الوعي الجمعي والذاكرة الانتقائية: الشعر مؤرخاً والمتنبي أنموذجاً

عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم Emile Durkheim (1858-1917) عندما قام بوضع الأسس الأكاديمية لعلم الاجتماع، ألقى الضوء على عنصر «الوعي الجمعي» الذي عرّفه في كتابه «تقسيم العمل في المجتمع» (1893) بأنه مجموعة المعتقدات والأفكار والمواقف الأخلاقية المشتركة التي تعمل كقوة موحدة داخل المجتمع، ويتأتَى ذلك من خلال الفهم المشترك للأعراف الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، طريقة الاحتفال بالأعياد تختلف من أمة لأخرى، لكن، مع تحوُّل العالم مؤخرا لقرية صغيرة انتشرت بعض المفاهيم المشتركة، مثل الاحتفال بالهالوين، وفهم الميمات، وغيرها من الأمور التي صارت بمثابة «عقل جماعي».
وفي الوقت نفسه ذاك العقل له ذاكرة تشابه ذاكرة الإنسان؛ فكلّ مجتمع يختار لنفسه المواقف والأحداث الراغب في تذكُّرها، في حين يُسقط من أسوار الذاكرة تلك التي يعتقد أنها لا تشكِّل له أهمية. ومن هنا تتشكَّل الذاكرة الانتقائية، التي تعبر أيضا حدود الفرد وتتخطَّاها للدوائر الاجتماعية أو للمجتمع ككل. ومن خلال الوعي الجمعي والذاكرة الانتقائية للمجتمع تتشكَّل آراء وفلسفات الأمم، التي تصير في ما بعد بصمتها الفارقة بين الشعوب. وقديما، قام الشعراء بالتأريخ لأهم الأحداث، ومن خلال أشعارهم تكوَّنت القبائل؛ لالتقائها في فصيل فكري واحد يُشكَّل وعيها الجمعي. وكلما ازدادت أبيات الشعر روعة، علقت بالذاكرة، لدرجة قد تجبّ المفاهيم التي شكَّلتها الأشعار الأخرى، ولذلك تكوَّنت الذاكرة الانتقائية، التي تخطَّت أطرها حدود الفرد إلى القبيلة. والذاكرة الانتقائية الجمعية تجعل أبناء القبيلة أو الأمة الواحدة يجمعون على تذكُّر خبر دون الآخر؛ فوضع أحداث معيَّنة في إطار بارز يتطلب مهارة وقدرة على النفاذ لأفئدة العامة قبل عقولهم حتى يطبع في الذاكرة. وبالطبع، الأحداث تكتسب شهرة وأهمية عندما كانت تتناقلها الألسن، ولعل أبرز وسيلة إعلامية قديما ساعدت ليس فقط على انتشار الأخبار، بل حفظها من النسيان، كانت الشعر. وكلما كانت القصيدة جاذبة وقريبة من فؤاد المتلقِّي، خلَّدت كلمات الشاعر الأخبار الواردة في القصيدة.
ومن أهم الشعراء الذين برعوا في تدوين الأحداث والتأريخ لها كان الشاعر أبو الطيِّب المتنبي، الذي عاش وتنقَّل بين العديد من الدول المتنازعة الأهواء، وهي: الدولة العباسية والدولة الحمدانية والدولة الإخشيدية والدولة الأموية في الأندلس. وأبو الطيِّب المتنبي (915- 965 م) هو أحمد بن الحسين الجعفي الكنديّ الكوفيّ الملقَّب بـ»شاعر العرب» لتمكُّنه من اللغة العربية ومفرداتها بشكل فريد، وكذلك لإمساكه بتلابيب الشعر لدرجة جعلته من أبرز الشعراء الذين تبوؤا مكانة لم يستطع أن يعتليها أحد من الشعراء السابقين أو اللاحقين له في العصر الإسلامي، ويتم تصنيفه بأنه أعظم شاعر عربي على مرّ التاريخ. وكانت تُسبغ عليه أيضا ألقاب مثل «أعجوبة زمانه» و»نادرة عصره». فقد اكتملت موهبته الشعرية منذ الطفولة. وفي سن التسع سنوات، صارت قصائده تماري أشعار عظام الشعراء، لما يتمتع به من حدَّة في الذكاء ولاقطة فريدة واجتهاد ملحوظ. وبسبب فخامة أشعاره، استطاع أن يصير شاعرا للملوك والأمراء الذين يحملون صفات الملوك. ولإدراكه منزلته الفريدة، صاغ بيته المأثور: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم.

التاريخ والوعي سردية، والتأريخ والذاكرة يتطلبان حسا أدبيا يجعل الحكايات مشوِّقة؛ لتستقطب مراكز الوعي بالذاكرة، فقط لتلذذها بالأسلوب الذي قيلت فيه الحكاية.

واستطاع أبو الطيِّب المتنبي أن يتحوَّل لآلة إعلامية متنقِّلة بالمفهوم الحديث، وأشعاره التي كانت تمجِّد عظام الناس، كانت أيضا لديها القدرة على أن تسلبهم الرفعة عندما يغضبونه فيهجوهم. والغالبية العظمى من أشعاره تحوَّلت لأقوال مأثورة تتناقلها الأجيال عبر العصور المختلفة، دون أن تملّ منها أو تشعر بأنها كلمات عفا عليها الزمان. كان المتنبي يتميَّز بنرجسية شديدة، ظهرت بقوَّة في أشعاره التي كانت تمتدح ذاته، وبلغ به الأمر أنه عندما كان يكتب قصائد يمتدح فيها الملوك والأمراء، كان يخصص الجزء الأكبر من القصائد لمدح نفسه، ثم يأتي في ما بعد مدح الشخصية التي يقصدها. وبسبب تلقُّف العالم الإسلامي المترامي الأطراف لقصائده وحفظها وترديدها، كان مدح المتنبِّي لأي شخصية قادرا على أن يسجِّل اسمه في التاريخ على أنه شخصية عظيمة، في حين أن هجاءه لأحدهم له القدرة على أن يجعل منه حقيرا، أو قد تسلبه سلطانه. ويقال إن سبب تسميته بالمتنبِّي ادعاؤه النبوَّة، بسبب بيت شعر نظمه للتفاخر بذاته وموهبته الفذَة. لكن برَّأه أبو العلاء المعرِّي من التهمه بتأكيده أن سبب التسمية هو إشارته لأشعاره التي أكسبته «نبوَّة» وذاك المصطلح باللغة العربية الفصيحة يعني المكان المرتفع؛ ودون شك، خير عليم بقواعد اللغة العربية ودهاليزها هو المتنبِّي.
وقد تحوَّل سيف الدولة الحمداني لأبرز شخصيات الدولة الحمدانية بفضل مرافقة المتنبِّي له؛ فبالإضافة إلى جهود سيف الدولة الحمداني، لإعلاء كلمة دولته، خلَّدت أشعار المتنبِّي اسمه على مرّ العصور. وكلما ذكر اسم المتنبِّي، كان يلازمه اسم سيف الدولة الحمداني، وكأن المتنبِّي صدق عندما كان يجعل الجزء الأكبر من قصائده مادحا لذاته. أما هجاؤه اللاذع، فكان سلاحا مسلطا على كل من تسوِّل له نفسه أن يخالفه أو يجاهر بعدائه. ومن الجدير بالذكر، أنه بعد ما اختلف مع سيف الدولة الحمداني، ورحل إلى مصر، وصار في كنف كافور الإخشيدي أمير الدولة الإخشيدية، كتب فيه قصيدة مدح صارت محل فخره في جميع أصقاع الدولة الإسلامية. لكنه عندما ضنَّ على المتنبِّي بالعطايا وماطله في طلبه أن يصير أميرا على مقاطعة في مصر، قام المتنبِّي، بنظم قصيدة شديدة العنصرية يسبُّ فيها كافور الإخشيدي ويسجِّل في التاريخ بأنه كان عبدا، وكسائر العبيد فهو شخص لا يؤتمن، ومطلع القصيدة «عيد بأي حال عدت يا عيد/ بما مضى أم لأمر فيك تجديد». ومن المذهل أن أبيات القصيدة تُردد حتى الآن في شكل أقوال مأثورة، ورسَّخت في الذاكرة الجمعية للشعوب صورة كافور الإخشيدي بأنه عبد شحيح تولى حكم مصر.
أشعار المتنبي زاخرة بأحداث متشابكة ومواقف لامتناهية، جعلت ذاكرة الأمة العربية تنتقي أخباره ومواقفه، سواء قديما أو حديثا. ومن الطريف أن تلك الذاكرة الجمعية هي التي أفضت إلى موته عندما هجم عليه قطَّاع الطرق وأوعزوا له ألا يلوذ بالفرار؛ لأن له بيتا شعريا يؤكِّد بسالته، ومن ثم يذكره التاريخ بأنه الشاعر الذي قتله بيت شعر.
التاريخ والوعي سردية، والتأريخ والذاكرة يتطلبان حسا أدبيا يجعل الحكايات مشوِّقة؛ لتستقطب مراكز الوعي بالذاكرة، فقط لتلذذها بالأسلوب الذي قيلت فيه الحكاية.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ماري سعد:

    الذاكرة الانتقائية في مجتمعاتنا هي سبب الكثير من المشلات، وياريت كنا نتذكر أشياء مفيدة لكن نتذكر كل مالا يفيد. ولما ر بيكون كلام ناس بتعرف تهلل صح

إشترك في قائمتنا البريدية