الخاصية الجوهرية التي لم ترد في البيان السياسي لمولود حمروش هي أن الدولة المنشودة والمزعومة من قِبَل مناضلي وحَرَكِيي الثورة التحريرية، يجب أن تتم في إطار المغرب العربي ومبادئ الإسلام، وهذا ما لم يتحقق لحظة ما بعد الاستقلال، بل رأينا أن أركان نظام الحكم تلقت الضربات المقوضة بسبب غياب الإطار الجغرافي الواسع المؤمن للكيان الجزائري، وبسبب إخفاق مروّع في إدغام منظومة الدين الإسلامي في التنمية الشاملة للبلد.
فقد ضاع جزء كبير من الهوية الجزائرية مع افتقاد الجزائر إلى المجموعة الإقليمية الواسعة، أي المغرب العربي أو النطاق الشمال الإفريقي الذي حرصت عليه الحركة الوطنية الجزائرية منذ تأسيس تنظيم نجم الشمال الإفريقي عام 1926، مرورا بمكتب المغرب العربي عام 1947، وليس انتهاءً ببيان أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954. أما الإخفاق المدمر الأخر لبناء الدولة الجزائرية كمؤسسة عمومية لا تزول بزوال الرجال والجماعات فهو دخول النظام في حرب أهلية بسبب الدين نفسه، الذي علق عليه الأمل الكبير في بناء وتكوين الدولة/ الأمة.
وهكذا ضاعت، بشكل مفْزِع أهم مقومات الدولة الوطنية المنشودة، عندما دخلت مكونات النشأة الأساسية في صراع مدمر، ونقصد الدين، السياسة والعسكر. ولم يفضِ الاستقلال إلى إرساء معالم الدولة التامة التي تؤمن وتصون نفسها من داخل مقوماتها المستغنية عن الأشخاص الطبيعية والطوائف الإثنية واللغوية والدينية. فقد تحقق الاستقلال، ولم يُجَايِله ويلاحقه ما يجسده ويترجمه إلى مرافق وهيئات ومؤسسات دولتية قائمة بذاتها. ما هو قائم اليوم، جرّاء مصادرة الاستقلال، على رأي فرحات عباس، هو صراع حاد بين مكوّنات الأمة التي تأبَّت عن الوصول إلى مرفأ الخلاص النهائي المؤّمن لدائمية الدولة للشعب. ولحد الآن لم نحسم في مكونات الذات، وبقي الخطر دائما يلوح من الدين والسياسة والعسكر.
أسْقَط مولود حمروش فترة الاستقلال التي مرّ عليها أكثر من نصف قرن، ولم يأخذها كفترة للدراسة والمعالجة السياسية والفكرية، يكشف أو يكتشف أعراض وأسباب إخفاق النظام في إقامة دولة مؤسسات الحكم الراشد. واقع التحليل السياسي يفصح بأكثر من لغة وبأكثر من مقاربة أن الوقائع والأحداث وكل مسار تاريخ الجزائر المستقلة يستغني عن اللَّواذ إلى ما قبلها، لأن تجربة الاستقلال لها من قوة الحضور أنها تَشْرح وتفسّر سبب الاخفاق والفشل، وأن الإحالة إلى التاريخ السابق على الثورة مجرد صرف النظر عن الأسباب الحقيقية. وهكذا، على خلاف ما يتصوّر مولود حمروش، فإن الحقيقة التي نبحث عنها مبثوثة في تاريخ الجزائر المستقلة وليس قبلها. فعندما نأخذ أهم الأحداث التي مثلت منعطفات تاريخية في حياة الجزائر لما بعد الاستقلال، نجدها كلها ترتب تداعياتها ومضاعفاتها فورا وآجلا، وبالقدر الذي توضح وتجيب على السؤال: لماذا وصلنا إلى هنا؟ فإذا أخذنا رهَان تجربة التعددية في الجزائر، التي آلت إلى انقلاب في يناير/كانون الثاني 1992، فإننا نجد أن ما أسفر عنه الانقلاب ليس تكريس النظام العسكري فحسب، بل التوقيع على هزيمة الشعب وتدحرجه إلى مرتبة الرَّعِية التي يطلب منها الموافقة على مرشح السلطة، ومن ثم إبطال العمل بنظام الانتخابات الذي يُعَبِّر في الجوهر والماهية عن الحياة الديمقراطية التي تُؤَمِّن بتداول السلطة وتعاقب القوى السياسية المختلفة عليها.
تحقق الاستقلال في الجزائر ولم يُجَايِله ما يجسده ويترجمه إلى مرافق وهيئات ومؤسسات دولتية قائمة بذاتها
نَوَدُّ القول، إن مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال يعطينا الشرعية الكافية لكي نرد كل ما تعانيه الجزائر في حاضرها ومستقبلها ليس إلى التاريخ السابق على الاستقلال، بل إلى عهود الاستقلال لأن أحداثه التاريخية من صلب ورحم الاستقلال نفسه، الذي يحيل إلى نفسه وليس إلى غيره على اعتبار أن الذين حكموا البلد هم من معاصري تجربة الاستقلال. فقد مضى ما يكفي من الزمن لكي يكون هو التاريخ الشرعي لأي محاكمة أو تقييم تجربة. وهذا ما لم يلتزم به مولود حمروش في وصيته الأخيرة، الذي أصرّ على الحديث عن الدولة في تجارب الأمم المتقدمة، التي أسست فعلا دولا قارة وتامة من وحي مسارها التاريخي، الذي لا يمكن أن يصدق على باقي التجارب، خاصة منها في البلدان التي عُرِفَت بالعالم الثالث في أعقاب انحسار الاستعمار عنها. وعليه، ووفقا لما جاء في بيان مولود حمروش، فإن الإحالة إلى مقدمات وأصول ومنطلقات الدولة الوطنية لا يزال يعني تجديد وتكرار السعي إلى بنائها وتحقيقها، لأن الانطلاقة والشروع فيها لا يعني تحققها وتعيُّنها. وما تحقق طوال عهود الاستقلال هو جملة من الانقلابات التي أفسدت مسار التراكم الإيجابي، أزمة 1962، أزمة 1965، أزمة 1988، أزمة 1992، وكلُها أزمات ظهرت ليس لتختفي، بل لكي تتكدس ويُنْسِي اللاحق منها السابق، على خلاف الدولة القارة التي إذا حلّت فيها أزمة فلكي تَحُلّها وتَنْتَقل إلى مرحلة أخرى وتواجهها بعُدَّة أخرى تكون من جنس الأزمة، ومن آخر ما تَطَوَّر إليه البلد.
إن تراكم الأزمات وتَكَدّسها ساهم بقوة في تعبيد الطريق إلى تنمية مَعْكُوسة أبرز مظاهرها عمران عشوائي، إنجازات مشوّهة، تزييف الوعي، تبديد ونهب منظم للمال العام، حالة من القنوط العام وعدم الإيمان بالوطن والفرار منه في أول فرصة تتاح ولو عبر المجازفة بالحياة.
وقبل أن ننهي هذه المقالة، يجب الإشارة مرّة أخرى إلى أن ما سَكَتَ عنه مولود حمروش هو مقتل الجزائر المستقلة التي أخفقت في إرساء معالم الدولة الوطنية القارة. فقد سَكَتَ عن مرحلة الاستقلال، كما أنه سَكَتَ عما أفصح عنه بيان أول نوفمبر: إن الوحدة السياسية التي ينشدها المناضلون هي كيان ضمن الشمال الإفريقي، أي كيان يَعِي نفسه ضمن مجموعة المغرب العربي الإطار المفصح عن الانتماء السليم والممكن، الذي يوصل إلى المؤسسة العمومية الدائمة والقارة. فقد حفلت كل مطالب وبيانات الحركة الوطنية طوال القرن العشرين، إما بالإنماء رأسا إلى الدولة الفرنسية ـ الأم، أو تحقيق مجموعة الشمال الإفريقي كأفضل سبيل إلى تجاوز الاستعمار وامتلاك ناصية الذات الجزائرية. فقبل الاستعمار الفرنسي كانت الجزائر إقليما في نطاق الدولة العثمانية، لكن مع الكفاح السياسي الوطني انتقل الوعي إلى الدولة المدنية الحديثة، في نطاق المجموعة الأكبر التي لا تأتي على وحداتها الصغيرة. فالنشأة الأولى المؤَمِّنة لمستقبل البلد هي التي يجب أن تتم في نطاق المجموعة الكبيرة، كما كان يعي سكان منطقة الشمال الإفريقي.
إن بيان أول نوفمبر 1954، الذي يعد المرجعية الأيديولوجية والسياسية لبناء الدولة الجزائرية في إطار المغرب العربي، هو بيان تاريخي جاء كخلاصة لتجربة طويلة من النضال السياسي الحديث والمعاصر، لكن الاستقلال بَتَرَ هذا التوجه وقَطَع الصلة لما سبقه، حتى إن حاول قادة البلدان المغاربية تشكيل اتحاد ما بين الدول، إلا أن الحرص على الوحدة الأصغر طغت على ما هو أكبر وأهم منها، وضاعت من ثم إمكانية تأسيس الدولة الراسخة التي تصون الوحدات الصغرى مهما كانت أصولها، لا بل تتطور بواسطتها.
كاتب باحث جزائري