فتنتنا رام الله، كما فتنتنا دائماً كل قرية ومدينة افتقدناها، لكن من أتيحتْ له فرصة أن يرى هذه المدينة الصيفية الجميلة، قبل حرب حزيران، رأى فيها وجهة للسياحة الداخلية والخارجية، ومساحة رحبة للبهجة، المدينة التي ما لبثت أن تحوّلت إلى مدينة مقاوِمَة، يحسب لها الصهاينة ألف حساب بعد احتلالها.
في عام 1987 حين زرتها بتصريح قدّمه أحد الأقارب، كانت رام الله ومدن الضفة الغربية وقراها، وقطاع غزة، تتفنّن في ابتكار وسائل المقاومة التي حوَّلت جنود الصهاينة إلى ألعاب. بل كان في النضال شيء من خفّة الدّم أيضاً، لفرط ثقة الفلسطيني بنفسه، كأن يرجم الأولاد خيمة للجنود، فيلاحقهم الجنود، في وقت يرفع فريق آخر من الأولاد العلم الفلسطيني فوق الخيمة، ثم يمزقون العلم الصهيوني.
حين زرتها في ذلك الوقت، وجدتُ أن أفضل ما يمكن أن يُكتب عنها هو ذلك الذي يعّبر عن صعودها المُقاوِم، هي وأخواتها من قرى فلسطين ومدنها. تلك الصورة تصاعدت إلى أن أصبحت الجدارية الكبرى للانتفاضة الفلسطينية الأولى.
من رأوا رام الله بعد أوسلو رأوها بعينَي الحلم المتواضع الجريح، دون أن يستطيع أيّ منهم إخفاء غصّة الحلم الفلسطيني الأكبر الذي ضاق فِراشُه بحيث كان على زعامات أوسلو أن تبتر قدميه وذراعيه، ليكون بحجم الفراش المتاح.
في تلك الفترة ترعرع فنُّ السيرة، وكأن جماليات الماضي والكاتب يستعيدها تخفّف من قباحة الحاضر الذي وصلت إليه القضية، وكأن استدعاء نصر البراءة المتحقّق في حياة ما قبل الاحتلال سيخفي هزيمة الكهولة التي وجدتْ نفسها أمام ركام أحلامها المُكسَّرة.
كان لا بد من السيرة إذن، كي لا نقول إننا هُزِمْنا تماماً! وجاء مشروع مجلة «الكرمل» حول ذاكرة المكان، صورة لا تخلو من التفاؤل، وإن أضمر في داخله اعترافاً بما وصل إليه الحال: هذا ما حننتم إليه، فليكتب كلّ واحد شهادته عما عاد إليه، أما ما سيعود إليه مَن لم يعد إلى مكانه الأول، فليؤجِّل حنينه، ولذا استثنتْ المجلة مَن لم يعودوا إلى ما ظلّ من مساقط رأس أو قلب أو روح في حدود ما قبل حزيران، إذ لم يكونوا قد وصلوا إلى مرتبة شرف الشّهادة، فالعودة ضمرت فأصبحت إلى ما عدنا إليه، وليس إلى ما لم نعد إليه بعد.
أجمل ما حدث أن الشهادات التي طلبتها «الكرمل» فاضت عن حدود حجمها وعدد الكلمات المطلوبة، فأصبحت كتباً لدى البعض، لأن المسألة في جوهرها كانت أكبر من أن تُحبس في صفحات، وكأن الحنين وبهجة العودة أو جراحها، لا يمكن أن تضمّها أو تضمِّدها صفحات مجلة، مهما كانت رزينة؛ فالحنين يغدو متوحِّشاً كلما طالت فترات سجنه.
وتغيّرت رام الله بضمور أحلام قيادات أوسلو، وقد أصبح الواقع أكثر صلادة وعماء، بحيث تعذّر على الحلم أن يجد طريقه القديم إلى حيفا وعكا والناصرة ويافا.
من قطع الفسيفساء التي حملها «العائدون» تشكلت رام الله، ولذا كان من الطبيعي أن تتحوّل إلى متاهة لأهلها الذين لم يعدوا قادرين على استعادة صورة واضحةً لها، فلا هي رام الله، ولا هي بيروت، أو تونس، أو دمشق، أو عمّان، وإن بدت الأقرب من الأخيرة في النهاية.
ومع مرور الوقت، بدأت رام الله تتحوّل إلى حالة تراجيدية: عليها أن تمثّل دور العاصمة-القدس، وهي أقلّ منها، وعليها أن تمثّل فكرة العودة، وهي أقلّ منها، وعليها أن تلعب دور الحلم وهي ليست أكثر من جزء منه، وفيها قيادة ولكنها أقلّ من أن تكون «القيادة»، وفيها المقاتل الذي جاءها حالماً بحفْر خندق لمواصلة معركة التحرير، فوجد نفسه متقاعداً في أفضل الأحوال، أو رجل أمن يلعب الدّور الذي لم يُعدّ النّفس له، أو باحثاً عن مكان بين أصحاب البدلات الأنيقة، حين لم يعد لبدلة الفدائي مكان في مشهد الارتباك الذي لا علاقة له بزمن الاشتباك. ووجد كثير من الناس أنفسهم أسرى الوظيفة أو البنوك، أو حياة غير صالحة لأن تكون مستقبلاً، ووجد كثير من المثقفين أنفسهم وسط معادلة جديدة: هل الواحد منهم محسوب على هذا التنظيم أم ذاك؛ وبالتالي ظهرت إلى الوجود هجرة داخلية من التنظيمات إلى التنظيم الأكبر في حالات كثيرة، إلّا أولئك الذي وجدوا ظهوراً قوية لهم في تنظيماتهم، أو ضمائرهم.
ذلك الصمت الذي عمّ كل شيء، لم يكن الصمت الذي يسبق هبوب العاصفة أبداً، فقد خبت العاصفة وانطفأت.
هكذا بدت الثقافة أقصر قامة من أحلامها، وبدا القادة أقلّ من أن يقودوا شعباً قدّم كل تلك التضحيات، وما زال مستعداً، بحيث أوصلوا الشاب الفلسطيني إلى أن يكتب وصيته قبل أن يقوم بعملية فدائية يعرف أنه لن يعود منها، طالباً ألّا ينعاه أي تنظيم أو يُرْفَع في جنازته علم أي تنظيم، لقد «كفّروا» الناس بهم، ولم يعد هناك أي تنظيم يمكن أن يملأ عين الجميع، إذا ما استثنينا منتسبيه، أو أولئك الذين يؤمنون بقوة التغيير من الداخل! حيث لم يتوقّف بعضهم عن إعلان الاحتجاج الصادق، وهم يتمسّكون ببيت الطاعة في الوقت نفسه.
تتأمل الباحثة الفلسطينية ندى محمود مصطفى، في أطروحتها «فنّ السيرة الذاتية في الأدب الفلسطيني، 1992، 2002» عشرين سيرة ذاتية صدرت في عشر سنوات، كتبها العائدون إلى رام الله وأخواتها، أو كتّاب فلسطينيون في الخارج، أو مَن لم يخرجوا من أرضهم عام النكبة، وهو رقم كبير إذا قارناه بما كُتِبَ من سِيَر في السنوات السابقة لأوسلو. وفي ظني أن أوسلو، الذي لم يوصل الحبيب إلى الحبيب كما اشتهى الحبيب، أيقظ في ذلك العائد الشريد الذي ظلّ خارج أوسلو حنين الخوف إلى ما يراه مهدداً بالفقدان، وليس مؤمَّلا بالاسترجاع.
وبعد:
في هذا الوضع الملتبس الذي عادت فيه الأرض ولم تعد، وتآكلت فيه القيادات، إلى أن أصبحت مرهونة لكل أشكال التنسيق الأمني، وفي وضع تمّ تفريغ المعنى بقيادة لا تنتمي لفكرة التحّرر بقدر ما تنتمي لكينونة الموظف الإداري المطيع، كان لا بدّ من الرواية لكي نرى حقيقة ما حدث بلا أي قناع، ولذا فإن صورة رام الله، وغيرها، اليوم سنجدها فيما يُكتب من روايات عنها منذ عام 2002 بصورة أوضح من أي فترة سبقت. وأظن أن هذا الموضوع يمكن أن يكون أطروحة أو بحثاً واسعاً يتأمل المسافة بين خطاب السيرة وخطاب الرواية، وخطاب الحنين وشحوب العودة الهزيلة.
مقالة في قمة الروعة، حين يتملك المبدع أدوات الإمتاع والإقناع، يفحم الآخر، وتمطر سماؤه بهاء، كالعادة هذا الروائي الكبير مازال يفاجئنا كل حين بأبعاد متجددة لكتابته… متعة النص في غير الأدب رهان صعب، لكن هذه المقالة… حلت المعادلة الصعبة… معادلة: أَقنِعْ وأمتع..