كتابات شتى تتناول الوطنية السورية، بوصفها حالة مجردة، منزوعة السياق عن ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي، وتقترح لتطويرها حلولا، مثل الحيز العام والتضامن المدني وتثقيف البشر، عبر مؤسسات فوقية، ونظرية التواصل بين فئات المجتمع والدولة المحايدة، والاقتراحات تلك، وإن كنت فعالة في سياقات غربية سبقتها تحولات بارزة كالثورة الصناعية وصعود البورجوازية، والإصلاح الديني وتطوير العقد الاجتماعي وانهيار الامبراطوريات، فهي عندنا، أقرب إلى وضع العربة قبل الحصان.
ففي ظل مجتمع متشكل جماعاتيا، كطوائف وعشائر وعصبيات، سيكون الحيز العام والتضامن المدني والتواصل المجتمعي والدولة المحايدة، في خدمة هذا التشكل. بمعنى أن المساحات والهوامش المقترحة لتفاعل السوريين، قد تكرس تكويناتهم الصلبة، بدل أن تكسرها، طالما أن هذا لا يتوازى مع تشكل حوامل اقتصادية ومعرفية واجتماعية، تجعل للتفاعل، مردودا، يصب في الوطنية المطلوبة.
البدء من الانقسام لبناء وطنية يعني مراعاة الأسباب التاريخية والحالية، لما حصل من استبداد وحرب وفشل للثورة، ومعالجتها، بحيث لا تتكرر
والأرجح، أن جذر، هذه الاقتراحات، هو الانطلاق من الوطنية إلى الانقسام وليس من الانقسام إلى الوطنية، أي أن الأولى تعالج الثاني، وليس الثاني هدف الأولى، وعلتها. الفرق، شديد الأهمية، لأن البدء من الانقسام لبناء وطنية يعني مراعاة الأسباب التاريخية والحالية، لما حصل من استبداد وحرب وفشل للثورة، ومعالجتها، بحيث لا تتكرر، في ما البدء من الوطنية، يعني إعادة إنتاج ما سبق، من تجريد وفصام، وتأبيد الحرب الأهلية، على وقع أفكار براقة تنتمي إلى سياقات لا نملك أرضية لها. والانطلاق من الانقسام، يحتاج لبحث علاقة الجماعات في سوريا، بالوطنية، وإمكانية اقترابها وابتعادها عنها، إذ إن الأكثرية السنّية، طالما انحازت إلى مشاريع وحدوية تتعدى الكيان، وتتجاوزه، سواء بالبعد الإسلامي أو القومي. في ما الأقليات باستثناء الأكراد، لجأت إلى الانقلابات وتلبّست وعي الأكثرية عن البلد، بدل، أن تعمد كل منها لتطوير وعي كياني يجذب جماعات أخرى، ما يشكل نواة لوطنية فعلية، تنطلق مما هو موضوعي وليس أيديولوجي. بالنتيجة، تخلت الأكثرية عن بناء وطنية سورية لصالح الوحدات المزعومة، في ما جاء تخلي الأقليات عبر الانقلابات، والاستيلاء على السلطة، مع تبني تكتيكي سياسي لأفكار الأكثرية. وعليه، فشل بناء الوطنية السورية، لا يرتبط فقط، بفشل دولة ما بعد الانتداب والانقلابات والوحدات والاستبداد، بل بعلاقة كل ذلك، بطبيعة علاقة الجماعات وتفكيرها بالوطنية، إذ إنها لم تطور وعياً يطابق نظرتها للبلد، بما يفتح المجال للتفاوض حول وطنية سورية، متعددة العناصر، تضمن منع حرب الجميع ضد الجميع، عبر إشراك الجميع في تصورهم للبلد.
الانتباه لهذا الفوات في سياق التاريخ السوري قد يكون مفيداً في بحث مسألة الوطنية، التي تحتاج إلى تدرج، أي الأخذ بالاعتبار، قوة الجماعات وقدرتها على التأثير، من دون اعتبار ذلك قدراً، فوعي الجماعات المتعدد للوطنية، يمكن تطويره بحيث يلحظ الفرديات والمصالح والحقوق العامة، وتنكسر مع الوقت، النواة الصلبة داخل كل جماعة، وتغدو أكثر قبولاً للتعامل مع أفكار الحيز العام والتواصل والتضامن المدني، من دون مخاوف وهواجس. لابد إذن، من وطنية تطابق تشكل المجتمع، لا تقفز فوقه لتتخيله وفق قناعات أيديولوجية، وطنية تكسر الجماعات ليس بإنكارها، وإنما بجرها لتشكيل وعي لسوريا، يتعدد ويتناقض، ويتحول لمختبر، للتوصل لتسوية تضع تصورا للبلاد، تراعي الجماعات فيها وتلحظ حقوق الأفراد. أما استخدام مفاهيم تجريدية حول الوطنية، وإسقاط أخرى من دون حوامل للتطبيق، هو أقرب لترك الجماعات تتصارع وتتحارب، ذاك أن الوصول إلى الوطنية المزعومة تلك، أقرب للاستحالة، والعنف هو البديل.
كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»
مقال مثير للاهتمام وموضوع جدير بالمناقشة على أعلى المستويات لإيجاد السبل الانجع للتطبيق في الواقع.