ذات يوم، غير بعيد، خطب بشار الأسد عن ‘أشباه الرجال’، في وصف بعض الزعامات العربية (وبينهم ضمناً، وليس تصريحاً بالطبع، ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، والرئيس الفلسطيني محمود عباس…)، بسبب موقفهم من ‘حزب الله’ والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006. وكان، بالطبع، يفترض أنه يقف في الصنف النقيض: رجل ابن رجل، بدليل أنّ جيوشه زحفت ضدّ إسرائيل في بطاح الجولان المحتلّ، لكي تساند حسن نصر الله عسكرياً، وتكفّ بعض الأذى عن ‘الشعب اللبناني الشقيق’؛ لولا أنّ الوقائع على الأرض كانت تقول العكس تماماً، وتضع الأسد في مصافّ أدهى، وأدنى، حتى من تلك الشبهة التي ساقها.
بعد أسابيع قليلة كان أحد أولئك ‘الأشباه’، العاهل السعودي، يُستقبل في دمشق بالطبول والزمور، ويُقلّد وسام أميّة ذا الوشاح الأكبر، أرفع الأوسمة في البلاد؛ وكان أحدهم الآخر، الرئيس الفلسطيني، يلقى معاملة أشبه بالإهانة المعلنة، فتأجلت زيارته الرسمية المقرّرة، بل أُلغيت حتى إشعار آخر مجهول. صحيح أنّ البون كان شاسعاً واسعاً، في حسابات النظام السوري على الأقلّ، بين خادم الحرمين الشريفين، وخادم ‘خيار السلام’؛ إلا أنّ ما استحقه الأوّل من حفاوة، إنما أجاز ما لحق بالثاني من مهانة. المفارقة، المضحكة ـ المبكية، ظلّت مع ذلك متمثلة في حقيقة أنّ أحد أبرز بنود قمّة الأسد ـ عبد الله كانت إعادة تأهيل عباس لدى أطراف ما يُسمّى ‘محور الممانعة’، وكذلك إعادة تطبيع النظام السوري مع ما يُسمّى ‘محور الاعتدال’.
استرجاع هذه الواقعة يرتدي صفة الاحتكام إلى واحدة من قواعد العلاقة بين نظام ‘الحركة التصحيحية’، كما أطلقه الأسد الأب واقتفى دربه الأسد الابن الوريث، أي إهانة الشعب الفلسطيني ما أمكن، عبر إذلال قياداته الرسمية. وأمّا مناسبة العودة إلى مهانة عباس تلك، فهي تصريحاته الأخيرة حول تجويع مخيّم اليرموك الفلسطيني، بعد حصار يتواصل منذ 18 شهراً: لم يكتفِ سيادته بتبرئة النظام السوري من حصار ‘يرقى إلى جريمة حرب’، حسب نافي بيلاي، رئيسة مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؛ بل نعت بعض المحاصَرين بـ’الخونة للقضية’، و’الأيدي القذرة المستأجرة’، واكتشف لا فُضّ فوه أنه ‘إذا أراد الفلسطينيون أن يقاتلوا، معروف أين يقاتلون وليس في اليرموك’، ولهذا: ‘كنا نتمنى على الجماعات المسلحة أن يبعدوا عن المخيمات لكنّ المبلغ المدفوع لهم أكبر من الخروج من المخيم’!
صورة طبق الأصل، ولكنها ‘فتحاوية’ مصدّق عليها بخاتم سلطة رام الله، عن خطاب ‘الممانعين’ إياهم، ممّن يرفعون العقيرة لهتاف واحد، ركيك بقدر ما يتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا والخرائط المحضة، يدعو إلى عدم إقحام المخيمات الفلسطينية في ‘المؤامرة الصهيو ـ أمريكية’ على سورية. المفارقة أنّ عباس، في العزف على هذا النغم النشاز، لا يلتقي مع خصومه الذين أشبعوه شتماً خلال سنوات طويلة (خاصة بعد فضيحة تأجيل التصويت على تقرير القاضي ريشادر غولدستون، حول جرائم الحرب خلال العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة)، فحسب؛ بل يكرر، مثل ببغاء، خطاب النظام السوري حول الفلسطينيين بوصفهم ‘ضيوفاً في الدول العربية’، ويتوجب على الضيف ‘أن يحترم أصول الضيافة’!
فماذا إذا انطوت تلك الأصول الضيافية على قصف المخيّم بالبراميل المتفجرة، بحوّامات ليس في وسع عباس الزعم بأنها في أمرة ‘الأيدي القذرة المستأجرة’؟ وماذا إذا شهدت منظمات إغاثة أممية ودولية، بأنّ النظام، وليس ‘الخونة للقضية’، هو الذي تعمد ويتعمد عرقلة ايصال الإمدادات الغذائية والطبية إلى المخيّم؟ أم أنّ في وسع عباس الكذب في هذَين أيضاً، وسواهما كثير، ما دام قد أرسل إلى دمشق مفاوضاً باسمه، أحمد مجدلاني، أسخريوطي ‘جبهة النضال الشعبي’؛ يكذب في شهيقه ويزوّر في زفيره، ويجزم بأنّ ‘داعش’ و’جبهة النصرة’ وراء ‘تشريد نحو 360 ألف لاجىء فلسطيني، من 11 مخيماً، وثلاثة تجمعات للاجئين’، منذ أواخر 2012؟
ولكن… أيّ عجب في أن يلتقي عباس مع ‘ممانع’ دجال، يتعامى عن حقيقة أنّ إسرائيل، على امتداد تواريخها الإجرامية خلال حصارات غزّة ورام الله والمدن الفلسطينية كافة، لم تبلغ ذلك المستوى الوحشي المطلق الذي يدفع الآدمي المحاصَر إلى التماس القوت في نبات الصبّار أو لحم القطط؟ أيّ عجب، وعباس هو عباس… لا راح ولا أتى: ورث الانتفاضة الأولى من الراحل خليل الوزير (أبو جهاد)، فحوّلها من حركة مقاومة إلى جهاز بيروقراطي؛ وخصال ‘الواقعية’ و’الذرائعية’ و’الطواعية’ أكسبته حظوة خاصة لدى واشنطن وتل أبيب، فصار رئيس الوزراء الذي دخل مع عرفات في معركة مفتوحة شاملة، حول ملفات كثيرة، أبرزها طرائق الانحناء الأفضل؛ ثمّ صار الرئيس الذي من طينة مَنْ يَهُنْ، يسهل الهوان عليه…
ومع ذلك، ورغم أنّ ولايته الدستورية انتهت منذ مطلع 2009، فإنّ عباس هو الرئيس الفلسطيني المنتخَب ديمقراطياً؛ ولهذا فإنّ هوانه، بيده شخصياً، أو بيد عمرو أو زيد، ليس نازلة تخصّه وحده، بل هي إهانة للشعب الفلسطيني، معه وبسببه. وذكر الله بالخير الراحل الكبير محمود درويش: ما أوسع الثورة! ما أضيق الرحلة! ما أكبر الفكرة! ما أصغر الدولة!
لا فض فوك
الناطق باسم الاونروا اعترف ايضا ان اطلاق النار على قافلة الاغاثة من جهة مناطق يسيطر عليها المسلحون ، و النظام لم يطلق طلقة واحدة على المخيم قبل احتلاله من المسلحين و محاولتهم الدخول الى دمشق من المخيم ، فلماذا التمترس بالمدنيين و هم يعلمون ان النظام لا يملك الا الرد على مصادر النيران ؟؟؟؟؟؟؟
النظام سمح باغاثة المدنيين بشرط عدم وصول المساعدات للمسلحين ، و عباس و قف على الحياد الى ان ثبت له قطعيا ان المسلحين هم من يمنعون اغاثة المدنيين الفلسطينيين و ليس النظام السورى .
كفى مغالطات و تل
أخي صبحي،
فقط للتذكير هنا بشيءٍ له دلالةٌ من الأهمية بمكانٍ في هذا السياق،
لقد كتب الغائب محمود درويش هاتين العبارتين الأخيرتين من قصيدته الملحمية المطوّلة والمسجَّلة «مديح الظل العالي»:
ما أكبر الفكرة!
ما أصغر الدولة!
وذلك بناءً على ما كان الراحل ياسر عرفات يردِّد على الدوام في أثناء فواصل أحاديثه وخطبه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، عندما «كان الزمانُ أقلَّ جموحًا من الآن»، أي قبل أن ينساق هو نفسُهُ بشكل علنيٍّ وسافر إلى سياسة، بل بداية تسييس، طرائق الانحناء الأفضل التي شرع محمود عباس يطوِّرها بمستوياتٍ “أكثرَ حضاريةً” في مراحل سباق التسلُّح !!!
احسنت في كل ما قلته، بارك الله فيك