مما تعلمته أمة العرب من عِبَر الدهر أن «فاقد الشيء لا يعطيه». إلا أن المفارقة في هذا المثل أنه من الحِكَم التي لا تحتاج، بالضرورة، سابقَ خبرة ولا طول تمرّس بشؤون البشر. يكفي أن يُعمل أي إنسان عاقل ما وهبه الله من ملكة التفكير السليم حتى يوقن، بالاستنتاج المنطقي، أن الكذاب لا يصُدق وأن الظلوم لا يعدل وأن الغدّار لا يحفظ عهدا ولا يرعى ذمة أو عشرة، وأن الأخرق المفتقر لأبسط مقومات الكفاءة لا يمكنه، حتى لو أراد، أن ينفذ مهمة أو ينجز عملا، ناهيك عن أن يبلغ فيهما درجة الإحكام والإتقان. وانعدام الكفاءة هو ما يصِمُه المعلّمون في المدارس الابتدائية بـ«الرداءة». وأذكر أنه كان من أشهر ما قرأنا ونحن صغار، للكاتب التونسي عبد المجيد عطية الذي يبدو أنْ قد لفه النسيان اليوم في بلاده، رواية «المُنبَتّ» (من الانبتات والانقطاع) ورواية «خطّك رديء»!
والرداءة، بالمعنى المدرسي الشائع، هي أوْفَى بالمعنى في رأيي: ذلك أن غير الكفء في عمل أو مهمة أو وظيفة إنما هو طالب، أو موظف أو مدير أو وزير، رديء. و«ميزة الرداءة» أي ميزة المفردة اللغوية، أنها نعت وصفة لوجود، أما انعدام الكفاءة فما هو، في تصوري الشخصي، بِنعتِ ولا صفة، بل هو عدم… لا شبهة تحوم حول عدمه! ولهذا فإني أعجب من سخط العمال والموظفين في المؤسسات، وسخط المواطنين في الدول، على الفساد في مقابل عدم سخطهم على الرداءة (أي انعدام الكفاءة) بل عدم انتباههم للرداءة وبلاياها مجرد الانتباه رغم أن آياتها غالبا ما تكون واضحة فاضحة، ورغم أن التاريخ المعاصر لَطالما أثبت، ولا يزال، أن الرداءة، خصوصا في مناصب القيادة المؤسسية والسياسية، هي أخطر من الفساد وألعَنُ وأدهى وأمرّ. ذلك أن الفساد قابل للإصلاح عندما تجتمع الشروط ويصدق العزم، أما الرداءة..!
التاريخ المعاصر لَطالما أثبت، ولا يزال، أن الرداءة، خصوصا في مناصب القيادة المؤسسية والسياسية، هي أخطر من الفساد وألعَنُ وأدهى وأمرّ
ولكن من مآسي الشرط الإنساني أن الرداءة ليست، بالضرورة وفي جميع الحالات، أسوأ الشرور في القيادة والإدارة. بل إن ثمة ما هو أسوأ منها! لأنه إذا كان الفساد أقل خطرا من الرداءة، فإن الرداءة أقل خطرا من الحماقة. ولهذا قال أبو الطيب، معّبرا عما اختزنته أمة العرب من الحكمة: لكل داء دواء يُستَطبُّ به، إلا الحماقةَ أَعْيَتْ من يداويها. والظاهر أن الاستبداد هو الامتحان النهائي لكل من الرداءة والحماقة. إذ يمكن للاستبداد أن يقترن بالكفاءة، مثلما كان الشأن مثلا مع السنغافوري لي كوان يو، والماليزي محاضير محمد، وقادة تايوان وكوريا الجنوبية في العهد السابق للانتقال الديمقراطي. ويمكن للاستبداد أن يقترن بالكفاءة في مجال والرداءة في غيره. إذ يتفق المؤرخون أن ستالين أبان عن اقتدار في قيادة النهضة الصناعية السوفييتية، ولكنه كان قائدا عسكريا رديئا وكانت معظم قراراته في الحرب العالمية الثانية كارثية. وإن شاء التاريخ أن يكون رحيما فلعلّه يصدر الحكم ذاته على صدام حسين، ولكنه قد لا يمنحه أيّا من ظروف التخفيف التي كانت لستالين الذي لم يسْعَ للحرب وإنما فرضت عليه فرضا. ومن ظروف التخفيف، مثلا، أن يؤمّن القائد الرديء مساعديه ويطمئنهم، بحيث يكون في وسعه أن يستعين الأكفاء منهم ويعمل برأيهم. وقد كان هذا شأن ماو تسي تونغ مع شو إن لاي الذي يتفق المؤرخون أنه هو الأفطن والأكفأ.
وإذا كان المتنبي يَعُدّ الحماقة داء عُضالا، فإن المخرج السينمائي كلود شابرول يقول إن الحماقة أعجبُ من الذكاء وأعمق بما لا يقاس: ذلك أن للذكاء حدودا، أما الحماقة فإنها بلا حدود! وفي هذا تقاطع أخّاذ مع ما ذهب إليه الياس خوري، الذي لا عزاء لثقافة الحق ولشرف الكلمة بعده، من أن أفظع اكتشافاتنا هو أن خيال المستبدّين ليس له حدود! وقد سألته في ذلك عندما قابلته في بيروت، فقال وهو يغالب الضحك: «لا يمكننا اللحاق بالاستبداد في سعة خياله، فلا قِبَل للأدب بمجاراة الاستبداد ومنافسته. لقد أثّر كافكا في الروائيين من بعده لأنه نجح في تحويل الاستعارة إلى حقيقة كما يتجلى مثلا في رواية «متامورفوز» حيث يستيقظ الراوي فيجد أنه قد تحول إلى حشرة. ولكننا نعيش، نحن العرب، العكس تماما: ذلك أن الاستبداد قد نجح في أن يُصيّرنا حشرات، إلى حد أن هذه الحقيقة البئيسة التعيسة قد تحولت هي ذاتها إلى استعارة!»
كاتب تونسي