لا شك في أن الواقع المصري قاسٍ بقدر ما هو مخيف، فليس الوضع صعباً فحسب، على جميع الأصعدة، بل هناك شبه يقين بأن المقبل أسوأ؛ كتراجيديا يونانية تماماً (مع كامل علمي بأن الأغلبية من الجمهور المصري لا تلم بأي طرفٍ منها ولا تكترث بها!) اجتمعت كل السحب القاتمة المحملة بالرعود والسيول في سماء «المحروسة» حيث لم يزل يُسمع صفير الريح وزمجرة السماء ولم يبق لهذه الغيوم إلا أن تطلق منهمرةً كل ما تحتمله أحشاؤها على رؤوس العباد.
في الوقت نفسه، لا أظن أن شخصاً جاداً، مهما بلغ تفاؤله، قادر على الزعم بأن أياً من الوجوه التي تتصدر المشهد، وعلى رأسها (خاصةً) السيسي لديه أي تصورٍ أو يقدم طرحاً متسقاً ومقنعاً عن كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية، التي يتمثل التطور الإيجابي الوحيد في ما يخصها في كون الحكومة بدأت تعترف بها، وإن كانت لم تتزحزح بطبيعة الأمر عن السياسية المتصلة، والتكتيك المعهود من الإلقاء باللائمة على الظروف السياسية والحروب، سواءً الإقليمية أو الدولية، أو الجمهور الذي لم يغير من معدل إنجابه.
المخلصون المحبون لوطنهم دون شك، لا يختلفون كثيراً عن الذين ينتظرون الإصلاح من النظام، فكلاهما يعبران عن بؤس الوضع القائم، مع استحالة مقدرتهم على التغيير لضآلة عددهم ونفوذهم
والحقيقة، أو المسخرة، أن يتعامل نظام السيسي، أو نظام يوليو المستبد في نسخته ومرحلته «السيسية» للدقة، مع المشكلة كأنها محصورة في الشأن الاقتصادي، والأكثر مسخرةً أن ننساق، أو البعض بسذاجةٍ وراءه فنكرر ذلك، فالمشكلة يقيناً أكبر وأشمل من ذلك بكثير، والواقع أكثر بؤساً، والتردي أعمق بكثير مما نتصور أو نحب أو، وهو الأهم، مما يستطيع البعض الاعتراف به والتعايش مع وجوده. المشكلة ليست اقتصادية فحسب، بل هي مشكلة نظامٍ برمته، صادر كل الحريات، واحتكر كل الصلاحيات والقرارات، التافهة قبل المصيرية؛ ربما سمح مبارك بالثرثرة من قبيل التنفيس أو «خليهم يتسلوا» أما السيسي فلا، فدرس يناير الثابت في ذهنه هو أن مجرد الكلام، ولو من قبيل التسرية، قد يغدو مستصغر الشرر، الذي يضرم ناراً عارمةً قادرةً على إيذاء النظام، إن لم يكن ابتلاعه؛ نظام عادى كل القوى في مراحل مختلفة، وبقي في نهاية المطاف وفياً فقط ومعتمداً حصراً على المنظومة العسكرية أو الأمنية، يعتمد عليها في الأساس، وربما حصرياً في أغلب الأحيان، في سياساته وقراراته المصيرية، والأكيد أنه يعتمد على استبدال وتجديد كوادره من فراخ المنظومة العسكرية، في الوقت نفسه الذي سحق فيه كل القوى وجرف الحياة السياسية تماماً. الأنكى من ذلك هو التردي في مستوى هؤلاء الضباط على كل المستويات الثقافية والتعليمية والفكرية، فمن الإجحاف بمكان أن نقارن على سبيل المثال، بين عبد الناصر، أياً كان موقفنا منه، أو رأينا فيه واختلافنا معه، بحضوره وذكائه وقدرته على التقييم والتحليل الاستراتيجي وشخصيته القيادية الآمرة وثقافته المعقولة، لكن المتطورة دائماً، بالسيسي الذي يفتقر لكل هذه الصفات، بل يتمتع بجهلٍ وبلادةٍ يباهي بهما ويُحسد عليهما، الشاهد أن ليس فيمن يصطفيهم النظام الآن من لديه تصور استراتيجي أو تكوين فكري أو نظري أو ينطلق من رؤيةٍ اجتماعيةٍ، كالتي توفرت للضباط الذين كونوا مجلس قيادة يوليو (أو بعضهم على الأقل) بل نراهم قد استقوا مفاهيمهم وأفكارهم وانحيازاتهم من التيارات الدارجة في المجتمع طيلة الأربعة عقودٍ الماضية، دون أي محاولةٍ للغربلة أو النقد الواعي عبر القراءة والتمحيص، أي أنهم نتاج حالة الانحطاط والتجريف الفكريين التي سيدها هذا النظام نفسه وتبنيه، بل دعمه، الصريحين لشتى أطياف الفكر الرجعي.
في المحصلة إذن، فالأزمة الاقتصادية التي يكتوي الناس بنارها الآن، ليست ظاهرة ً منفردة، بل هي نتاج وحصاد الاستبداد السياسي بمعناه الأوسع والأشمل، ويكفي هنا للتدليل أن حدة هذه الأزمة وسرعة تطورها يعودان في الأساس لجهل السيسي وقراراته المنفردة التي تنبع من ذهنيته المعطوبة ومركبات النقص والتصورات العجيبة، يساعده على ذلك ما يتيحه هذا النظام للطاغية رأس السلطة من قدراتٍ وصلاحياتٍ غير محدودة. لا يعني ذلك أن المجتمع المصري قد أجدب من العلماء والخبراء ومن لديهم تصورات، هي في نهاية المطاف، أفضل بمراحل شاسعة من تفانين وتجليات السيسي الاقتصادية، إلا أن هؤلاء لم ولن يُسمح لهم بالاقتراب، ناهيك عن الدخول إلى «حرم» النظام وقلبه الصلب الذي يكاد يقتصر على الضباط و»الأذرع اليمنى» من أهل الثقة. لقد أدى ذلك الاستبداد والسياسة الاقتصادية الرديئة لوصولنا إلى ما نحن عليه الآن من أزمة طاحنة جعلت اقتصاد البلد مرتهنا بالخارج، ورأس المال الأجنبي تماماً وموسم بيع كل شيء بأبخس الأثمان. في هذا السياق، جاءت حرب غزة لتؤكد ما نعلمه من إفلاسٍ على كل الأصعدة: في السياسة والاستراتيجية العليا (المفترضة) للدولة كما في الاقتصاد.
لئن كانت الصورة التي رسمتُ قاتمةً فلن أسعى للتخفيف من وطأتها، فليس الوقت وقت طمأنة، بل محاولة لمواجهة الواقع بهدف تخطي ذلك الاستعصاء، الذي يتمثل باختصار في نظامٍ بهذا التغول والبطش، مقابل معارضة سياسية ضعيفة للغاية. وأعود للتأكيد أنه لا محيص من مواجهة هذا الواقع، على قبحه، إن كنا نأمل في تغييره. من هنا تبرز إشكالية خاصة في رأيي: أولئك الذين يراهنون على وجود جناح أو اتجاه أو تيار «وطني» داخل النظام يعارض سياسات التبعية الاقتصادية والقمع والتجريف، ستجدهم، يسوقون مبرراتهم أو شواهدهم بتصريحٍ هنا أو خبرٍ هناك، فيؤكدون أن هذا الجناح حقيقي، موجودٌ ورابض ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة ربما، وتغيير وتعديل المسار لتستقيم الأمور. المشكلة أننا لا نملك إلا أن نسأل: تُرى، ما هو تعريف «اللحظة المناسبة» ومتى تأتي، خاصةً في ظل هذا الانهيار والغلاء غير المسبوقين. ثم حين تأتي الأحداث بعكس ما يشتهون أو يفضح صاحب التصريح «الوطني» نفسه بتصريحٍ «غير وطني» أو مضاد لتصوراتهم بما يثبت أنه لا ينتمي «للجناح» أو لا سمح الله، أن ذلك الجناح المفترض أو المتوهم غير موجود من الأساس فسيؤكدون أن الجناح بالتأكيد موجود، لكنهم أساءوا تقييم الشخص أو الحدث فقط لا غير.
الحقيقة أن هؤلاء الناس، المخلصون المحبون لوطنهم دون شك، لا يختلفون كثيراً (ولا قليلاً للأمانة) عن أولئك الذين ينتظرون الإصلاح من النظام، فكلاهما يعبران عن بؤس الوضع القائم مع ما يبدو من استحالة مقدرتهم على التغيير لضآلة عددهم ونفوذهم وأثرهم، إزاء تغول ووحشية النظام، وضعف وهزال القوى السياسية المنظمة؛ هم مشفقون على بلدهم وشعبهم وأمتهم بحقوقها وآمالهم وأحلامهم من الضياع، مشفقون ورافضون لحالة الهزيمة العميقة لمشروعهم العدالي الحداثي، لا يستطيعون تصور أن الماضي بوعوده لم يتمخض إلا عن هذه الهزيمة، وذلك الفراغ وهذا الفقر والتصحر، لذا فهم يؤكدون لأنفسهم: لا يمكن أن يكون هذا النظام خاوياً وبليداً إلى هذا الحد! لا بد أن هناك أحداً أو جناحاً وطنياً، لا بد من رجلٍ رشيد، لكن الحقيقة أن دليلاً على ذلك لم يقم. يذكرونني بأولئك المعارضين للنظام الذين عايشوا التصعيد لحرب 1967، الذين كانوا يقولون لأنفسهم إنهم رغم خلافهم مع النظام وربما حبسه لكثيرٍ منهم، لا بد أن النظام، رغم كل شيء قد أعد العدة للحرب، إذ لا يُعقل أن يكون عبدالناصر ماضٍ في تحديه وتصعيده، الذي وصل حد السخرية من أنتوني إيدن، الذي أكد أنه ليس «خرع» مثله وإقدامه على إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية وأحمد سعيد يجأر في صوت العرب، لا يعقل أن يكون كل ذلك منطوياً ومبنياً على ذلك الفراغ، الذي لم يحتج أكثر من ساعات لتسفر عنه.
رغم صعوبة الإقرار بذلك وتخيله، فلم تزل تلك الأيام، على كارثيتها، أفضل، حيث كان النظام لم يزل يتمتع بمادةٍ ما، في صورة عبدالناصر وبعض الرجال الأقوياء الأذكى والأكفأ، أما الآن، ففراغ النظام من الرؤية والموهبة شامل.
ستتواتر الأزمات والكوارث، تزيد من عُري النظام العاري بالفعل، وتناطح آفاقاً جديدة من العبثية، مثبتةً أن انتظار «جناحٍ وطني» أو عاقل في الدائرة الحاكمة بدوره ضربٌ من العبث. وحده التصالح مع واقع إفلاس النظام التام يصلح بدايةً لحل الأزمة، التي لا بد أن تمر عبر اقتلاعه تماماً من جذوره والبداية من جديد.
كاتب مصري