الوباء والسياسة

حجم الخط
0

يبدو، للوهلة الأولى، كما لو أن وباء كورونا الذي بلغ عدد المصابين بعدواه مليوناً ونصف المليون على مستوى العالم، قد نحى السياسة جانباً، لمصلحة مواجهة مشتركة لتطويق النتائج الكارثية. هذا ما يوحي به الإعلام الذي كاد يتفرغ لموضوع وحيد هو الوباء وأرقامه اليومية، والتدابير المتخذة لاحتوائه، والتوقعات المشؤومة بشأن الآثار الاقتصادية المدمرة التي ستنتج عنه، والتأملات الفلسفية بشأن عالم ما بعد كورونا، ما الذي يحتمل أن يتغير في حياة البشر، أفراداً ومجتمعات، وتنظيماتهم السياسية على المستويين القومي والأممي، ونظرتهم إلى شرط الوجود البشري على الكوكب، وعلاقتهم بالبيئة الطبيعية..
لكننا نرى، في الواقع العملي، أن السياسة لم تغب، وما كان لها أن تغيب، في سياق واحدة من أخطر الأزمات التي يواجهها البشر. ثمة عنصران تصدرا المشهد، بصورة لا مفر منها، هما السلطات الحكومية والسلطات الصحية. صحيح أن الثانية هي جزء من الأولى، وتابعة لها، لكنها الآن صاحبة الكلام. بتنا نرى وزراء الصحة في مختلف الحكومات أكثر مما نرى رؤساءها أو وزراء خارجيتها كما عهدنا دائماً. السلطة الصحية هي التي «تعرف» التدابير التي ينبغي اتخاذها، وإن كان القرار باعتمادها في يد الحكومة أو رئيسها أو رئيس الجمهورية، وفقاً للنظام السياسي القائم في كل بلد. يمكن القول إن الواجهة الصحية للدولة هي البارزة اليوم في مقدمة المشهد. هذا ما قد يوحي بتأملات من نوع توقع شيوع حكومات تكنوقراط تحل محل الحكومات المشكلة على أساس سياسي، أو هيمنة «طبقة الأطباء» على الحياة السياسية.
من جهة أخرى، برز الاهتمام بالنموذج الصيني في مواجهة الوباء، وهو يجمع بين التوتاليتارية السياسية والتقدم التكنولوجي الموظف في خدمة مزيد من المراقبة والضبط لجميع أفراد المجتمع. فقد استخدمت السلطات الصينية الذكاء الاصطناعي والروبوتات والمراقبة على مدار الساعة عن طريق الهواتف الذكية، لضبط مسارات انتشار الوباء ومحاصرته، بما في ذلك وضع كاميرات مراقبة وأجهزة حساسة على مداخل كل الأبنية في مقاطعة ووهان تقدم للسلطات الصحية أولاً بأول درجات حرارة كل شخص يتعرض لنطاق فعاليتها. من نافل القول إن هذه التكنولوجيات قادرة على رصد كل ما يفعله الأفراد ويقولونه، وكل اتصالاتهم بأشخاص آخرين، وجهاً لوجه أو عن بعد. هذا مخيف، يقدم شيكاً على بياض للسلطات السياسية للتدخل في أدق تفاصيل حياة السكان، ومن شأنه أن يلغي السياسة بما هي تعبير عن مصالح وأفكار وتطلعات متباينة، وأن يلغي الثقافة بما هي رؤية نقدية للعالم، لمصلحة بعد وحيد تقني يختزلها إلى تعليم وتطوير تكنولوجي دائم.

شكلت جائحة كورونا، في جانب منها، مرآة سياسية لأحوال السياسة في مختلف البلدان والمواقع، حيث حكومات تسعى وراء تحقيق «قصة نجاح» تطيل في عمرها في السلطة، وأخرى وجدتها فرصة لتشديد القبضة على المجتمع، وعصابات حاكمة، تتصرف وكأن شيئاً لم يستجد، كما هي الحال في سوريا ومصر ولبنان وأمثالها من البلدان المنكوبة

مقابل هذا النموذج الأورويلي في الصين، رأينا ما يقارب الإفلاس في مواجهة أزمة الوباء لدى النموذج الليبرالي الجديد القائم في دول الغرب. بدا وكأن الأمر يتعلق بزلزال غير متوقع داهم تلك البلدان على حين غفلة، مع العلم أن الخبراء كانوا قد حذروا من سيناريو مطابق تقريباً لما يحدث الآن، بشأن جائحة فيروسية قادمة. لكن حكومات معظم تلك الدول لم تعامل بالجدية المطلوبة من تلك التحذيرات، فرأينا الأنظمة الصحية تنهار تحت ضغط الانتشار السريع للوباء.
وفي بلد كتركيا حيث تجاوز عدد الإصابات بالعدوى 34 ألفاً، وعدد الوفيات بسبب العدوى 720، تستمر التجاذبات السياسية بين السلطة والمعارضة، سواء في موضوع التدابير الاستثنائية الخاصة بمواجهة الوباء، أو بخصوص مشروعات قوانين مطروحة على البرلمان كالمشروع المتعلق بإعادة النظر في قانون العقوبات. وتأخذ الأصوات المعارضة على الحكومة قصور إجراءاتها الاجتماعية الخاصة بدعم الطبقات الدنيا وتمكينها من مواجهة الأزمة، وعدم شفافيتها فيما يتعلق بالأرقام المعلنة بالنسبة لعدد الإصابات وعدد الوفيات، والأهم من ذلك ممارستها لسياسة استقطابية مؤذية بدلاً من تعزيز روح الوحدة في مواجهة الكارثة.
يقول الصحافي روشن تشكر إن «كل شي قد يتغير بعد هذه الأزمة باستثناء الرئيس رجب طيب أردوغان» الذي يتهمه بأنه لم يتخل، أثناء الأزمة، عن نهجه الحزبي وكأنه ليس رئيساً لكل تركيا، بل فقط لحزب العدالة والتنمية ومناصريه. فقد رأس اجتماعاً في القصر لرؤساء بلديات المدن التركية اقتصر على أعضاء الحزب منهم، وقال في الاجتماع إنه يجب تحويل الأزمة إلى فرصة سياسية.
ورأى كتاب معارضون ترجمة هذه الكلام عملياً في منعه رؤساء بلديات من أحزاب معارضة من تنظيم حملات جمع تبرعات لمساعدة الأسر المتضررة من البطالة الإجبارية بسبب الوباء، وأبرزهم رئيس بلدية إسطنبول، بدعوى عدم السماح بوجود «دولة داخل الدولة»! وأطلق الرئيس رداً على الحملات التي منعها حملة تبرعات لم تتجاوز حصيلتها ملياراً ونصف من الليرات التركية، انتقدتها المعارضة لهزال حصيلتها من جهة، ولأن على الدولة أن تقدم للناس، في أوقات الأزمات، لا أن تطلب منهم التبرع، حسب رأيها.
أما فيما خص تعديل قانون العقوبات، فقد انتقدته المعارضة لأن المشروع سيؤدي، في حال إقراره، إلى خروج آلاف المجرمين من السجون، وإبقاء سجناء الرأي من صحافيين وسياسيين فيها.
شكلت جائحة كورونا، في جانب منها، مرآة سياسية لأحوال السياسة في مختلف البلدان والمواقع، حيث حكومات تسعى وراء تحقيق «قصة نجاح» تطيل في عمرها في السلطة، وأخرى وجدتها فرصة لتشديد القبضة على المجتمع، وعصابات حاكمة، تتصرف وكأن شيئاً لم يستجد، كما هي الحال في سوريا ومصر ولبنان وأمثالها من البلدان المنكوبة.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية