يمثل الإنسان علامة بارزة في عملية تشكل الحياة، باعتبارها الفضاء الذي سوف يحضنه، ويشق فيه من خلال حركته مسار التاريخ، فالإنسان غير معني تماما بما ينتج صورته أمام ذاته وأمام التاريخ، لأنّه وجد لكي يصنع هذه الصورة في تتالي وديمومة الفعل الإنساني، في إنجاز الوعي بالذات والعالم والتاريخ، ولهذا كان القرآن فاصلا في تأكيد الصورة الكونية للإنسان، باعتبار طبيعته الإنسانية المكرّمة والمفضّلة، كون أبعادها تشكلت داخل العلم بالأسماء: «وعلّم آدم الأسماء كلها»، أي وضع أمامه العالم بمفرداته المتعدّدة والمختلفة ليشكل نسيج اللغة التي يُعتبر بها الكائن الأرقى، في تجاوز ما يعترض مساره التاريخي، ولهذا ما يلبث أن ينسى هذا البعد في واقعه، حتى يتذكره ويعود إليه كأصل عميق في الوجودية الإنسانية، عندما تجد وضعها أمام محك الإنقاذ العام للحياة، مما يهدّد سيرورتها على الأرض.
الوجودية العاقلة/ الوباء والمعرفة البدئية
وضع فيروس كوفيد 19، العالم أمام حقيقة ذاته، لا من حيث أنظمة العلاقات التي تسوده، ولكن من حيث ردّة الفعل أمام خطر داهم يستهدف الإنسان، فالحياة دوما تتحدّى الوجود الإنساني، بإنتاج أنواع من الحياة المضادّة للطبيعة العادية التي يسلكها الإنسان، وفي ذلك التحدّي يتمثل سلوك الإنسان الكوني الذي تحصّن بالمعرفة البدئية، وأنتج جداول العقل المعقّدة منذ خُلق وإلى لحظته الرّاهنة، مفكرّا في النّوع الإنساني برمّته،
وقد أجاب عالم البيولوجيا الجزائري يحيى شبلون على سؤال يتعلق بأبحاثه قائلا: «أعمالنا في مجال تطوير لقاح الإيدز متواصلة، في مختبري غرونوبل ولويزيانا في الولايات المتحدة»، فهو الجزائري المتصدّر معهدا للأبحاث في فرنسا ومتعاون مع مركز في أمريكا، «من أجل التحضير بشكل أفضل لتجارب سريرية على البشر».
ليس العقل في حاجة إلى إثبات الإحساس التآزري بين البشر، حين تتعرّض الهوية الوجودية المعرِّفة للجينوم الوجودي للإنسان للخطر، لأنّ المساس بجينات الحركة في التاريخ، التي يسجّلها الإنسان خارج مجال القومية والدولة والجغرافيا، إنّما هو عرقلة للمسيرة التاريخية، والانتصار في جبهات الحياة الدالة على الإنسان، باعتبار هويته الأولى المكرّسة بالتكريم والتفضيل، انطلاقا من قدرته على التعلّم والتكيّف، حسب الأوضاع الحياتية، التي تتكرّر وتتجدّد، لاختبار مدى فعالية اللغة في إنجاز اللحظة التاريخية الإنسانية المنتصرة.
الفعل الكوروني شكّل هوية هجومية مستجدّة، فاجأت عدم جاهزية الإمكان الإنساني للمواجهة، فارتبك الكائن الكوني ابتداء، وأبدى نوعا من الحماقة التي تستسهل الأمور إغفالا لتطوّراتها التي يمكن أن تنفلت من السيطرة
لا يشعر يحيى شبلون بجزائريته، وهو ينتقل كونيا لكي يكشف جوهر علاقته بالحياة. يختبر الأمصال لإنتاج ما يحمي الحياة، ضدّ ما يسطّره القدر ليواجهه الإنسان، القدر الذي يجعل المصير الإنساني واحدا في قراءته لاختبارات الحياة، ومن ثمّة تصميم عناصر المواجهة والدفاع، للاستمرار على الأرض، يحيى شبلون فقط يعيد إنتاج الهوية الكونية لإنسان تأثّث وعيه بـ»الأسماء» البدئية التي جهّز بها الله الإنسان ليواكب وجوديته العاقلة على وجه الأرض.
كونية الإنسان/ الوباء وكسور الوجودية
بقدر ما تنجز الوبائية الكونية ضررها بالنّسيج الإنساني، بقدر ما تكرّس كونية الإنسان، في تفاعله مع المعطيات التي تشكل الخريطة العامّة للخطر، لأنّ وعي الإنسان لم يكن يوما ما مشدودا إلى هوية ثابتة، وهو يفكر في المصير المشترك للإنسانية، لأنّ العقل العارف الأول المرتبط بـ»الأسماء» تكوّن في ظل المعطى الإنساني كخلق مباشر من قبل الإرادة الإلهية، ولهذا شكل ابن رشد وابن سينا والرّازي علامة فارقة في التاريخ الغربي، على أساس أنّ العقل مرن في تقبّل هويته الإنسانية، التي تفكر خارج أطر الهوية الثابتة، حينما يتعلق الأمر بالمصير الإنساني، ولهذا ظل شبح الجندي البسيط الجزائري المسلم، الذي دفع حياته ثمنا للمبدأ، وأنقذ الفيلسوف المفكر غارودي من الموت، مستمرّا في ذاكرة ووعي غارودي، إلى أن استسلم للنّموذج الفاعل الكوني للمسلم الذي تمثّل السلوك الإنساني الأمثل والواقعي في الوقت نفسه.
الفعل الكوروني شكّل هوية هجومية مستجدّة، فاجأت عدم جاهزية الإمكان الإنساني للمواجهة، فارتبك الكائن الكوني ابتداء، وأبدى نوعا من الحماقة التي تستسهل الأمور إغفالا لتطوّراتها التي يمكن أن تنفلت من السيطرة، وهنا يمكن أن نسطّر مخططا ينبع من القيم المادية التي تتحكم في مسار الإنسان الاستهلاكي، أو ما يسمّيه ستيفان هيسيل، «النّزعة الاستهلاكية المنفلتة»، التي لا تتحدّد سوى بالمنفعة الحاصلة في مناخ الليبرالية المتوحّشة، التي تتجاوز الهوية الكونية إلى هوية منغلقة بسبب الجشع الإنساني في تحقيق أكبر قدر من الرّبح، وهو ما يشكل خصوصية منكفئة براغماتية، مقابل خصوصية منفتحة عامّة، تلك التي تتعلق بالدمغة الهوياتية الثابتة، التي لا يمكن تجاوزها، لأنّها في جوهرها تساهم في التنوع «الكوني» وتكبح جماح «التغوّل العولمي» الكابس على الدفق الوجداني العالمي، في إنتاج ما يساهم في ترميم كسور الوجودية المعيقة لتشرّب الحياة، كتواصل تام بين عناصر الطبيعة وخالقها، وما يحقّق الانسجام فيها.
الوضع الوبائي/الجماليات المفقودة والمنسي الأخلاقي
يؤكّد عالم المناعة الجزائري كمال صنهاجي على هذه الخصوصية، الحافظة للتواصل الإنساني الكوني، حين ذكر الطريقتين المتبعتين في الوقاية من الوباء، ومنها المناعة الجماعية، وإجراءات الحجر الصحّي، وفصّل في الطريقة الوسطى بينهما، التي تأخذ بعين الاعتبار «طبيعة المجتمع الجزائري بعين الاعتبار، سواء تعلق الأمر بالتقاليد أو السلوكيات خلال شهر رمضان، وأيضا ظروف السكن»، وهذه لا تؤثر في كونية الإنسان في مواجهة خطر الوباء، بقدر ما تؤكد التوافق الإنساني في تأكيد الخصوصية المنفتحة العامة، التي تعتبر مصدر إثراء لوعي الآخر المستلهِم.
يكشف الوضع الوبائي على جمالية مفقودة في معيار حكم الإنسان على الحياة والكونية المصاحبة لها، فالوعي يتنبّه طواعية إلى المنسي الأخلاقي في سعي الإنسان لتحقيق ذاته، وإثبات فعالية مجتمعه وخصوصياته، في مسار عالم ما انفك يكرّس النزعة الاقتصادية الماحقة لكل ما هو جمالي وأخلاقي، فالأطباء الفرنسيون يؤكدون على مساندة الأطباء غير الفرنسيين، الذين لا يماثلونهم في الأجر، حيث يتقاضون أجورا أدنى منهم، والمساندة تثبت عودة الوعي الأخلاقي بالتفاوت الطبقي المبني على الإثنية، الذي يخلّ بالكونية الإنسانية البنية، على التواصل البدئي في معيارية تعلّم الأسماء، كرمزية قوية في المعرفة بقوانين التلاقي الإنساني، الذي تؤكده اللغة في اختلافها، والذي يؤكد التنوّع الثقافي في إثرائه الجمالي للكونية.
تمثل الوبائية الفصل المرعب الذي يمثل أحد وجهي العالم، إدغار موران يرى أنّ «العالم مبهج ومرعب. الجمال يساعدنا على الابتهاج ويتيح لنا النظر في الرعب». يستمد الإنسان كونيته من هذا الإحساس الجمالي بالعالم، والمستند أيضا في أصوله إلى كينونة الإنسان الوحيدة القادرة على التعلم، أي افتكاك جمالية وظيفية وفنّية من الوجود- في- العالم بتعبير هايدغر، إنتاج الجمال يتيح للإنسان إدراك الزّمــــن الوجودي المكثف بالرّوح والنافر من النزعة الاستهلاكية المدمّرة للتواصـــــل الإنساني، ضمن الخصوصيات الذاتية والعموميات المشتركة التي تنضح بالنّفس الإنساني المتوهّج داخل أقبية الكون، ولهذا يركّز إدغار موران على البعد الجمالي في ممارسة الحياة، «أن نحيا حقيقة، معناه أن نحيا شعريا»، لأنّ الشعر يمتلك القدرة على استنطاق المتخيّل البعيد في المناطق المجهولة والمكثفة بالمعنى، بعكس العقل المحدود في زوايا ما يحدث وتفسيره أو استثماره في تحقيق المنفعة.
عود على بدء
حطّمت كورونا أسطورة الإنسان المتعالي، والكامن فقط في البعد الثابت للهوية، لقد أحيت رغم جانبها المرعب موات الهوية المتحركة، التي تنتمي إليها «الكونية الإنسانية»، المتعاطية مع البعد العفوي في الإقبال على تشاركية عابرة للحدود وللخصوصيات، ومنتجة لبؤرة «العفو» بالمنظور الإسلامي، تلك المساحة التي يتأسّس فيها الوعي الإنساني بإنتاج ضروب الأدوات التي تتيح له الفهم داخل المنظورات المتعدّدة للثقافات، والمستمرّة بمفهوم «العيش معا» لأجل خلق اللحظة الكونية، غير الآبهة بما يسمّيه موران «البربرية الباردة والمتجمّدة»، أو ما يطلق عليه تيودور أدورنو وماكس هوركايمر «العقل الأداتي»، أي تلك «العقلانية المدمّرة القائمة على المال».
٭ كاتب جزائري
مقام ممتاز /دام نبض قلمك المميز /ودمت بخير