إن التعددية بمعناها الليبرالي الاصلي تمثل انفتاحا عميقا للاختلاف والاعتراف بوجود وأهمية وحقوق مجموعات ليست جزءا من التيار المركزي. وتمثل ‘التعددية’، في استعمالها الحالي في الثقافة الاسرائيلية شيئا مختلفا تماما: فهي علامة على الانتماء الى مجموعة مغلقة تنسب الى نفسها مواقف تقدمية وسامية وتحتقر كل من ليسوا ‘تعدديين’. إن أحادية الأطرف التعددية هي من الامراض الشديدة لليسار الاسرائيلي. إن التعدديين الجدد لغرورهم، على يقين من أنهم المرحلة الاكثر تقدما في التطور البشري ولهذا لا يمكن أن يوجد شخص ما ذو علم ‘قديم’، يستطيع أن يزيدهم شيئا ما من الحكمة عن العالم. وهم لا يعلمون أن موقفهم هو رجوع الى مرحلة متوسطة من تاريخ اليونان القديمة. فقد حاول أوائل الفلاسفة اليونان أن يكتبوا نظريات فسر فيها الواقع كله بحسب أساس واحد مركزي فيه. وانهارت افكارهم واحدا بعد آخر (مثل فشل المحاولة الحديثة جعل الواقع البشري كله يقوم على القومية أو الاشتراكية أو السوق الحرة أو عقدة أوديب). وظهر السفسطائيون الذين قالوا إنه لا توجد حقيقة عامة ليكونوا اصلاحا لهذه المرحلة من التاريخ اليوناني. بل توجد فقط حقيقة خاصة محلية. ونجحت الاجيال بعدهم في الجمع بين الموقفين فقالوا إنه توجد حقيقة لكننا لا نحرزها بصورة كاملة، لكن يمكن التفريق بين الاقتراب منها والابتعاد عنها. وإن السعي الى الحقيقة والاقتراب منها أهم كنز معرفي للانسان فهما اللذان يُمكنان من التقدم العلمي حتى حينما لا تكون الحقيقة كلها معلومة لنا. إن التعددية فيما بعد الحداثة مخلوق عولمي يدرس اديان الشرق الاقصى ويأكل مأكولات جاءت من ثقافة الهنود الحمر، ويريد أن يفتح دولته للاجئين السودانيين، لكنه يحتقر الحقيقة التي ظهرت في القدس. إن بغض التعدديين لكل من توجد عنده حقيقة وواجب يجعلهم يتعاونون مع أكثر القوى عداءا للديمقراطية في المجتمع. إن الحريديين لم ينجحوا وحدهم في زعزعة جهاز القضاء الاسرائيلي الذي لا يقضي بحسب الشريعة اليهودية فقام وزير القضاء التعددي بالعمل من اجلهم. فقد جعل المسؤولية التي تحملتها المحكمة العليا وهي ملء الفراغات التي نشأت في مجتمع يصعب عليه أن يضع معايير السلوك الاخلاقي، جعلها خُلقا معيبا. إن تعدديي هذا الزمان يعرضون أن انفتاحهم واستعدادهم لقبول المختلف عنهم أعلى مما هما عند الآخرين، لكنهم مستعدون في الحقيقة لقبول تعددي مثلهم فقط، أما كل الآخرين الذين يزعمون أن عندهم حقيقة ما ليست حقيقتهم الخاصة فقط حقيقة عن وضع المجتمع أو عن وضع الانسان لمجرد كونه انسانا فانهم يرفضونهم. وهم يزعزعون حينما يتجرأ أحد ما على أن يزعم أن الحقيقة التي يقبل صدقها ليست ‘حقيقته’ فقط بل هي حقيقة يمكن أن تكون صادقة على اولئك الذين يعارضونها ايضا. آنذاك يتجاوز التعدديون فريضة ‘قبول الآراء المختلفة’ ويسمونه ‘داعية ومتطرفا وأبويا’. ويؤيد التعدديون الفاعلية القضائية على كل من ليس تعدديا مثلهم. إن عالم التعدديين مقسوم الى طرازين من الناس: التعدديين (الممتازين) ومعادي التعددية (الظلاميين). وكل غير التعدديين يبدون لهم سيئين بنفس المقدار. فهم يصفون شخصا من أتباع مباي القدماء مثل شلومو افنيري الذي لا يصدق أبو مازن، بأنه قومي متطرف، فورا، وهكذا يحول عدم قدرة التعدديين على تصنيف الظواهر وتدريجها، يحول القومية المتطرفة لتصبح شرعية، في واقع الامر. اعتاد التعدديون فيما بين انفسهم أن يتهم بعضهم بعضا بعدم الوفاء بقيم التعددية. يجب على الانسان كي يعتبر تعدديا حقيقيا أن يتسامى تماما فوق الرواية المؤسسة لشعبه وعائلته وأن يظهر استعدادا لقبول رواية تنفي وجوده. والفائز في سباق التعدديين هو الذي يدرس أن ‘الصهيونية جريمة استعمارية كما يُبين أمر النكبة الفلسطينية’. وقد أصبح الخوف في بعض دوائر اليسار الاسرائيلي من التعدديين قويا جدا حتى إن من ينتمي الى اليسار لارادته انهاء الاحتلال ولتأييده الاشتراكية الديمقراطية ولانتقاده التدين اليهودي الوثني يجب أن يحذر جدا كي لا يُندد به علنا بأنه ‘معاد للتعددية’، ولئلا يُمنع ترفيعه الاكاديمي أو يتم اخراجه من الدائرة الاجتماعية أو لا تريد نساء تعدديات الخروج معه. كان بيت هيلل وبيت شماي مذهبين تنافسا في سلطة تفسير اليهودية في عصرهما في نهاية ايام الهيكل الثاني. وقد استقرت آراء حكماء التلمود في العصور التي تلتهما على متابعة بيت هيلل لا لأنهم خلصوا الى استنتاج أن هؤلاء على حق دائما بل لسبب مختلف تماما وهو أنهم في مدارس بيت شماي تجاهلوا بيت هيلل. أما في بيت هيلل فاعتادوا أن يدرسوا ما قاله ناس بيت شماي مع دراسة ما قاله ناس بيت هيلل. واقترح اولئك الحكماء بدل ‘التعددية’ قيمتين أخريين متممتين هما الانفتاح والتواضع. فالتواضع يعلمنا أن محدودية الانسان لا تُمكنه من أن يكون مالك العلم كله أبدا فسيوجد دائما أناس يعرفون اشياء مهمة عنه وعن عالمه لا يعلمها ولهذا فان الحكيم هو الذي يتعلم من كل انسان. والتواضع يزيد في الانفتاح وفي الاستعداد لتعلم الرأي المختلف لأنه قد يكون الآخر الذي ينتمي الى المعسكر ‘الآخر’ يرى شيئا لا تراه. ولا يجب علي أن أُبطل موقفي لموقفه بل يجدر أن أزنه وربما أن أستدخل أساسا واحدا منه. إن الصورة التي تحرف المعنى الاصلي والمهم للتعددية تجعل التعدديين فيما بعد الحداثة ناسا لا يتعلمون شيئا من انسان لا ينتمي الى مجموعتهم. ويتحولون رويدا رويدا الى ناس ذوي أضيق الآفاق في المجتمع الاسرائيلي، وإن ضيق تفكيرهم يجعلهم يمضغون مرة بعد اخرى نفس المواد التي عرفوها من قبل وأن تزعزعهم في كل صباح العناوين الصحفية التي تنذرهم بـ ‘سيطرة الفاشية’.