كان الهدف الرئيسي للثورة الشعبية الانطلاق لتأسيس مسار التغيير نحو بناء الجمهورية الثانية، بالقطيعة مع كل رموز جمهورية 5 نوفمبر وما تلاها من رموز الفساد ومراكز القوى التي ترسخ حضورها بعد 7/7 والتي تعمدت تغييب الدولة واضعافها لصالح نفوذها. هنا كانت الدولة مختطفة وكان المواطن من دون سند مؤسسي او قانوني يحمي مصالحه وحقوقه، ومن ثم كان شعار الدولة المدنية والمواطنة والعدالة الاجتماعية تجسيدا لوعي المجتمع باهمية بناء الدولة واهمية ان تكون فاعلة وقوية بمؤسساتها وآلياتها الدستورية والقانونية. ورفض المتظاهرون اي حضور مواز للدولة من الجهويات القبلية والمذهبية، لان فعل الثورة ابرز شعارات المدنية كطوق نجاة للخروج من أسر الماضي نحو المستقبل . في هذا السياق لا يمكن العبور الى الجمهورية الثانية الا بعمليتي هدم وبناء في آن واحد.. هدم كل مظاهر التشوهات في بنية الدولة، ونفي مراكز القوى من فاعليتها السياسية، ومحاكمة الفاسدين، وهذا الامر منطلقه الرئيسي والوحيد نجاح الثورة ووصول الثوار فقط الى سدة الحكم (الرئاسة والحكومة) ثم اجراء سلسلة من التغييرات في الجهاز الاداري، واعتماد قانون العزل السياسي لكل من كان في الصف الاول من القيادات السياسية والادارية والامنية والعسكرية، وهذا اجراء ضروري، لان المسار السابق اتى بهؤلاء وفق منطق علاقات القرابة والمصلحة والولاء، وليس منطق الخبرة والكفاءة والمهارات. اما وقد تمت سرقة الثورة والانحراف بمسارها مبكرا (من بعد جمعة الكرامة) فان حديثنا عن الجمهورية الثانية ما هو الا تعبير عن رغبة وأمل ما كنا نطمح الى تحقيقه. فممكنات العمل الثوري لم تعد ذات جدوى بعد ان وضعت مراكز القوى يدها على جاهزية الشباب وشتتهم، بل استقطبت اعدادا منهم فتحولوا الى ازلام واتباع. وممكنات العمل السياسي لا تسمح بالتغيير النوعي في بناء الدولة ونظامها السياسي ولا باعداد قرارات سياسية جريئة، اذ ان منطق العمل السياسي قائم على المحاصصة والغنيمة وفاعلية مراكز القوى اكثر من فاعلية الرئيس، هنا يكون السائد هو اعادة انتاج النظام السابق وليس القطع معه والخروج من أسره نحو نظام جديد . ان اليمن في مسيس الحاجة للعبور نحو الجمهورية الثانية، من اجل حاضر ومستقبل يمنح اليمنيين قيمة وكرامة ويضعهم في مصاف البشر ذوي الحقوق والحريات المدنية، ويعزز من وجودهم الاجتماعي والسياسي كمواطنين وليس كرعية يتم تدجينهم فيكونون كتلا بشرية تتحرك آليا وفق جاذبية مراكز القوى ونزواتها. وكان بالامكان ان يحدث تغيير سياسي لو امتلكت الرموز السياسية والحزبية والعسكرية ارادة وطنية وانتماء لهذا البلد، ومن ثم يدركون اهمية فاعلية حضورهم السياسي والقيادي لصالح اجراء تغييرات كبيرة، وقد’حصل هذا الامر في اكثر من بلد، حيث قادت مجموعات من الصف الاول والثاني في حكومات تمت الاطاحة بها، تغييرات سياسية لتؤسس مسارا جديدا من الجمهوريات او حتى ملكيات دستورية. لكن النخبة السياسية والحزبية والعسكرية والقبلية في بلادنا غير مؤهلة تماما ولا تمتلك ارادة وطنية، وهي ليست اكثر من وكيل لقوى خارجية. هنا يمكن القول ان مظاهر الازمة بكل تداعياتها وتعقيداتها في الجنوب والشمال وكل المحافظات تقتضي تأسيس الجمهورية الثانية من خلال نخبة ثورية او سياسية لم تكن مشاركة في السابق، ففي بلادنا من يكون مشاركا في نظام ينغمس في كل فساده السياسي والمالي وحتى الاخلاقي ومن ثم لا ينفع ان يكون هو ذاته في مرحلة جديدة . والتغيير في اليمن ليس ترفا ولا نزوة لتقليد الاخرين، بل هو حاجة ذاتية وموضوعية تمس كل مواطن في الريف والحضر. فقد بلغت الازمات حدا لا يطاق في تحملها، وجعلت البلاد سجنا كبيرا امام نخبة محدودة من مراكز القوى تنهب المال العام وتدمر مؤسسات الدولة وتفسد اخلاق المجتمع وتتنازل عن السيادة، وهنا يكون التغيير الثوري هو المسلك الوحيد (تكون الثورة أو التغيير السياسي بمثابة الفريضة الغائبة). ولاننا لم ننجح في اكمال مسار الثورة، بل تمت السيطرة عليه من مراكز القوى، بدعم اقليمي ودولي، فان ممكنات العمل السياسي، وهي محدودة وفقا لفاعلية الشباب والناشطين وهم قلة، ستجعل من التغيير عملية اعادة تدوير لمراكز القوى ومعهم ثلة من اقاربهم وازلامهم نحو مواقع وظيفية جديدة، وهنا ستتم محاصرة كل الشرفاء والوطنيين من تولي مناصب قيادية . ودليلنا هو ما حدث في مؤتمر الحوار، بدءا من اختيار قياداته واعضائه وتحديد اجندته، وكان ضمن خطة ممنهجة لا ينجم عنها اي مفاجآت لمراكز القوى التي استهدفت ان يكون الحوار مسرحية سياسية تتم الاستفادة منها في بروباغندا اعلامية تمنح تلك المراكز وقتا اطول لترتيب كل اوراقها، وتعيد تثبيت مراكزها وفاعليتها، بل وشرعنة ذلك محليا وخارجيا . وللعلم كانت وثيقة العهد والاتفاق عام 94 اهم وثيقة تؤسس للجمهورية الثانية، لكن تم اجهاض الفكرة والوثيقة بعد ساعات من التوقيع عليها. واليوم لا مناص لليمنيين من التغيير عبر مرتكزات اساسية تبدأ باعادة الاعتبار للدولة بكل مظاهرها المدنية، وتعزيز الفاعلية لمؤسساتها وآلياتها الدستورية والقانونية، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين عبر استقرار سياسي ونمو اقتصادي، وجعل التعليم منطلقا ومرتكزا للحاضر والمستقبل دونه لا مجال للحديث عن دولة مدنية. ولا بد من احداث قطيعة مع رموز الماضي ونهجه وابنيته، هنا لابد من تغيير نوعي في مؤسسات الدولة وفقا لتحديد دورها ووظيفتها بالتوازي مع المحليات، او الاقاليم ضمن مشروع وطني عام، وهنا املنا في ما تبقى من الشباب الثائر في ان يعيد تموضع نفسه ضمن تكتل سياسي جديد يخوض حروب مواقع مع مراكز القوى حتى يكسب حضورا في الدولة والمجتمع بقصد فرض اجندة التغيير ودعم مساراتها. وأما حماسنا للاقاليم فان مخرجاتها على ارض الواقع دونه عقبات وتعقيدات كثيرة، بدءا من ضعف الثقافة السياسية الحديثة مرورا بحضور مراكز القوى عبر ازلامها في كل محافظة، وهم يتوجسون من اي تغيير لانه سيحمل معه نفيا لها ومحاسبة عن ممارساتها ثم -‘وهذا الاهم- ان كل مسارات التغيير في بلادنا لا تعنينا وحدنا في الداخل، فقد اعتاد الخارج الاقليمي والدولي ان يقول كلمته ايضا، ومع ضعف النخب الوطنية فان ما هو قائم من مراكز القوى ليسوا الا وكلاء لذلك الخارج، هنا يكون تشويه مسار التغيير القادم، بل الشك في ان يكون هنالك تغيير من اصله. والسؤال هنا هل يمكن للرئيس هادي ان يحقق جزءا من عملية التغيير السياسي وفق مخرجات الحوار،’كما تضمنته الوثيقة النهائية. وهل ستسمح مراكز القوى له باتخاذ قرارات تؤسس لمرحلة جديدة من البناء السياسي؟ فاذا كانت لديه ارادة وطنية مستقلة فان مسار التغيير يقتضي تقليل فاعلية مراكز القوى او نفيها، ومن ثم استبدالها بقوى صاحبة المصلحة بالتغيير السياسي . والتحدي الاساسي للرئيس هادي هو احداث تغييرات عميقة في بنية الدولة والنظام، يستهدف خلخلة مراكز القوى واحلال بديل عنها من الرموز المدنية، وهي فرصة ذهبية للرئيس هادي بان يكتب التاريخ عنه انه مؤسس الجمهورية الثانية في اليمن. لكن واقع الحال يقول ان هادي لا يعمل اكثر من ادارة توازنات مع مراكز القوى واعتماد محاصصة حزبية وجهوية لا تؤسس لدولة ولا تصنع تغييرا، بل يتم تجميد فاعلية الرئيس وجعل قراراته رهنا بمصالح مراكز القوى، ومن ثم فان مطامحنا بالتغيير لا تجد مسارا لتحقيقها. فالتغيير السياسي نحو الدولة المدنية لن يتم’الا بقوى مدنية ووطنية ولا مجال للانتظار ممن شاركوا فساد النظام السابق ان يتطهروا ليؤسسوا تغييرا جديدا، وان كانت المبادرة منحتهم هذه الفرصة. ومع ذلك جميعنا نصبو الى تغييرات تخلق أملا بأننا ذاهبون الى المستقبل.