصية تقرر مصيرها. من هنا نشهد صعود رجل العصابات كامبراطور، يترك شيئا فشيئا بصماته على امبراطوريته التي لا يجرؤ أحد على تحديها والمس بمقدساتها… حتى في الفصل الثالث حينما تنهار الامبراطورية المذكورة، تحت ثقل أوزارها، ما يؤدي إلى الانحدار الطويل والمؤلم للشخصية الرئيسية.
الكاميرا المصاحبة
تتطلب دراسة هوية الشخصيات المكثفة الموجودة في أفلام سكوسيزي مرجعيات لنماذجها وطرق بنائها، وفقا لتشكلها بالارتباط بعلم النفس الخاص بها وسياقاتها التاريخية وكذلك جوانب تطويرها على نطاق واسع من قبل المؤلف. بدلاً من ذلك، فإن دراسة تحليل وبناء الشخصية المرتبطة بهوية المؤلف (أي العلامات المتكررة وأنماط البناء…) يسمح لنا بالدخول إلى عالم غير مستكشف نسبيا، يضعنا المخرج في سياقاته الاجتماعية والسياسية والنفسية للشخصية… لذا يكون من الضروري الخوض في الهوية السينمائية للمؤلف، كعلامة تجارية يستخدمها في بناء لغته السينمائية الخاصة، وبالتالي في بناء شخصياته الفيلمية بنوع من التفاعل.
بالنسبة لمارتن سكورسيزي يجب أن تعمل الكاميرا دائما على وظيفة الشخصية، كامتداد للصراع المستمر مع شياطينه الداخلية. ومن هنا تأتي أهمية غمر الجمهور في البيئة الثقافية والاجتماعية للشخصية والإحاطة بها. الرسالة الضمنية واضحة: «نحن نتاج بيئتنا» لكن في نهاية المطاف نحن «عواقب أفعالنا».
مارتن سكوسيزي بارع في استخدام حركات الكاميرا التي تصاحب وتضخم عواطف الشخصيات. من خلال تقريب الكاميرا إلى الموضوع باستخدام اللقطات الكبيرة السريعة واللطيفة للوصول إلى الحالة النفسية للشخصية، وتحريك الكاميرا بعيدا لنقل الشعور بالعزلة، التي يعيشها البطل في محيطه. تتحكم الشخصيات نفسها في سرعة حركات الكاميرا، بحركات بطيئة لتجسيد مخاوفها أو لزيادة فضولها حول موضوع ما، وتصلح الحركات السريعة كقصة رمزية لأسلوب حياة الشخصيات السريعة الخطى. تأخذ اللقطات من أعلى جزء كبيرا من ترسانة مارتن سكورسيزي السينمائية، هذه الأنواع من اللقطات من أعلى لها دلالة دينية من خلال تمثيل وجهة نظر الله، في ما يتعلق بالقرارات والأفعال اللاحقة للشخصيات وهي إحدى الأدوات التي يستخدمها المخرج لاستكشاف أحد موضوعاته المفضلة: التساؤل عن الإيمان وجدواه.
يعتبر سكورسيزي من الرواد في استخدام اللقطات المتسلسلة، ويمكن رؤية المؤشرات الأولى لتعدد استخداماتها في أسلوب السرد السينمائي، هذا في أحد أفلامه الأولى «الشوارع السيئة» (Mean Streets) (1973) وكذلك في فيلمه الفائز بجائزة الأوسكار (أفضل ممثل وأفضل مونتاج) «الثور الهائج» (1980) (Raging Bull) لكن في فيلم «واحد منا» (One of Ours) يقدم المخرج بهذه التقنية واحدا من أفضل اللقطات المسلسلة في تاريخ السينما. يعتقد المخرج أن التصوير السينمائي يظهر فقط في المَشَاهِد السينمائية، وجماليات السينما وبالتالي يساهم في خلق شكله ولغته الخاصة على المنوال نفسه. ويفكر مليا في أن التحليل النصي السردي للشخصية يتضمن عمليات التحلل وإعادة التشكيل من أجل تحديد مبادئها في البناء والتشغيل، لخلق معالجة مجموعة الفيلم كوحدة كاملة. بواسطة المؤلف/ المخرج يمكن تطوير متغيرات النمط الفيلمي، التي بدورها تشير إلى ما تحمله الشخصيات من قيم الهوية التي تميزه كمؤلف في عمليات التبادل.
عمل المخرج في فيلم «الشوارع السيئة» (Mean street)(1973) على توظيف فكرة الأبطال والهوس بالدين وأسلوب حياة العصابات (الأسرة والزواج والموت) والرحلة النفسية الداخلية للشخصيات طوال القصة. وبهذه الطريقة بدأ بالفعل في تحديد الاختلافات الأسلوبية داخل هذا النوع من أفلام العصابات، لدرجة أنه تم اختيار الفيلم ليتم حفظه في السجل الوطني للأفلام التابع لمكتبة الكونغرس في الولايات المتحدة، باعتباره إرثا فنيا، وثقافيا وتاريخيا وجماليا مهما.
يصطدم المخرج ويتحدى المتغيرات العامة الموضوعة من خلال صراع شخصياته، ويكون أبطاله قادرين على فهم وجهة نظر الشخصية حول المجتمع الاستهلاكي الأمريكي، لكنه لا يبتعد عن المعايير العامة التي تتأسس عليه أفلامه من أجل تحديد إمكانية وجود صورة شخصية لسكورسيزي، التي يمكن اعتبارها السمة المميزة لمارتن سكورسيزي مؤلفا ومخرجا في عمله السينمائي.
كاتب من المغرب
مقال رائع ? تحيتي
فقط قطرة أضعها تحت ظل هد ا التقرير الفني السينمائي الرائع ادا شاهدت فيلما وبصيغة الجمع متميز من كل جانب وهادف لشيء فاعلم ان دالك من حنكة المخرج خريج جامعة السينما والفضل كدالك يرجع لمن أسندت لهم لادوار