الوساطة بين الدبيبة وباشاغا: استراتيجية تركيا لمنع تفجر الأوضاع وحماية مكتسباتها في ليبيا

إسماعيل جمال
حجم الخط
0

إسطنبول ـ «القدس العربي»:  عقب أيام من اشتباكات دامية شهدتها العاصمة الليبية طرابلس، وصل رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عبد الحميد الدبيبة إلى إسطنبول في زيارة رسمية، بالتزامن مع أنباء غير رسمية عن زيارة متزامنة قام بها رئيس الوزراء المكلف من برلمان طبرق فتحي باشاغا إلى تركيا فيما يبدو أنها مساع تركية حثيثة للوساطة بين طرفي النزاع السياسي في ليبيا الذي تخشى أنقرة من تحوله إلى نزاع مسلح واسع قد يمس بـ«مكتسباتها» في ليبيا ويهدد مسارها للعودة إلى سياسة «صفر مشاكل» مع الحلفاء الإقليميين لطرفي النزاع.

ومع تصاعد الخلافات والتنافس السياسي بين الدبيبة وباشاغا وما رافقه من تحشيد عسكري واشتباكات متفرقة توسعت نهاية الشهر الماضي في طرابلس وخلفت قتلى وجرحى، تتزايد الخشية من تفجر الأوضاع العسكرية مجدداً في ليبيا ما يفرض على تركيا تحدياً عسكرياً وسياسياً كبيراً يتعلق بالملف الليبي والمسار الإقليمي وصولاً للداخل التركي وحساسية مرحلة ما قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة منتصف العام المقبل.
ونهاية الشهر الماضي، اندلعت اشتباكات في طرابلس بين جهاز «دعم وحفظ الاستقرار» (بقيادة غنيوة الككلي) التابع للمجلس الرئاسي، و«اللواء 777» (بقيادة هيثم التاجوري) التابع لرئاسة الأركان، ما خلف 32 قتيلا و159 جريحا، على خلفية ما اعتبر أنه محاولة لدخول باشاغا إلى طرابلس بالقوة للسيطرة على السلطة وهي المحاولة الثانية خلال أشهر، حيث يرفض الدبيبة تسليم السلطة إلا لحكومة يكلفها برلمان جديد منتخب.
وتعثرت جهود تبذلها الأمم المتحدة لتحقيق توافق ليبي على قاعدة دستورية تُجرى وفقًا لها انتخابات برلمانية ورئاسية، يأمل الليبيون أن تساهم في إنهاء نزاع مسلح يعاني منه بلدهم الغني بالنفط منذ سنوات، وفي هذا الإطار تتركز الجهود التركية على محاولة التقريب بين الطرفين لإجراء الانتخابات وتشكيل برلمان جديد ينهي الخلاف الدستوري ويبعد شبح الحرب.

الدبيبة وباشاغا في تركيا

بداية الشهر الجاري، التقى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة في إسطنبول حسب ما أكدت وكالة «الأناضول» التركية التي قالت إن اللقاء كان «مغلقاً» بينما قال المكتب الإعلامي لحكومة الدبيبة، إن اللقاء تناول «الملف السياسي وعددا من الملفات الاقتصادية والعسكرية والسياسية» وحسب البيان الليبي، اتفق الجانبان على «برنامج عمل بين البلدين يشمل التعاون العسكري ومجال الطاقة، وعودة الشركات التركية لاستكمال المشروعات المتوقفة».
ونقل البيان عن الدبيبة تأكيده «أهمية دور تركيا في دعم الجهود الدولية للدفع بملف الانتخابات ودعمه ليكون أولوية دولية» لافتاً إلى أن «ما جرى في العاصمة طرابلس، محاولة للاستيلاء على السلطة بواسطة السلاح والمؤامرات، ولا بديل لبلادنا عن الانتخابات» ناقلاً عن أن اردوغان شدد خلال اللقاء على أن «التغيير لا يتم إلا عبر الانتخابات».
بالمقابل، قال المكتب الإعلامي لحكومة باشاغا في بيان إن الأخير سيزور تركيا «بدعوة من الجانب التركي» من أجل «بحث المسار السياسي وسبل التعاون بين البلدين» وهي الزيارة التي تحدثت عنها وسائل إعلام مختلفة لكن الجانب التركي رسمياً لم يعلن عنها ولم ينفها أيضاً.
وفي بيان لاحق، قال المكتب الإعلامي لحكومة باشاغا إن الأخير عقد اجتماعا مع «نواب رئيس الحكومة «لاطلاعهم على نتائج سلسلة اجتماعاته التي عقدها في زيارته الحالية لتركيا» وأكد لهم بحسب البيان «على النتائج الإيجابية لهذه اللقاءات والتي لا تزال مستمرة وحثهم على التواصل وبذل المزيد من الجهود للتهدئة وتفويت الفرصة على محاولات جر البلاد لعودة الصراع المسلح والفوضى مع ضرورة الاستمرار في العمل السياسي والعمل مباشرة مع كل الأجسام والقوى السياسية الداخلية ومع المبعوث الأممي الجديد والأطراف الدولية من أجل استكمال تمكين الحكومة الليبية مباشرة مهامها لتهيئة الأوضاع الملائمة للوصول بليبيا إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أقرب الآجال».

نقطة تحول

والشهر الماضي، وفي نقطة تحول مهمة بالسياسة التركية تجاه الملف الليبي، التقى رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب، رئيس مجلس النواب الليبي في طبرق عقيلة صالح، في العاصمة أنقرة، وذلك بالتزامن مع الحديث عن أن ترتيبات تُجرى لعقد «لقاء غير رسمي» وشيك بين صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في تركيا التي دعمت حكومة طرابلس عسكرياً وسياسياً في السابق ضد قوات حفتر التي تلقت دعماً من برلمان طبرق.
والتقى رئيس البرلمان التركي مع صالح في مقر البرلمان التركي بأنقرة قبيل عقد لقاء موسع ضم وفدي البلدين، ونقلت وكالة «الأناضول» عن شنطوب قوله خلال الاجتماع إن «العلاقات القائمة بين تركيا وليبيا تمتد إلى عهود قديمة» مبينا أن تعزيز العلاقات بين برلماني البلدين سينعكس إيجابا على باقي المجالات والقطاعات، مشيراً إلى أن «الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية يستحوذ على أهمية بالغة بالنسبة لتركيا».
من جانبه أشار صالح إلى «وجود روابط تاريخية بين الشعبين التركي والليبي، وأنه من الواجب ترك جميع قنوات الحوار مفتوحة من أجل إحلال الاستقرار والسلام في ليبيا» منوهاً إلى أن «أولوية الحكومة الجديدة التي تشكلت في ليبيا وحصلت على ثقة مجلس النواب، هي ضمان إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في البلاد» مشيراً إلى «أهمية دعم تركيا للجهود المبذولة لإحلال السلام والاستقرار في ليبيا».
من جهتها، نقلت وكالة «الأناضول» عن عضو في المجلس الأعلى للدولة الليبي إن ترتيبات تُجرى لعقد «لقاء غير رسمي» وشيك بين عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في تركيا، لكن لاحقاً لم يؤكد أي طرف حصول هذا اللقاء وما إن كان جرى بشكل غير معلن أم أن جهود جمع الطرفين قد فشلت.
وبالتزامن مع ذلك، قال السفير التركي في طرابلس، كنان يلماز، إن بلاده «تنتهج مقاربة شاملة تجاه ليبيا، بحيث تنظر إليها ككل دون التمييز بين شرقها وغربها، وتدعم الاستقرار والتوافق السياسي في هذا البلد» لافتاً إلى «دعم تركيا أيضاً المباحثات القائمة بين مجلس النواب الليبي في طبرق ومجلس الدولة الأعلى للدولة» مبيناً أن الجانبين اتفقا على الكثير من البنود ولم يتبق سوى البعض من مواضيع الخلاف بينهما.
وأضاف: «تركيا ترى أن من المفيد تشكيل الأرضية الدستورية في أسرع وقت والتوجه لإجراء انتخابات في ليبيا.. مقاربة تركيا في ليبيا تتمثل في تأسيس الاستقرار والتوافق السياسي وبالتالي سيادة الأمن والأمان» مشدداً على أن «من أبرز مبادئ أنقرة أيضاً في ليبيا، هو تجنب حدوث فراغ في السلطة، وتأمين التقاء كافة الأطراف وتركيزهم على إجراء انتخابات، بدلاً من تشكيل حكومات انتقالية بين الحين والآخر».

حسابات معقدة

تدعم تركيا بشكل رسمي حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس التي يرأسها الدبيبة، حيث تشدد أنقرة على أن حكومة طرابلس هي المعترف بها من قبل المجتمع الدولي والأمم المتحدة وهي التي تتمتع بالأسس القانونية في ليبيا، وكانت على الدوام على خلاف مع الحكومات والقيادات السياسية التي انبثقت عن برلمان طبرق.
وعندما حاولت قوات خليفة حفتر المدعوم من برلمان طبرق السيطرة على البلاد وصولاً لقرب السيطرة الكاملة على طرابلس، تدخلت تركيا عسكرياً بموجب مذكرة التفاهم العسكرية إلى جانب رئيس حكومة الوطنية آنذاك فايز السراج في نزاع عسكري واسع كاد أن يتطور لحرب أكبر بين داعمي الأطراف المتحاربة وخاصة بين تركيا التي كانت تدعم حكومة طرابلس وبين مصر والإمارات اللتان كانتا تدعمان برلمان طبرق وميليشيات حفتر.
وعقب أشهر طويلة من تراجع الخيار العسكري وفتح الباب أمام المساعي السياسية لحل الأزمة السياسية العميقة في ليبيا، عاد شبح الحرب ليطل برأسه مجدداً وذلك عقب اعتبار برلمان طبرق أن حكومة الدبيبة انتهت ولاياتها وانتخاب فتحي باشاغا رئيساً للوزراء وهو ما أعاد الانقسام السياسي إلى ذروته في البلاد وسط خشية من انزلاق الأوضاع إلى حرب أهلية جديدة قد تكون الأطراف الإقليمية جزءا أساسيا فيها. وفي هذا الإطار، تجد تركيا التي لا تزال تحتفظ بقواتها العسكرية في ليبيا نفسها أمام استحقاق سياسي وعسكري في وقت بالغ التعقيد، فبعد أن كانت في صراع سياسي وعسكري غير مباشر مع الإمارات ومصر وهما الداعمتان تقليدياً للشرق الليبي وبرلمان طبرق، فإنها اليوم تقيم علاقات متقدمة مع الإمارات وتسعى لإصلاح العلاقات مع مصر ولا تجد أي مساحة للمناورة والمخاطرة في التقدم الذي حققته في إطار مساعي العودة لسياسة صفر مشاكل.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، يتوقع أن تتحرك تركيا لتسخير مساعيها الدبلوماسية من أجل تعزيز الحوار مع كافة الأطراف الليبية لمنع انزلاق الخلافات السياسية إلى مواجهة عسكرية، وهو الخيار الأسلم لتركيا التي ستكون أمام استحقاق خطير وكبير في حال تفجر المواجهات كونها تمتلك قوات عسكرية على الأرض وتجد نفسها مضطرة للحفاظ على المكتسبات التي حققتها في المواجهة الماضية، وبشكل خاص تهدف أنقرة إلى الحفاظ على نفوذها العسكري والسياسي في ليبيا من أجل ضمان استمرار العمل بمذكرة التفاهم البحرية وعدم التعرض لأي انتكاسة قريباً في موازين القوى بصراع شرق المتوسط.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية