أثار مقالي السابق عن طه حسين والمبني على قراءتي لكتاب إبراهيم عبد العزيز «طه حسين وثائق مجهولة» أسئلة كثيرة، وقد لفت نظري سؤال طرحته إحدى الإعلاميات حول علاقته الصادمة بالمناضلة المصرية درية شفيق، وموقفه السلبي تجاهها، هو الذي وقف إلى جانبها في بداية الطريق، فساندها لتدرس الفلسفة كما أرادت، لكنه خيب أملها ساخرا منها حين طالبت بحق النساء في الانتخاب وخوض غمار السياسة. إذ نشر مقالا في جريدة «الجمهورية» وكانت الجريدة الرسمية للحكومة، استعمل عبارات لا يليق أبدا أن تصدر عن قامة مثل قامته، موجهة لدكتورة متخرجة من السوربون، «وسخر فيه بالغ السخرية من حركة النساء هذه، ويصفهن بأبشع الصفات والألفاظ، ويتحدى بذلك الرأي العام المتعاطف مع هؤلاء المعتصمات كل التعاطف، ويثير دهشة كل الكتاب والمفكرين والسياسيين المصريين في وقت واحد». (طه حسين واعتصام النساء، مقال نشر في مجلة «الدوحة» العدد 5 صادر في 1 مايو/أيار 1976، لكاتبه كرم شلبي).
ولعل طه حسين كان محرجا من الرئيس عبد الناصر الذي كرمه تكريم الرؤساء والملوك، فما كان منه سوى الوقوف في صف السلطة، لأن درية شفيق لم تكن مناضلة عادية، بل استفزازية ومشاكسة ولا تحترم وزيرا ولا رئيسا، فقد نددت علنا مثلا بالرئيس الباكستاني عندما اتخذ زوجة ثانية، ولم تكتف بإلقاء محاضرات في أوروبا وأمريكا عن كفاح المرأة المصرية، بل اجتمعت برؤساء دول منها الهند ولبنان والعراق وإيران وسيلان.
في كتاب لسينثيا نيلسون ترجمته نهاد أحمد سالم بعنوان «درية شفيق، مصرية طالبت بالمساواة بين الجنسين، امرأة مختلفة» الصادر في طبعته الإنكليزية عام 1996 عن الجامعة الأمريكية في القاهرة، وطبعته العربية عام 1999 عن المجلس الأعلى للثقافة، نقرأ الكثير عن هذه التفاصيل التي تكشف عن الوجه الحقيقي للثائرة درية شفيق التي أعلنت ثورتها الخاصة قبل الثورة وبعدها، ورفضت الأفكار الرجعية التي تهين المرأة وتضعها في الصفوف الخلفية، مستغنية عن رأيها، في ما يخص الحياة العامة وتقرير مصيرها الخاص. هكذا أنشأت منظمة خاصة، وحزبا سياسيا، ووقفت في وجه الاستعمار البريطاني، كما نظمت إضرابا عن الطعام دام ثمانية أيام للمطالبة بحقوق النساء.
فرضت على درية شفيق عزلة سياسية قاسية، وإقامة جبرية، فوق عزلتها الشخصية، من سنة 1957 إلى سنة انتحارها 1975. ورغم مسارها الحافل والعنيف، إلا أن مذكراتها وسيرتها لم تستهو الناشرين الغربيين الذين يبحثون عن قصص تثير دهشة القارئ الغربي، أما الناشر العربي فقد كان من الصعب أن ينشر ما كتبته درية آنذاك. تذكر نيلسون أن درية كتبت حوالي 550 صفحة باللغة الفرنسية عن بعض محطات حياتها وما يفوق الـ 4200 صفحة باللغة الإنكليزية كانت كلها وسيلتها الوحيدة لتتجاوز محنة عزلها وكسرها، قبل أن تنهار تماما وتنهي حياتها.
في الكتاب أيضا مختصر ممتاز عن أهم الأحداث في تاريخ مصر والعالم وحياة هذه النسوية الشرسة. ولعل أقسى ما عاشته غير عزلتها هو فقدانها لوالدتها وهي تلد، تلك صدمة لا تنسى، غير الخذلان الذي لاقته حتى من الحكومة التي أشرفت على تعليمها العالي، ثم ما إن عادت إلى مصر راغبة في خدمة بلدها، اكتشفت أن من أرسلوها لم يكونوا يعرفون معنى «البعثة التعليمية» ولا طريقة الاستفادة منها. وقالت صراحة: «على الرغم من رغبتي في العودة إلى مصر وإلى أسرتي التي اشتقت إليها كثيرا، إلا أن باريس هي المكان الذي انتصرت فيه، للمرة الأولى على العالم العدائي المحيط بي».
كانت حالة درية شفيق نموذجا حقيقيا عن فشل الحكومات العربية في الاستفادة من طلبتها المبعوثين للخارج، ولعلنا هنا سنفهم أكثر التغيرات التي طرأت على طه حسين ليبعد ملاحقيه فيطمئنوا إليه، فقد وجد في درية شفيق «الهدف الضعيف المشترك» ليثبت من خلال مهاجمتها ولاءه للنظام آنذاك، وإن كان هذا مجرد افتراض لا غير، فكلاهما اليوم في العالم الآخر، وما قيل بشأن تلك الحرب الضروس بينهما، ظل غامضا لا يشفي الغليل.
فقد أورد كرم شلبي في مقاله أنه لا يجد أي تفسير لموقف طه حسين العنيف والمقالات العنيفة أكثر مما ذكره أحمد بهاء الدين في مقال له نشر في مجلة «روز اليوسف» بعنوان «طه حسين يخطف» قال فيه: «أصبح كثيرون يلاحظون على الدكتور طه حسين حساسيته الشديدة من ناحية الجدل، تلك الحساسية التي تظهر في جنوحه إلى استعمال الألفاظ العنيفة، ولو جاوزت مواقع الإنصاف، فكل من يخالفه ولو في معاني الألفاظ سخيف، سطحي، خطاف، إلى آخر هذه الصفات، وهم يقولون إن هذه الحساسية آية عدم اطمئنانه الكامل إلى سلامة موقفه في النقاش».
أدلى كل بدلوه لمحاربة درية شفيق، الأزهر والإعلام والحكومة والمجتمع، واستعملت كل وسائل الضغط عليها، حتى بلغت استغلال ابنتيها لتتراجع عن الخط الذي رسمته لنفسها والتزمت به. والصراحة تقال، فإن النضال النسائي في مجتمعاتنا العربية شبيه بنضال النساء في الغرب، لكن في الغرب أتى بثماره، أما في الشرق فلا ثمار ولا هم يحزنون، مثل أي شيء آخر، نبدأه ولا ننهيه. ومن الصدف العجيبة أن درية شفيق ولدت عام 1908 وهو العام نفسه الذي ولدت فيه سيمون دي بوفوار الفرنسية، وكلاهما درست الفلسفة والأدب، وتخرجتا من السوربون في باريس، وناضلتا من أجل إدماج المرأة في الحياة السياسية، ومعاملتها معاملة تليق بإنسانيتها.
صحيح أن دي بوفوار ابنة فرنسا، وعاشت كل حياتها في باريس، لكنها لاقت الكثير من الرفض، حتى من أقرب الناس إليها (والدتها) ومع هذا لم تشن عليها حرب كالتي شنت على درية شفيق. حقيقة كانت وحيدة في مواجهة جحافل من المقاتلين الذين كشّروا عن أنيابهم وبشاعتهم وجانبهم اللاأخلاقي الصادم، حتى خريج السوربون طه حسين الذي عاش في حضن سوزان الفرنسية استعمل كما الغالبية ومنهم شيوخ الأزهر «لغة الشارع» وخاطب بها الدكتورة درية.
يقال «لكل جواد كبوة» وإن كان هناك من كبوة لطه حسين فهي هذه، كونه في حياته الخاصة وبعيدا عن منجزه العلمي، كان رجلا شرقيا، وقد أدت زوجته الفرنسية دور الزوجة الشرقية المتعصرنة بامتياز، وهو نفسه اجتهد طيلة حياته لتلبية مطالبها، لتعيش حياة رغيدة، ولا أعتقد أنه كان في مقدوره العيش مع امرأة مثل درية شفيق، فيما هذه الأخيرة كان يلزمها رجل مثل سارتر لتواصل مشوارها إلى آخره، وهذا ما لم يحدث. لقد تكررت في مذكراتها عبارة «أشعر بالوحدة» وهذا يعكس معاناتها الحقيقية، خاصة بعد عزلها عن الجميع، إضافة إلى شعورها العميق بعظمة تضحياتها أمام النتائج الضعيفة المحققة بسبب كل أنواع القمع الذي تتعرض له النساء، ما يجعل المجتمع كله يتراجع باستمرار كنتيجة حتمية.
لقد صنفت درية شفيق واحدة من أهم نساء العالم عام 1954، ووصفتها جريدة «الديلي ميرور» بأنها تريد أن تصبح «كليوباترا القرن العشرين» ولا أدري إلى أي مدى كانت تلك التغطية الإعلامية المبالغ فيها سلاحا ذا حدين بالنسبة لها. فقد ابتسم لها العالم كله وصفق لها خارج حدود بلدها، لكن بمجرد عودتها إلى مصر كانت تجد كل ما أسهمت به الحركة النسائية في المجتمع المدني منذ هدى شعراوي إليها ينهار شيئا فشيئا.
نهاية درية شفيق لم تكن مأساوية لأن من ينصفها سيأتي لا محالة، المأساوي حقا هو وضع مجتمعاتنا، نسائنا ورجالنا معا، وهم يتناطحون في حلبة صراع أبدية.
ولعل أصدق ما يختصر نهاية هذه السيدة الرائدة في نضالها ما قاله الشاعر الفرنسي بيير لافيردي: «لا يوجد منتحر وإنما قتلة».
شاعرة وإعلامية من البحرين
“فقد نددت علنا مثلا بالرئيس الباكستاني عندما اتخذ زوجة ثانية”
شكرًا أختي بروين حبيب. وبكل أسف لم أسمع عنها حتى يومنا هذا! ياإلهي كم يوجد ضحايا لتفكيرنا البائس! في النهاية المجتمع هو الذي ينتحر. وهذا مانعيشه اليوم.