نقرأ لبعض النقاد والأدباء والمثقفين بشكل عام، ممن يولولون؛ خوفا على الأدب، خاصة الرواية من الكم الكبير الذي يُنشر بين غث وسمين، ورديء وجيد، ويطالبون بحماية الأدب وإنقاذه من هذا الطوفان غير المسبوق، حتى أصبح عدد الروائيين يفوق عدد القراء كما يزعمون.
وطالت الغيرة والحميّة النقد باتهامه بالمجاملة وعدم الموضوعية والشللية، وأنه نقد سطحي عبثي، لا يؤسس لحالة نقدية معتبرة، بل بلغ الشطط بأحد الأكاديميين، المطالبة بتقنين النقد وترخيص النقاد، وضرورة حصولهم على إجازة للكتابة النقدية، إذا امتلكوا الشروط المؤهلة لذلك.
الغيرة على الأدب والحرص على جودته أمر محمود بالتأكيد، لكن الدعوة إلى حماية الأدب بمنع النشر، أو وضع قيود عليه أمر مرفوض تماماً، ويناقض جوهر الإبداع وحرية التعبير، لأن معايير الجودة والرداءة غير ثابتة ولا يمكن أن يُتفق عليها، ورب رواية نالت حظاً من الشهرة والتقريظ وهي تافهة، وغيرها بقيت على الرفوف لا يأبه بها أحد مع أنها جيدة ومختلفة، فالشهرة ليست حكراً للجودة والإبداع والأصالة فقط، بل قد تكون حصيلة إبداع في التسويق، وقوة العلاقات الشخصية، والشللية والمصالح المشتركة في الغالب، وهذا لا يشمل كل الروايات المشهورة، بل قسماً معتبراً منها.
تتمرد الفنون الإبداعية على النمذجة والأطر الجاهزة الثابتة، فلا يمكن أن تخرج ضمن قوالب مصنعية متشابهة كأنها قطع غيار أو أصابع شوكولاتة أو حتى سيارات مرسيدس فاخرة. صحيح أن هناك أطراً عامة تحكم كل فن إبداعي وقواعد معينة، لكنها أطر وقواعد مرنة، ولا إبداع أو تجديد حقيقي إن لم ينجح في الخروج على بعض هذه القواعد، والتمرد عليها بذكاء وفطنة وقصدية، وإلا لكانت الفنون الأدبية على الوتيرة نفسها منذ بدأت إلى قيام الساعة، وفي ذلك يقول الروائي المصري محسن يونس: «ينبغي، أن يعمل الكاتب انطلاقاً من المقولة الأمثولة: «الإبداع هو ما يأتي على غير مثال». الخروج على المألوف في الكتابة والإبداع عموما، هو ما يعطي الكتابة ماهيتها وجوهرها، فلسنا نكتب من خلال «روشتة» نتبع أوامرها، وإلا أصيبت نصوصنا بالمرض! الحرية للكاتب هي رئتاه وعقله وضميره معاً، تمنحه اللياقة والنشاط والقدرة على الابتكار».
إن تفاوت الأعمال الأدبية الإبداعية ظاهرة صحية في كل زمان ومكان، وهي ملحوظة حتى في الدول العريقة في الأدب والإبداع؛ إذ أن معايير الجودة مختلف عليها، وتتباين من ناقد إلى آخر، فالعمل الواحد يحتمل قراءات مختلفة، وكل قراءة لها حكمها ورأيها وتقييمها، ولا بد من وجود اختلافات بينها لصالح العمل أو ضده، وهذا لا يضير العمل، فالعمل الجيد هو الذي يحتمل قراءات مختلفة ومتضاربة أحياناً، وهذا طبيعي جداً، إذ يعتمد النقد ـ مهما ادعى المنهجية – على الذوق وثقافة الناقد وفكره، وربما علاقاته مع الكاتب. وفي المقابل، فإن الرداءة نسبية، لا يمكن تعريفها أو تحديدها بإحكام أدبياً، فرداءة المحتوى والتعبير مثلا في بلد ما، قد تكون ميزة في بلد آخر؛ تبعاً لمعايير المجتمع وثقافته، وحتى في البلد الواحد تختلف هذه المعايير من وقت لآخر، ومن طبقة لأخرى.
ولا شك في أن الكاتب المشهور ليست أعماله كلها على سوية واحدة، فهي متفاوتة الجودة بالضرورة بفعل عوامل كثيرة، منها: الخبرة والتمكن وسعة الاطلاع، والحالة النفسية ودافعية الكتابة، والظروف المحيطة وموضوع الكتابة، وغيرها من العوامل، بل إن العمل الواحد قد يكون متذبذب الجودة والمستوى، بين بدايته ووسطه ونهايته؛ بسبب التباعد الزمني بين كتابة كل جزء، أو تذبذب الحالة النفسية وتأثير الظروف، وربما ضغط الزمن لسرعة الإنجاز بطلب من ناشر، أو للمشاركة في مسابقة أو معرض، أو حتى لغايات الإكثار من الأعمال المنشورة.
لا يحق لأحد أن يفرض الوصاية على الكتابة، خاصة الفنون الإبداعية، ومن نافلة القول إن الكاتب حر في ما يكتب وكيف يكتب، وله حق النشر، وليتحمل هو مسؤولية ما ينشر، ولا خوف على الأدب من الأعمال الرديئة.
لا يعني ما سبق أن تكون الكتابة الإبداعية بلا معايير أو قواعد أو حدود، لكن هذه الحدود والقواعد من مهمة الكاتب أولاً والناشر ثانياً، أما الكاتب فعليه أن يراجع ما يكتب بدقة، ويستأنس بآراء أهل الفن المبدعين، والنقاد الموضوعيين، ولا يرضى لنفسه أن ينشر إلا ما يظن أنه جيد ويستحق النشر، وينافس غيره من الأعمال المعروفة بجودتها ومقروئيتها. أما الناشر فعليه أن يحافظ على سمعته ومصداقيته، فلا ينشر إلا بعد غربلة الأعمال واختيار الأجود منها، وفق معاييره، بالاستعانة بمن يثق فيهم من النقاد والمحررين وأهل الصنعة، ولا يبرر حرصه على المردود المالي من الكتاب أن ينشر لكل من يدفع ممن هب ودب.
إن إقدام أي كاتب مهما كان مستواه أو خبرته على النشر مغامرة كبيرة، وشجاعة تستحق الإشادة، فهي خطوة في الظلام، قد ترفع الكاتب أو تهوي به إلى الحضيض، وربما لن يسمع به أحد، فكأن لم يكتب ابتداءً، وهذا مما يؤلم الكاتب ويجرحه، وقد يؤدي به إلى التوقف والكف عن الكتابة. أما الفنيات والأسلوب والتقنيات والموضوع فهي شأن آخر، وهي مهمة النقاد والمثقفين للحكم للكتاب أو عليه.
لا تبرر الغيرة على الأدب إطلاق عموميات وكلام مرسل لا يؤدي إلى نتيجة ولا يصلح حالا، ولا يغير شيئا، فالشجاعة تتطلب ممن يتخوفون على الأدب، وذائقة القراء، ومستقبل الإبداع أن يمتلكوا شجاعة التصريح والتأشير بوضوح إلى الغث والرديء، بأن هذه رواية ضعيفة أو سيئة أو سخيفة، مع ذكر ما يؤكد ما يذهبون إليه، أما الاكتفاء بالعموميات والولولة فهي تهرب من تحمل المسؤولية، وتكدير الصفو العام الأدبي، وإساءة إلى الإبداع، وفرض الوصاية عليه، من خلال أبوة زائفة، وتزكية للذات، واستعلاء على الغير، وادعاء بأنهم كهنة الإبداع يمتلكون صكوكه ومفاتيح جنته.
والنقد كما الفنون الإبداعية، يتعرض للتجريح والوصاية من البعض بحجة ضعف ما ينشر من المقالات والدراسات النقدية، وأنها في معظمها نقد سطحي، أو نقد انطباعي أو نقد صحافي، لا قيمة له، والمطلوب ـ في رأيهم – نقد يعتمد على مناهج النقد المعروفة، وهذا لا يحسنه إلا الأكاديميون والمتخصصون في النقد علما ودراسة. لكن، في ظل إحجام معظم المتخصصين في النقد عن تناول الأعمال الأدبية إلا لغايات الترقية الأكاديمية، فإن أي عمل نقدي، سواء أكان منهجيا أو قراءة أو عرضا أو تناولا جزئيا، هو عمل يستحق التقدير، وهو أفضل من لا شيء، وما لا يعجب البعض يعجب الغير، أما النقد الأكاديمي فهو نقد موجه للخاصة، إذ لا يفهمه إلا المتخصصون بما يحفل به من مصطلحات نقدية لا يستوعبها جميع القراء، وربّ دراسات نقدية منهجية لا يقرأها أحد لوعورتها وشقشقتها واتكائها على مقولات وآراء النقاد الغربيين بشكل مبالغ فيه، فلا نقد عند البعض إن لم يرتكز ويستشهد بأعلام الفكر والنقد الغربيين.
وبعد؛ فإنه لا يحق لأحد أن يفرض الوصاية على الكتابة، خاصة الفنون الإبداعية، ومن نافلة القول إن الكاتب حر في ما يكتب وكيف يكتب، وله حق النشر، وليتحمل هو مسؤولية ما ينشر، ولا خوف على الأدب من الأعمال الرديئة، فسنة الحياة التدافع؛ لتتمايز الأعمال، وتظهر الفروقات، ويرتقي من يستحق، ويهبط من يستحق، والتاريخ القريب سيغربل كل شيء، فالشهرة الزائفة آنية زائلة، وقد تسقط عن الكثيرين، وربما يشتهر في ما بعد بعض المجهولين بعد أن ينفض الغبار عن أعمالهم، وتتناولها دراسات منصفة، تجلوها وتظهر ما خبئ من جواهرها ودررها.
كاتب أردني
يا سيدي ليست وصاية على الأدب أن تطالب من يكتبون أن يتعلموا أولا الإملاء والنحو والصرف والتراكيب. ولا أن تطالب الفتاة التي تمر بمشكلة عاطفية وتريد التعبير عنها من خلال الرواية أن تقرأ وتتثقف وتعلم أن الكتابة ليست مجرد انتقام ممن سبب لها المشكلة!
إن بعض الناشرين الذين يجيدون النصب والاحتيال يستغلون كثيرا من الشباب المسكين بأخذ أموالهم لطبع ألف أو خمسمائة نسخة ، ثم يطبعون عن طريق (الديجيتال) خمسين أو مائة ويضعون عليها طبعة ثانية أو ثالثة. الأدب ليس بخير يا عزيزي!
تحياتي أستاذ علي.. الأدب ليس بخير ككل أحوالنا العربية ليست بخير… وأنا أتفق معك بضرورة توجيه النصح والإرشاد لمن يكتبون، وأن يقوم النقد بواجبه في غربلة كل ما ينشر.. وتدور مقالتي حول رفض الوصاية ومنع النشر، وأنا مع النشر بحرية وليتحمل الكاتب سهام النقد، أما الناشر فمن المعيب أن ينشر نصاً لا يحقق الحد المعقول فنياً، أما اللغة فلا مجاملة فيها.