الياس خوريجاءت استقالة السيد نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة، لتعلن ان الأزمة السياسية المفتوحة في لبنان، بعد انفجار الثورة السورية، وصلت الى ذروتها. فبعد هستيريا القانون الانتخابي الذي أطلقت عليه تسمية ‘الارثوذكسي’، وبعد حماقة الاعتداء على الشيخين في منطقة الخندق الغميق وحـــلق اللحى، وبعد استشراء عظامية الجنرال عون، وبعد معاندة الطبقة السياسية برمتها لاقرار سلسلة الرواتب والرتب التي اخرجت الناس الى الشارع في احدى اهم لحظات الصحو الاجتماعي-الطبقي في لبنان، لم تعد الحكومة الميقاتية ممكنة. فاقتنص رئيسها الفرصة كي ينسحب.لكن الاستقالة جاءت ايضاً وسط لحظة اقليمية كبرى، جسدتها زيارة الرئيس الامريكي للمنطقة. فاوباما لم يأتِ الى اسرائيل وفلسطين والأردن من اجل دفع عملية التسوية الفلسطينية الاسرائيلية الى الأمام، مثلما ظن بعض السُذج. الرئيس الأمريكي يعلم ان التسوية ماتت، وان حكومة المستوطنين في اسرائيل ليست في هذا الوارد. اوباما جاء الى المنطــــقة من أجل هدف آخر، هو جمع الأوراق الأقليمية التي في حوزته، كي يتابع سياسة الهيمنة على المنطقة، وهي سياسة لها اليوم باب اساسي هو النووي الايراني.نجح اوباما في تهدئة الرؤوس الحامية في اسرائيل، وتأجيل المغامرة العسكرية ضد ايران، في سياق حرب معقدة تخوضها الولايات المتحدة مع النفوذ الايراني المتعاظم. كما ارسى المصالحة التركية- الاسرائيلية، في اطار هجومه الكبير على حزب الله وتغيير اتجاه الخطاب الامريكي في سورية، من لهجة وزير خارجيته المهادنة حول الوضع السوري، الى لهجة عنيفة ضد نظام بشّار الأسد.هذا التغير جعل من المساكنة بين من اطلق على نفسه اسم الوسطيين: ميقاتي، سليمان، جنبلاط، وبين حزب الله مستحيلة. شرط هذه المساكنة كان المحافظة على حد ادنى من الاستقرار تريده العواصم الاقليمية والدولية المعنية بالشأن اللبناني. اما بعد التصعيد الامريكي، فإن على هذا الاستقرار، اذا اريد له ان يستمر، ان يعبّر عن موازين جديدة، لم تعد تعطي الثنائي الشيعي اليد العليا في السياسة اللبنانية.نحن اذا امام المعادلة اللبنانية التقليدية المستمرة منذ تأسيس البنية الطائفية التي استولت على الدولة اللبنانية منذ البداية. توتر دائم بين الطوائف لا يتوازن الا عبر معادلة خارجية. وقد استمرت هذه البنية حتى في اكثر ايام الحرب الأهلية صعوبة، وحين قام طرف خارجي بالتعاون مع طرف محلي باختراقها، ، كما حصل خلال الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، فإن ثمن هذه الحماقة الذي دفعته الطائفة المارونية كان كبيراً.هل نحن امام دائرة مقفلة حكمت على لبنان بالبقاء وطنا ناقصاً، وشعباً مؤجلا تستوطنه الطوائف؟الحقيقة ان لبنان عاش تجربتين للخروج من هذه الدائرة:التجربة الأولى جسدها اللواء فؤاد شهاب خلال رئاسته التي جاءت بعد التسوية الأقليمية- الدولية في نهاية الحرب الأهلية القصيرة عام 1958. لكن النوايا الاصلاحية الشهابية، اصطدمت بقناعات الرئيس ومجموعة المثقفين المحيطين به من تلامذة ميشال شيحا وجماعة الندوة اللبنانية، بالنظام التوافقي الطائفي، الذي يضمن للموارنة اليد العليا في الدولة. اصلاحية شهاب كانت في تناقض مع طائفية قناعاته التوافقية. وحين انقلبت موازين القوى في المنطقة بعد هزيمة الخامس من حزيران- يونيو 1967، انهار الهيكل الشهابي على يد الطائفة المهيمنة، وانتصر حلف الزعامات المارونية التقليدية على شهاب في عقر داره في كسروان في انتخابات 1968 النيابية. وكان هذا الانقلاب بداية العد العكسي لاندلاع الحرب الأهلية الطويلة عام 1975.التجربة الثانية هي ابنة لحظتين: اللحظة الأولى هي لحظة الاندحار العسكري الاسرائيلي عن جنوب لبنان في 25 ايار- مايو عام 2000، بعد مقاومة بطولية. فكان تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة هو اول تحرير لأرض عربية يتم بلا قيد ولا شرط، والفضل فيه يعود الى المقاومات المتعددة، من المقاومة الفلسطينية التي تابعت تصديها للغزاة بعد الانسحاب من بيروت، الى المقاومة الوطنية التي كسرت اليأس والاستسلام، وصولا الى المقاومة الاسلامية التي توجت نضالها الطويل بالنصر. واللحظة الثانية هي لحظة انتفاضة الاستقلال في 14 آذار – مارس 2005، حين انتفضت الأكثرية الشعبية اللبنانية ضد هيمنة النظام السوري المتمادية على لبنان، مجبرة جيش الأسد على الانسحاب، ومحدثة اول اختراق في الجدار الأصم الذي بناه الاستبداد الأسدي بالحديد والنار.لكن بدل جمع اللحظتين باعتبارهما انجازاً وطنياً واحداً، والتأسيس انطلاقا منهما لبناء الدولة المتحررة من الوصايات الأجنبية، نجحت البنى الطائفية في استبدال الجمع بالطرح. وهذا ناجم عن بنية الطوائف السياسية التي لا تقوم الا عبر ارتباطها بالخارج الاقليمي او الدولي من جهة، وتكوينها الداخلي الذي يرى في المواطنين رعايا لطوائفهم، فيخترع الأوهام التي تقيم تمييزا عنصريا بين اللبنانيين بحسب انتمائهم الطائفي، من جهة ثانية.تمت قراءة التحريرين بوصفهما انجازا قامت به احدى الطوائف ضد طائفة أخرى، بدلا من ان تتم قراءتهما بوصفهما انجازين وطنيين لبنانيين وعربيين.هكذا ضاعت الفرصة الأكبر لبناء الوطن. التحرير من الاحتلال الاسرائيلي هو حدث تاريخي بكل المعايير، والنجاح في الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي كان اشبه بالحلم. لكن زعماء الطوائف، فضلوا تبعياتهم للخارج الاقليمي، وبدل ان يكون التحرير من الاحتلال والخلاص من نظام الوصاية، باباً لاقفال ملف الحرب الأهلية والشروع في بناء الدولة المدنية، صارا ابواباً لحرب جديدة، باردة حيناً ومشتعلة حيناً آخر، بهدف الهيمنة على الدولة، لكنها تدور هذه المرة بين الشيعة والسنة كوكيلين لحليفين اقليميين ودوليين!عبث تاريخي قد نقول، لكن لا أحد يستطيع الإدعاء بأن هذا العبث كان قدرا.ً انه خيار واعٍ لزعماء الطوائف برفض فكرة الوطن، ومتابعة مسلسل الرعب الذي بدأ في حرب 1860 الوحشية، وقاد الى تأسيس المتصرفية على قاعدة عرجاء اسمها التوازنات الطائفية.اليوم يدخل الوطن المؤجّل مرحلة جديدة من التأجيل، واذا كان القرار الدولي لا يزال يشكل مانعاً امام انفلات الطوائف الهمجية من عقالها، فإن الترجرج الاقليمي في انتظار الخلاص السوري من الاستبداد الأسدي، سوف ينعكس ترجرجاً سياسياً وامنياً طويلاً في لبنان، وسوف يسجّل التاريخ ان طوائف لبنان تفوقت على الجراد ومجاعة الحرب العالمية الأولى، في دفع اللبنانيين الى الهجرة من وطنهم. qlaqpt