الواقع أم الخيال؟

وأنا أقرأ رواية لكاتب لا أعرفه، تعثرت بأسرة مكونة من زوج وزوجة وأبناء، مرسومين بقدر كبير من التشوه، بمعنى أن الأب مهدم، محني الظهر، مكسر الأسنان، تفوح منه رائحة القذارة، الزوجة مترهلة، وشديدة الضخامة، ولا تستطيع الحركة من مقعدها أو سريرها، الأبناء الذكور متبطلون وفاشلون وشرهون في تناول الطعام، البنات قبيحات فظات، لم يتزوجن، ولم يسمعن طوال حياتهن كلمة غزل واحدة في حقهن.
استمررت في القراءة باحثا عن وظائف حتمية لهذا الإجرام الكتابي، الذي طال تلك الأسرة الفقيرة، التي تعيش في بيت بلا جدران، وإن كان ذا دلالة في النص الروائي، ولم يكن هناك شيء. إنها قصة عادية، وشخوص تلك الأسرة مغروسون في النص بجانب شخوص أخرى عديدة. وكان يمكن أن لا توجد تلك الأسرة أصلا، فعدم وجودها لن يخل بالنص أبدا.
هنا لست معنيا بنقد الكاتب، ولا تعليمه كيف يرسم شخصياته، والكتابة درب حر يسلكه من يشاء سواء أن مشى بأدواته الخاصة، أو أدوات غيره، أو بلا أدوات على الإطلاق. لكن أطرح فقط تساؤلا ما دمنا إزاء رواية واقعية صرفة، ليس فيها أي شبهة غموض أو سحر أو أسطرة:
هل يمكن العثور على أسرة كهذه في الواقع؟
وكيف تعيش تلك الأسرة إن وجدت، ما دام لا أحد منها ينفع في شيء؟
وما دور المجتمع تجاه تلك المسكنة؟
طرحت تلك الأوصاف التي ذكرتها على صفحتي في فيس بوك، وكانت الردود متابينة، حيث رأى البعض أن خلق تلك التشوهات وبذلك العنف يمنح النصوص بعدا تشويقيا ويغري بالقراءة، بينما رأى آخرون أن المؤلف بالغ كثيرا في ازدرائه لشخوص روايته، وكان من الممكن أن يرمم شيئا، أو يغير من بعض الأوصاف لتمضي الحياة في النص، كما تمضي في الواقع، بشيء من الطمأنينة، وشيء من الهلع.
أنا أيضا أرى ذلك، أي أن لا نبالغ حين نصف شخصا حتى لو كان سيئا أو غير جدير بالاحترام بالرذائل كلها، ولا نترك له جنبا يتقلب عليه. فالصلع وانحناء الظهر وتكسر الأسنان علامات موجودة حين التقدم في السن، لكنها ليست عامة، أي تصيب كل الناس، ونقيس على ذلك ما ورد من أوصاف أخرى لدى بقية الشخوص. لكني مع ذلك لا أستطيع أن أنكر عدم وجود كل ما ذكر عن تلك الأسرة وغيره في الواقع، فالواقع المعيش مليء بكل شيء ويمكن أن تعثر على أشياء أصلا لا تستطيع تخيلها، موجودة، وتطالعك بوقاحة. كأن تكتشف مثلا أن مدرسك الذي كنت تحبه وأنت طالب في المدرسة، وتستمتع بشرحه للدروس، هو في الحقيقة لص يتسلق البيوت ليلا، ويسطو على متعلقات الناس، كأن تكتشف خللا في جار لك، وميول غير طبيعية لدى أحد أقربائك المحترمين، أيضا العيوب الكثيرة التي يمكن أن تختص بها أسرة، ممكن مصادفتها كما ذكرت.
أذكر حين كنا صغارا كانت توجد في حينا الذي نسكن فيه أسرة مكونة من زوج وزوجة وثلاثة أبناء ذكور وفتاتين. كان الأب عاملا في إحدى المصالح الحكومية، لكنه أصيب بانفصام الشخصية مبكرا وفصل من العمل، وظل هائما في الشوارع، الأم أصيبت بخلل في الغدد، وتورمت ولم تعد تستطيع الحركة، الأبناء الذكور ولدوا عميا لخلل جيني في العصب البصري، والفتاتان مصابتان بضمور الأطراف وتزحفان على الأرض.
هذه أسرة في المجتمع الواقعي وليست داخل نص، أسرة وجدت ذات يوم، وظلت موجودة تحصد الشفقة، ولو أردنا كتابتها داخل نص ستستجيب الكتابة، لكن ما الهدف من ذلك؟
وما الدور الإبداعي الذي يمكن أن تقوم به داخل النص؟
والنصوص الروائية، كما هو معروف لدينا جميعا، تقوم على بنية حكائية، تسندها الشخوص، وتعبر بها إلى بر القراءة، وحتى كتابة الأساطير، والفنتازيا، واستدعاء التاريخ القريب والبعيد، لا بد من توظيفه إبداعيا وجماليا. وفي رواية المكان التي لا يسيطر عليها بطل واحد، ويكون فيها المكان مسرحا للحكي وبطلا في الوقت نفسه، لا بد من وجود ضرورة لكل شخصية يرد ذكرها.
أيضا بالعودة للذاكرة، إلى أيام بعيدة، غالبا أعثر على مشوهين كانوا موجودين في المدينة، يعرفهم الناس جيدا، مثل الرجل المتأنق بعمامة بيضاء مغسولة جيدا، وجلباب من قماش جيد نظيف، وحذاء مفصل من جلد النمر، وينحشر وسط زحام الداخلين إلى المستشفى، أو الواقفين في صف السينما، يبحث عن أطفال يتحرش بهم، وحين يواجهه أحدهم بصوت عال، أو يصرخ طفل مشيرا إليه، يقول متصنعا البكاء: آسف، كأنه ولدي صلاح الذي مات منذ أيام. وغالبا بعد تك الدمعات الآثمة يفلته الغاضبون، ليعود إلى تكرار غيه في يوم آخر. وممكن أيضا أن تعثر على رجال شرطة ينتمون إلى عصابات، وبائعات هوى هنّ في الأصل أمهات طيبات حين يهجعن في البيوت، وهكذا.
الغرض إذن ليس نقل الواقع المتكرر أو النادر حرفيا إلى النصوص، وليس كتابة نصوص سخية في الواقع أو اللاواقع، وإنما شيء من هذا وذاك لتستقيم الكتابة.
شيء أخير أشير إليه، وهو اختلاف الرؤيا من كاتب لآخر، فمؤكد الكاتب الذي رسم شخوصه بتلك العيوب المترفة له وجهة نظره حتى لو لم تكن واضحة، وربما تكون واضحة لكني لم أفهمها، وهذا الكاتب ربما يرى في نصوصي شخصيا عيوبا كان يمكنني تلافيها.
إنها الكتابة في النهاية، جمر لا يستطع من اشتعل فيه أن يطفئه، هي بحسناتها وعيوبها، محور عظيم.
*كاتب من السودان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري، أبدع الكاتب السوداني في عنوان مقاله (الواقع أم الخيال؟) عن حالات الشذوذ في كيفية إنتاج أي منتج لغوي في أسبوع،

    وأحلى ما في مقال السوداني (أمير تاج السر) في الاسبوع الآخر بعنوان («النظر في المرآة») هو تعريفنا، بمنتج يُمثّل خلاصة فكرة عقلية الفريق، في إنتاج مُنتَج، من إنتاج دار نشر اسمها (شهريار) من العراق بالذات، أي تمثل القطاع الخاص، وليس للدولة أي علاقة بها، في عام 2022، سبحان الله؟!

    من هنا المُتحرّش، أو من هنا المُستفز، من أجل دفعك، دخول السوق، لشراء أو التفاعل من أجل دفع شيء لمشاهدة، مُنتج فني، من إنتاج إنسان أو فريق عمل،

    لأن في هذا المجال، هل التسمية أو الإسم خطأ، أو من هو الزعطوط، بين الممثل المصري، محمد صبحي، وبين هيئة الترفيه، ورئيسها (تركي آل الشيخ) في السعودية،

    في الحرب، التي أشعلها تصريح (محمد صبحي)، من أن عمله، ليس له علاقة بالترفيه أو المتعة أو المقامرة/المغامرة؟!

    فمن تحرّش بمن، أو من استفز من، بينهما؟!

    هل العمل في مجال الترفيه، خطأ؟!

    أو هل العمل في مجال الفن، خطأ؟!

    أم رفض التعاقد، مع مؤسسة أو دولة ما، بحجة أن الإسم خطأ، أو غير جاد (مهني)؟!

    فمن هو التافه، والأكثر تفاهة، في سوق وسائل الإعلام، التي تمثل الدولة، والدولة المنافسة، بينهما؟!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من الأخلاق عدم السكوت، على الإذلال،
    من الأخلاق ، عدم السكوت، على الظلم،
    ولكن الإشكالية في عقلية المحافظة على راتب آخر الشهر، هي من استعبدت المترجم الإيراني،

    فاضطر إلى غش/فساد في ترجمة كلمة الرئيس المصري د محمد مرسي، وفي بث حي ومباشر، يعني بلا تعليمات مسؤوله، أليس كذلك أم لا؟!

    السؤال أي دين وأي دولة وأي أخلاق، يريد أهل العراق أو السودان وغيرها من دول ما بين دجلة والنيل، في عام 2022؟!

    هل لاحظت الفرق بين نظرة أهل حلب (قدود حلبية)، وأهل العراق (مع إحتلال المرأة لقلب الرجل) وربطها في موضوع الإيمان، الاستهتار والدلع في أن يكون له آذان خاص به، نقطة بداية الانحراف عند أهل لغة القرآن وإسلام الشهادتين،

    لكشف لي، لماذا (مصطفى العقاد) كانت نهاية منتج فيلم الرسالة (الأذان)، وكشفت لي، لماذا فشل أهل ما بين دجلة والنيل، أن تكون مركز تدوين لغة الحضارة الآن، كما نجح فيها (مصطفى العقاد) بعد حرب عام 1973، بينما نبوءة إبن الخليل (دبسام جرار) تقول أن قبل نهاية الشهر السادس في عام 2022، سبحان الله؟!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    أحسنت، ا. فالح الدوري، مثال رائع، لتوضيح إشكالية الذي يتعامل مع (الله)، كأن هو إنسان مثله، يستطيع الضحك عليه، عندما لا يكون هناك مستمسك عليه،

    فهكذا هو فكر (الأحباش)، أتباع (عبدالله الهرري) في (لبنان)، عملت على تكوينهم ودعم فكرهم المخابرات (السورية)، بعد أحداث حماة في عام 1982،

    وانتشر فكرها حول العالم، وأنا بدأ اصطدامي بهم في (تايوان) عامي 1992-1993، ونعلت سلفة سلفاهم من وقتها، وحتى الآن.

    خلاصة فكرهم، يتعامل مع (الله)، بنفس طريقة تعامله مع أي إنسان بلا مستمسك قانوني، للضحك أو النصب أو الاستهزاء به، من أجل المتعة أو الجنس للترفيه، (رجل كان أم مرأة)، مقابل شيء أو بدون مقابل شيء مادي،

    ولكن (الله) ليس إنسان مثلك، يا ا. فالح الدوري، أليس كذلك، أم لا؟!??
    ??????

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي أمير تاج السر. جذبني العنوان بشدة في الحقيقة لسبب بسيط وهو أني أعتقد وقد أثببت الأيام ذلك، أن الواقع أبعد من الخيال. وعليه فإن الكاتب الذي يوظف خياله أولًا وأخيرًا (فالكتابة ليست تقرير إخباري لمراسل) بأن يغوص أكثر وأكثر في الواقع، هو الحقيقة أو في واقع الأمر يبتعد عن الواقع.

  5. يقول سيف كرار... السودان:

    في اعتقادي أن القصص اوالروايات يكون موضوعها كوميديا، أو تراجيديا، أو رومانسيا أو… هنا في هذه الروايه التي أنت ذاكرها، يهدف الراوي لجعل القارئ يزرف الدمع حزنا وألما لهذا الموقف لذا تصنيفها بالروايه التراجيديه… يتبع….

  6. يقول حنا السكران:

    تسلم الايادي … حبة بنادول عند وجع الرأس ينتابني نفس الشعور عند قراءة مقالاتك … خفيفة الظل مريحة للعقل و سكينة للنفس .. اطال الله عمرك وبارك فيك

  7. يقول سيف كرار... السودان:

    ادعوك للاستماع لقصيده مرحبا ياشوق.. كلمات الشاعر الجيلي عبدالمنعم عباس، وغناء العملاق محمد وردي… فهي النوع التراجيدي..

إشترك في قائمتنا البريدية