الى القراء الاعزاء… وداعا! والى لقاء قريب باذن الله

ليس هناك اصعب على المـــرء من لحظات وداع قرائه المحبين، خاصة على كاتب مثلي كان ولاؤه دائما لهم طوال رحلة صحافية امتدت لما يقرب من ربع قرن، وعلى صفحات ‘القدس العربي’، لم ينقطع خلالها عن الكتابة يوما واحدا.
لم اكن اتمنى مطلقا ان تأتي لحظة الوداع الاخيرة في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك، الذي انتهز فرصة قدومه لاهنئ جميع ابناء الأمتين العربية والاسلامية، ولكنها الظروف ومتطلباتها، خاصة عندما تكون هناك اطراف اخرى لعبت دورا بالدفع باتجاه هذا القرار.
اليوم تنتهي علاقتي كليا كرئيس مجلس ادارة ورئيس تحرير ‘القدس العربي’، الصحيفة التي اعتز بها لوقوفها ومنذ اليوم الاول لصدورها في خندق امتنا وعقيدتها، وخاضت معارك شرسة في مواجهة الاحتــــلالات والهيمنة الاجنبية والديكتاتوريات القمعية الفاسدة، وانتصرت دائما للمظلومين والمضطهدين.
كل رحلة لها نهاية، بما في ذلك رحلة الانسان في دار الفناء، ومن الطبيعي ان يصل قطاري الى محطته الاخيرة، وان اترجل منه مرهقا من وعثاء سفر لم يكن مريحا او سلسا في معظم مراحله.
تلقيت تهديدات بالقتل، من اجهزة انظمة بوليسية عربية واجنبية واسرائيلية، وخضت حربا شرسة ضد انصار اللوبي الاسرائيلي في اوروبا وامريكا قبل ان تمنعني من زيارتها، الذين حاولوا وما زالوا تشويه صورتي وكتم صوتي، ومنع ظهوري على محطات التلفزة العالمية، والقاء محاضرات في الجامعات الغربية المشهورة، حتى ان احد الملحقين الاعلاميين الاسرائيليين تباهى في حديث ادلى به الى صحيفة ‘جويش كرونيكل’ اليهودية البريطانية ان ابرز انجازاته في لندن هو تقليص ظهوري في المحطات الشهيرة مثل ‘سي.ان.ان’ والبي بي سي’ و’سكاي نيوز’ كخبير في شؤون الشرق الاوسط، وهذا هو الوسام الوحيد والرفيع الذي تلقيته في حياتي.
‘ ‘ ‘
تعرضت لحملات تشويه شرسة وما زلت، من مخابرات عربية، فقد صوروا مبنى ‘القدس العربي’ كناطحة سحاب، وهو شقة صغيرة، اذهلت في تواضعها الكثير من زوارنا من وزراء اعلام وخارجية وسياسيين وزملاء، حتى ان الشاعر الكبير محمود درويش اصيب بالصدمة عندما عرج علينا للقائنا، وقال كلمته الشهيرة ‘صحيفة كبيرة تصدر من كهف صغير’، ولكنه استدرك وقال ‘انكم لستم من اهل الكهف وانما اصحاب رسالة حضارية’!
اغادر ‘القدس العربي’ اليوم مرفوع الرأس، فقد تحولت من صحيفة هزيلة ضامرة مصابة بفقر دم في ايامها الاولى، الى واحدة من اهم الصحف العربية والعالمية، تترجم افتتاحياتها الى معظم اللغات، ويحج اليها الكثير من طالبي المقابلات والاستفسارات والتعليقات.
نفتخر بأننا، ورغم الحجب في عدة دول مثل المملكة العربية السعودية وسورية (مفارقة غريبة) والبحرين، اصبحنا الاكثر انتشارا وربما نفوذا، ونتقدم في هذا المضمار على جميع منافسينا من حيث عدد الزوار، فنحن نُقرأ في 208 دول وكيان على طول العالم وعرضه، ونحتل المرتبة 4500 تقريبا على مستوى العالم على الانترنت، حسب احصاءات وكالة اليكسا وغوغل.
هذا النجاح الكبير ما كان ليتحقق لولا اسرة هذه الصحيفة الصغيرة في عددها (18 شخصا من السكرتيرة حتى رئيس التحرير)، الكبيرة في امكانياتها وعزيمتها، وقدرتها على مواجهة التحديات. فالصحافة بالنسبة اليهم كانت دائما رسالة قبل ان تكون من اجل لقمة العيش، ولهذا رفض معظمهم اغراءات مالية كبيرة للانتقال الى مؤسسات اخرى، رغم ازمات مالية حرمتهم من رواتبهم لبضعة اشهر في بعض الاحيان.
هذه الكوكبة الصغيرة من الزملاء الصحافيين والكتاب والمراسلين صنعت معجزة في عالم الصحافة، عندما استطاعت، بميزانية صغيرة ان تحافظ على الحد الادنى من المهنية والموضوعية وعفة القلم، والاستقلالية في الطرح، والاصرار على نشر الحقيقة كاملة.
آمنت دائما، وطوال مسيرتي الصحافية ان الحياة ‘وقفة عزّ’، لم اتردد مطلقا في اتخاذها، فلم أساوم مطلقا على ما اؤمن به، وتربيت عليه من قيم ومبادئ وقناعات سياسية، ودفعت بسبب ذلك، وما زلت، وسأظل، اثمانا باهظة ربما يأتي يوم لذكرها اذا طال بنا العمر.
اعترف بأنني اجتهدت، اخطأت واصبت، ولكنني ظللت دائما اتعلم من اخطائي، واعتذر عنها دون خجل، فلا احد يحتكر الحقيقة، ولكل قضية وجهتا او عدة وجهات نظر تجاهها، ولهذا حرصت دائما ان لا احجب رأيا مخالفا طالما التزم صاحبه بأدب الحوار وابتعد عن القضايا الشخصية، واتهامات العمالة والتخوين، وما اكثرها هذه الايام.
‘ ‘ ‘
ربما يسأل قارئ محب بكل براءة ويقول والآن ما هي خطوتك القادمة يا ابن عطوان؟ جوابي وبكل بساطة الى بيتي لأقضي وقـــتا اطول مع اســـرتي الاصغر (الاكبر هي ‘القدس العربي’)، واتعرف مجددا على ابنائي الذين سرقتني الصحافة منهم، فأطول اجازة سنوية قضيتها معهم لا تزيد عن عشرة ايام.
لم امتهن مهنة اخرى غير الصحافة بعد دراستي لها، ولم اجمع بينها وبين اي مهنة اخرى، ولم احاول مطلقا الدخول في ميدان ‘البيزنس’ رغم العروض الكثيرة، فالصحافة هي ‘ام المهن’ واكثرها رقيا واشباعا في رأيي الشخصي، ولو عاد بي العمر الى الوراء فلن اختار غيرها.
لدي مشروع واحد في الافق ربما اعكف على انجازه في ايام التيه الاولى بعد خروجي من ‘القدس العربي’، وهي ايام ستكون صعبة وطويلة حقا، هو تأليف كتاب جديد باللغة بالانكليزية تعاقدت عليه مع دار نشر اوروبية، وافكر في الوقت نفسه في استمرار التواصل مع القراء من خلال كتابة مقالات عبر التويتر والفيس بوك. الكتابة هي ادماني الوحيد، واكبر فرحتين في حياتي هما مولد طفلي الاول وصدور كتابي الاول.
اتمنى لـ’القدس العربي’ في مرحلتها الجديدة، والزميلة سناء العالول رئيسة التحرير بالوكالة التي ستقود سفينتها في هذه المرحلة كل التقدم والتوفيق والنجاح.
واخيرا اكرر شكري المفعم بالمحبة والعرفان لكل زميل في اسرة ‘القدس العربي’، الاسرة التي ساندتني دائما وتحملتني في اوقات صعبة، كما اشكر امبراطوري الاول والاخير، اي انت قارئي العزيز الذي لا اخاف من احد غير الله الاّ انت، ولا اطيع الا رغباتك، وبوصلتي دائما متجهة اليك، واقسم بالله انني لم اسع مطلقا الا لرضائك بعد الخالق جلّ وعلا.
وداعا.. والى اللقاء.. وحتما عائدون بإذن الواحد احد.
Twitter:@abdelbariatwan

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالبارى البوعيشى:

    اتمنى لك كل التوفيق وارجوا ان تستمر القدس العربى فى الصدور لانها معلم مهم يعلمنا حب العروبة واهمية امتنا عبر التاريخ

  2. يقول عمر عيثاوي:

    تحية طيبة أستاذ بن عطوان…
    متابعتنا لقلمك هي عقد يشبه بتفاصيله “عقد النكاح” فإن قُيد بمدة من الزمن بطل!. فلا تبطل عقدنا معك لباقي عمرك ” أطاله الله “, نفهم حق حياتك الخاصة وأسرتك عليك. لكن عليك تفهم حقنا عليك بقلمك. تعلمنا ان العقل يحتاج جرعات الدم المؤكسج ولكن ماذا عن جرعات حبرك إن توقف ضخها في عقولنا؟ سنموت فكرياً وليس سريرياً بكل تأكيد. أعزك الله وحماك ووفقك. شكراً

  3. يقول الدكتور زهير الفتيح - موسكو:

    قرارك رشيد وصحيح يا عبد الباري عطوان .. اترك ولو مؤقتاً مهنة المتاعب .. ارتاح مع زوجتك واولادك واسترخي مع الطبيعة وكأس بارد ..
    لا اخفيك انا معجب بك وبأسلوبك الصحفي ..والاهم هو معالجتك للقضايا السياسية وثباتك في معاداة ال سعود والحمدين في قطر ..
    لكن عتبي عليك كبير الخصه بالتالي :
    كان المفروض بك مساندة سورية امام محنتها .. ومساندة جانب الحق والعدل لبلد قدم الكثير لفلسطين .. حبنا المشترك ..
    هجومك على النظام في سورية قد يكون له مايبرره … كموقف شخصي ..
    لكن الدولة السورية اليوم تقود جبهة مصير ووجود ..واسعة في وجه مؤامرة كونية انت اعلم بها ..
    القرضاوي ومن لف لفه .. ليس سوى تافه ماسوني عميل .. كان الاجدى بك قذفه بحذائك عن دربك .. وليس مديحه الممجوج بقلمك ..( وكان ردي واضحاً في آنه )
    قد تكون مواقفك اعلاه مرتبطة بسبب التمويل لجريدة قوية ومعروفة ..
    لكنك يا سيدي لم تعتبر من سمعة وجبروت محمد حسنين هيكل .. ( كان وسيبقى هرماً خالداً في ذاكرة الطيبين من العقلاء ) ..
    كنت ولا ازال ارغب في ان تكون لديك نفس السمعة وذات الوصف
    وفقك الله لما فيه خير الامة

  4. يقول [email protected]:

    يقول المثل “عندما تذهب الشخصيات تبقى المؤسسات”، فالعز والرضى لعبدالباري عطوان، والاستدامة على نفس الخط للقدس العربي، وكل رمضان وأنتم بخير

  5. يقول ياسر الشرمان:

    يصلينا ما يحدث مع الحق في هذه الايام وخصوصا استقالتكم ,اصبحنا شعوب لنا مبادئنا الحقة ولكن لا نعرف اين اسواقها فاسواقها ليست في مجتمعاتنا اكيد,نحن شعوب ننتظر النهاية بفارغ الصبر ,بل صرنا نركض نحوها.

  6. يقول ahmed:

    الاخ الكريم عبد الباري حمدا لله انك تركت القدس العربي وانت مرفوع الراس وارجو من الله ان تعود الينا بالعرب والقدس معهم وشكرا

  7. يقول الطائر الحر:

    وقال الطائر الحر
    إنْ يُغَادِرْ عبدُ الباري عطوانُ @ فَأَيُّ كَهْفٍ يا الطّائِرُ الحُرُّ المَلْجَأُ
    الطائر الحر

  8. يقول محمد العمر:

    لماذا يا ايها العملاق اظنك قد ياست من مهنه يزاولها الصغار وهم صم بكم ولكن مادام ذلك هو اختيارك الصعب نقول لك الوداع والى لقاء متجدد مع منشور جديد

  9. يقول محمود خضر:

    عبد الباري نفسي أشوفك على بحر غزة في عريش وحولك كروم العنب وشجر التين والصبر… ناكل سلطة اسدودية مع رغيفين خبز بلدي، ونحلي في بطيخة المواصي ونحمد الله عز وجل…
    قلمك الذي تحمله على كتفك سلاح في وجه الحاقدين، أدامك الله ذخراً لفلسطين ورحم الله والديك، وما أشبه قلمك بريشة ناجي …. رعاك الله

  10. يقول السلي احمد عبدالله:

    عبد الباري عطوان مع كل الاسى والاسف الشديدين لابتعادكم عن هذا العمل الذي خدمتم بها الإسلام والمسلممين اكثر من خمسة وعشرين عاما نقول لكم وداعا سواء أكن لسسب او لغير ذلك فإن الرحيل واقع إن عاجلا أو آجل ولكن ما قمتم كبير هياتم الشخص المناسب ونقلتم المسؤولية إليه عمل رائع وجبار ، شكرا مرة أخرى ونرجوا أن لا تبتعدو عن قول الحقيقة المرة مهما كانت الظروف ونلرجو أيضا أن لاتتركوا تلك المفالات الرائعة التي تعلمناها منكم والله يحفظكم – أخوك من جمهورية جيبوتي

1 102 103 104 105 106 115

إشترك في قائمتنا البريدية