إن وباء (كوفيد- 19)، سيلقي ظلاله، بلا شك، على العلاقات الاجتماعية، إذْ أن تأثيره لا يتوقف عند إقفال الحدود بين الدول، وإغلاق مطاراتها وموانئها، وإغلاق أبواب مدارسها وجامعاتها وحسب، ومخاطره لا تتسبب في أزمات اقتصادية وسياسية فقط، بل سيتعدى إلى تشكيل أنماط جديدة في العلاقات بين الناس، بحيث فرضت غالبية الدول حظر التجوال، وأقرت حالة من العزلة على شعوبها، فسارع كل فرد إلى العودة إلى الحضن الآمن، ليحتمي في ظل أسرته، وتحت سقف بيته الصغير، خوفاً من هذا القاتل اللعين، الذي يتربص بضحاياه من دون أن يعطيهم أدنى فرصة في أن يروه.
ففي ظل مجتمع المخاطرة، وفي ظل عالم منفلت كهذا، تحدق به الفوضى العالمية من كل صوب وحدب؛ فمن الطبيعي أن تؤثر هذه المخاطر في كل مناحي الحياة، بما في ذلك الاجتماعية، بحسب ما ذهب إليه كل من أولريش بيك وأنتوني غدنز.
إجراءات وقراءات
قدمت منظمة الصحة العالمية مجموعة من التوصيات الضرورية، التي من شأنها احتواء هذا الفيروس القاتل، حيث أوصت بضرورة الحجر الصحي المنزلي أو العزلة الذاتية، وفرض التباعد الاجتماعي، بالإضافة إلى توقيف كل السلوكات، التي قد تؤدي إلى التقارب بين الأشخاص، كالعناق واللمس والاجتماع، مع ضرورة ترك مسافة الأمان، التي تقدر بمتر واحد على الأقل، وهي إجراءات وقائية، تقول المنظمة إنها، لإبطاء تفشي الفيروس، والحد من انتشاره.
غير أن هناك من يرى بأن هذه الإجراءات الوقائية، حتى لو كانت لها أهداف سامية ونبيلة، إلا أنها تقلل من قيمة الإنسان، فتُفقد المريض احترامه، بحيث تُظهره بأنه متهم ومنبوذ، لا لشيء سوى لأنه مريض، مع أنه، وهو في هذه الحالة، يحتاج إلى الرعاية والاهتمام، لا إلى النبذ واللامبالاة، وتعيد تشكيل نظرتنا إلى الآخر القريب، باعتباره «مجرد ناشر محتمل للفيروس، يجب تجنبه بأي ثمن، والابتعاد عنه مسافة أمان»، ما يؤدي، والحال هذه، بحسب جورجيو أغامبين إلى محو «الجيرة الإنسانية»، التي هي، في الأصل، أساس العلاقات بين البشر، وبوابة العطف والتعاون والتضامن والتعايش. على ضوء ما سبق، يتساءل أغامبين قائلا: «ماذا سيحل بالعلاقات الإنسانية؟ ما هذا المجتمع المتجرد من كل القيم عدا محاولة البقاء؟». من ناحية أخرى، فإن مصطلح «التباعد الاجتماعي»، على الرغم من تدثره بهذه اللفظة الجميلة، إلا أن معناه، في الحقيقة، هو الفصل، بمعنى ترسيم الحدود، للفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، كون ذلك الآخر، مشكوكاً فيه؛ فلربما يكون حاملا للعدوى، وهو لا يدري، لذا يجب الابتعاد عنه قدر الإمكان. قد يكون التباعد، أيضاً، تعبيراً عن حالة الخوف والارتياب من الآخر، ليس من الآخر البعيد، أي الغريب، كما كان من قبل، والذي عبرت عنه مقولةٌ: «لا تتحدث أبداً إلى الغرباء»، بل من الآخر القريب، ما يؤدي إلى تفكيك الجماعة الواحدة وتشتيتها.
العزلة: الفردُ ضد المجتمع
في الواقع لم يكن فيروس كورونا هو الذي فرض عزلةً إجباريةً على البشر، بل هم كانوا معزولين أصلا، فالسمة السائدة في عالم اليوم هي الفردانية، أي «إعادة تشكيل أعضاء المجتمع في صورة أفراد»، وهذا التشكيل، بحسب زيجمونت باومان، «ليس فعلا واحداً منفصلا، بل هو نشاط يعاد إقراره كل يوم»، من ثم، فحينما تتقدم مصلحة الفرد على المجتمع، ويُحتفى بالفردانية بهذا الشكل الكبير، فإن العزلة حتماً ستجد البيئة المناسبة لها، بيئة مجتمعاتها مفككة؛ فتعمل على إعادة تشكيل شبكة جديدة للعلاقات بين الأفراد، وفقاً لهذه الرؤية. ثم جاء التطور التكنولوجي المذهل، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أضحى كل فرد متمركزاً حول ذاته، يُنقب في عالمه الافتراضي عن أشياء مفقودة، أو عن أصدقاء جدد، لعله يجد فيه ما عجز عن الحصول عليه في الواقع الحقيقي، بعدها ظهر وباء كورونا، فساهم في تعميق هذه العزلة أكثر، لاسيما بعد إقرار تلك الإجراءات القاسية.
إن العزلة، فضلا عن أنها نتاج الفردانية، كثقافة استطاعت أن تسود العالم، هي فكرة السياسي، كي لا يكون المجتمع كتلة واحدة، وبقدر عزل أفراده يتضعضع، ويزداد ضعفاً، فتسهل بذلك السيطرة عليه.
هذا ما يؤكده نعوم تشومسكي عندما يقر بأن العزلة ليست أمراً جديداً في المجتمعات الإنسانية، بل: «لقد شهدنا في السنوات الماضية نوعاً من أنواع العزلة الاجتماعية المؤذية جداً»، مستشهداً على ذلك بـ (مطعم ماكدونالدز) في أمريكا، الذي يتوافد عليه العديدُ من المراهقين، من أجل تناول الهمبرغر، إلا أن ما يلفت النظر في هذا المشهد «هو حصول حوارين متوازيين؛ حوار سطحي بينهم، وحوار يُجريه كل واحد على حدة على هاتفه الذكي، مع شخص يتحدث معه عن بعد «، ويضيف بأن فكرة العزلة هي من اختراع مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في أعوام (1979- 1990)، التي كانت ترافع لعدم وجود المجتمع «لا يوجد شيء اسمه مجتمع، بل يوجد فقط أفراد»، ولكي يتحقق هذا الهدف سعت إلى عزل الناس بعضهم عن بعض، كما يرى بأن سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قد عمق عزلة الأفراد أكثر، جاعلا «من الناس كائنات معزولة بعضها عن بعض .» كما أن هذه النتيجة هي ما توصل إليه باومان أيضا، حين نفى أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من سلبياتها العديدة، هي السبب في العزلة، حيث يرى بأن هذه الشبكات والمواقع ما كان لها أن تتمتع بهذه القوة والفعالية، لو لم تجد الأرضية المناسبة، من تفكك للمجتمعات، وهشاشة للروابط الاجتماعية.
العزلة فكرة السياسي
إن العزلة، فضلا عن أنها نتاج الفردانية، كثقافة استطاعت أن تسود العالم، هي فكرة السياسي، كي لا يكون المجتمع كتلة واحدة، وبقدر عزل أفراده يتضعضع، ويزداد ضعفاً، فتسهل بذلك السيطرة عليه، لهذا يتوجس البعض خيْفةً من أثر هذه التدابير الوقائية على المستقبل القريب، وليس الحاضر فقط، يقول أغامبين: «ما يثير القلق ليس الحاضر بالدرجة الأولى، أو ليس الحاضر فقط، وإنما ما يحمله المستقبل، مثلما تخلق الحروبُ لأوقات السلم سلسلةً من التقنيات المشؤومة، فمن الراجح أيضاً استمرار التجارب والإجراءات الناتجة عن الأزمة الصحية الطارئة». وعليه، فإن الهدف الأساسي من هذه التدابير الصحية القاسية والمؤذية، في نهاية المطاف، هو تغيير المجتمعات، بما يتوافق ومشروع النخب الحاكمة، التي تسعى، بالإضافة إلى تدجين الإنسان، تفكيك الروابط الاجتماعية في المجتمع، حيث يصبح أكثر انضباطاً وعزلةً، ما يمنع، في الأخير، من تكوين أي حركة اجتماعية مضادة لسياسات الحكومات وتوجهاتها. لكن، من المؤكد أن إنسانا ما بعد كورنا إذا لم يستطع أن يقاوم هذه الطرق الجديدة في الحياة، أو في العلاقات الاجتماعية، حتماً، سيتكيف معها، كما تدل على ذلك دراسات علم الاجتماع والوقائع الماضية، إذْ تؤكد على أن أي إجراء مهما كان قاسياً، حتى لو أدى إلى الحد من حريته، مع مرور الوقت، سيقبلها «مقابل حرية (تواجده) مع الآخرين»، فالإنسان من أجل البقاء مستعد أن يضحي بكل شيء.
٭ كاتب جزائري