صنعاء ـ «القدس العربي»: تجلى التشكيلي اليمني ياسر العنسي (1976) في أعماله التجريدية التعبيرية المنجزة نهاية 2019، أكثر إدراكا لما يريد قوله ثقافيا وتحقيقه فنيا؛ إذ ارتقى في تجربته مع ما يسميه (مرحلة الأبيض والأسود) مستوى أكثر نضجا، رؤيويا وتقنيا، زاد من تكريس اشتغاله التجريدي التعبيري في حواره الممتد منذ 2007 مع المدينة القديمة في صنعاء؛ وهو الحوار الذي افتتحه، حينها، متحديا منتقدي المدرسة الواقعية، ولم يكن يعلم أن هذه التجربة ستجذبه إلى عوالم سيعيد فيها اكتشاف لوحته، وعلاقته بمحترفه ومشروعه.. لكنه على الرغم من ذلك يقول لـ«القدس العربي» إنه مهما طال مكوثه هنا «فأنا عائدٌ، حتما، للمدرسةِ الواقعية».
كان لتراكُم خبرته ومعرفته الأكاديمية في الفنون التشكيلية، وما أمضاه في السنوات الأولى للحرب المستعرة في بلاده، متأملا ما آل إليه وطنه، دور في عودته للوحته محمولا بتحدٍ لتحقُقٍ مختلف؛ فجاءتْ أعماله الأخيرة كأنها إحراق لمراحل في علاقته بالتجريدية بالتعبيرية، خاصة على صعيد أفق الفكرة وتعبيرية النص البصري والأداء التقني. وهي الأعمالُ التي قدمت هذا الفنان أوسع رؤية مما كان.. وهي رؤيةٌ ستتضح أكثر في ما سيقدمه في المعرض الشخصي الرابع، الذي قال إنه سيبدأ الترتيب له قريبا، وهو المعرض الذي سيأتي بعد 12 سنة من تنظيم معرضه الثالث الذي أقامه في الإسكندرية عام 2007؛ وهو العام ذاته الذي نظم فيه معرضه الثاني في صنعاء، بينما كان قد نظم معرضه الأول في الجزائر عام 2004. ويُعد ياسر العَنسي، وهو محاضرٌ في الفنون الجميلة في جامعة إب (وسط اليمن)، من فناني جيل الشباب في المحترف اليمني، انطلاقا من رأيه في تجييله لتجربته، إذ يختزل محترف بلاده في جيلين: جيل رواد وآخر شباب.
بدأت تجربته التشكيلية في منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ وكانت بداية واقعية ككثير من فناني اليمن، ومرت تجربته في المدرسة الواقعية بمحطات، وكانت البداية من الواقعية الكلاسيكية، التي تعكسها الأعمال التي ارتبط فيها بالمنظر الواقعي، مشتغلا باهتمام على التفاصيل وتنعيم اللون كلوحته التي جسد فيها رجلا كهلا في زي تقليدي مع مظلة حمراء، فنلاحظ فيها تفاصيل كل شيء بشكل واضح معتمدا طبقة لونية ملساء ناعمة.
الواقعية
وتُمثل فترةُ التحاقه بأكاديمية الفنون في بغداد عام 1998، التي تخرجَ فيها عام 2002، مرحلة مهمة كان لها عميقُ الأثر في تجربته؛ فأسهمتْ في صقل رؤيته الفنية؛ فشهدت لوحتهُ الواقعية، خاصة عقِب تخرجه وعودته لليمن، تحولا نوعيا، وتحديدا على صعيد علاقته الرؤيوية باللوحة الواقعية وبالتقنية اللونية، فمن حينها اكتسب منظوره الواقعي بُعدا ثالثا إن جاز القول، وهي الأعمال التي تعكس ما كان يبذله من جهد في التقاط ودراسة المنظور وتنفيذه، سواء في أعمال البورترية، أو مناظر الريف أو مناظر الثقافة التقليدية؛ وهو ما يمكن قراءته بوضوح في لوحة الراقصين مثلا، وفي هذا يؤكد ياسر أن دراسته الأكاديمية أضافت له الكثير، معتبرا أن سنوات دراسته في العراق تكاد تكون أهم محطة في تجربته الفنية، حيث حدَدَتْ سِمات تجربته الواقعية، و«زِدتُ نضوجا في التعامل بطريقةٍ واعيةٍ أكثر مع العمل التشكيلي والمسطح التصويري»، يقول ياسر.
مما سبق؛ كانت واقعية العنسي قد أخَذتْ تنحو منحا تجاوز فيه الكلاسيكية، إلى الانطباعية والتعبيرية، وكان من أبرز ملامح هذه التجربة اشتغاله اللوني المختلف على الفرشاة، وظهور ضرباتها واضحة على مكونات المنظور، كما يؤكد «بدأتُ استعملُ ضربات الفرشاة بصورةٍ أكثر جرأة واتزانا ووعيا بماهيةِ العمل الفني».
بقي العَنسي، في هذه الأعمال الواقعية، يعتمد على خاماته نفسها، وهي الألوان الزيتية مع كنفاس أو توال، واستمرت رؤيته، التي صاحبتها، تتطور في علاقته الموضوعية والتقنية باللوحة «لم يكُن بُغية الهروب من الواقعية الكلاسيكية، وإنما رغبة في خوضِ مرحلة التجريب واكتشاف تجربتي في مناطق أخرى؛ وهو ما يتجلى ـ مثلا- في لوحة ضارب الطار (الدُف)، وغيرها من الأعمال الانطباعية والتعبيرية، حتى في البورترية، بدأتُ أتخلى عن تقنية مسح اللون وتنعيم ملمسه، واكتفيتُ بتركِ أثر الفُرشاة على العمل، بمعنى ترك اللون بملمسه الخشن وبصمته الخاصة».
في أعمال هذه المرحلة برزتْ واقعيته أكثر نُضجا وحِرصا على تحميل النص البصري رؤية تُمثل الفنان في علاقته بالواقع وبالفن في آن، وهو ما تعكسهُ اللغة اللونية.
التجريدية
عقِب مغادرة العَنسي بلاده لدراسة الماجستير والدكتوراه في مصر (2007-2013) شهِدتْ تجربتُه التشكيلية مرحلة جديدة تجاوز فيها الواقعية إلى التجريدية التعبيرية؛ وهي المرحلة التي مازال يشتغل عليها حتى اليوم، وقبل الخوض فيها يؤكد لنا ياسر أنه سيعود لأعماله الواقعية الانطباعية والتعبيرية مهما طالت سنوات اشتغاله على التجريد. مرتْ تجربتُه مع التجريد بمحطاتٍ أبرزها السنوات السبع التي أمضاها في مصر، والتي تأثر خلالها، بقراءاتٍ متنوعة في الفن والفلسفة، بالإضافة إلى تأثره بأعمال فنانين مصريين وأوروبيين.. فكُل تلك الرؤى، التي تشكلت عن ذلك، خلقتْ لديه رغبة في الدخول في حالةٍ من التجريد، وهي رغبة تعززت لديه، أيضا، تفاعلا مع ما كان يُطلقه بعض النُقاد ـ كما يقول- من انتقاداتٍ للأعمال الواقعية باعتبارها أعمالا ليست إبداعية، «وقد رأيتُ أن أثبِتَ أن هذا الكلام غير صحيح، وأن الواقعية تُمثِل الباب الذهبي لغيرها من المدارس، وفيها يكتسبُ الفنان مهارات الاحتراف الفني للانطلاق إلى غيرها؛ فكانت مجموعتي الأولى في (مرحلة الأبيض والأسود) التي ضمها المعرض الشخصي الثالث، الذي كان في متحف محمود سعيد في الإسكندرية عام 2007، وتجلت فيه مدينة صنعاء القديمة، وكان اسم المعرض «حوار مع المدينة».
كذلك تقنيا ـ كما سبقت الإشارة- كانت الرغبة لديه، أن يخوضَ حالة من التجريد مع نفسه ومع الأدوات والخامات والوسائط… ولهذا اعتمد في التجريد على ألوان الإكيريلك مع كنفاس؛ وذلك لما تُمثله هذه الألوان كألوان مائية تجف بسرعة، وبالتالي تُساعد الفنان على سرعة الأداء في تنفيذ الفكرة بعفوية، لأنه كلما حضر العقل تراجعت قيمة العمل الابداعي، فالعفوية ـ كما يقول- تمنح العمل الفني جمالا وصدقا أكثر وروحية أعلى، على حد تعبيره «منحتني ألوان الأكيريلك بساطة وعفوية في الأداء، وهذا لا يعني أنني لن أعود للألوان الزيتية، فأعمالي المقبلة ستكون بالألوان الزيتية».
الفترة 2007- 2010 يمكن اعتبارها بدايات تجربته مع التجريد، لكنها لم تكن تجريدية خالصة؛ إذ تبلورت تجريدية تعبيرية بشكل أكثر وضوحا ونضجا عقب 2010؛ وهي التجربة التي تواصلت اشتغالاته عليها حتى الآن، وبقيت مدينة صنعاء محورا في اشتغالات هذه المرحلة؛ والتي يسميها، كما سبقت الإشارة (مرحلة الأبيض والأسود)، كونه يعتمد فيها، بدرجة رئيسية، على اللونين الأبيض والأسود.
معان ورؤى
وتبدو نصوصه البصرية في هذه المرحلة، خاصة في أعماله الأخيرة، متميزة بقدرتها على استنطاق معانٍ ورؤى لم يسبقه إليها فنان آخر في اشتغاله على المكان والإنسان، وما أكثر الفنانين الذين اشتغلوا تشكيليا على المدينة القديمة في صنعاء، وهو ما يمكن استطلاعه في لوحة اسمها (على مشارف صنعاء القديمة) التي حشد فيها هيئات الأشخاص والبيوت في رمزية تعبيرية محملة بدلالات وإيحاءات لا حدود لها، ومثلها لوحة (وسط السوق)، وكما هي لوحة (القُبلة) مفعمة برمزية عالية وتجسد حالة تعبيرية جياشة! وهنا نقول إن هذه المجموعة بامتداداتها المرحلية بحاجة لدراسة خاصة تقفُ على خصوصيتها.
على الرغم من تميز تجربته مع التجريد التعبيري على مدى السنوات السابقة، إلا أن الفنان ياسر العَنسي يؤكد أنه مهما طالت فترة اشتغاله على اللوحة التجريدية التعبيرية فهو سيعود ويرسم واقعية «لأن شغفي بالواقعية لن ينتهي، وأنا متأكد أن المرحلة الراهنة ممكن تمتد لسنوات وربما خمس سنوات بالكثير، ومن ثم ستشهد بعينيك أنني رجعتُ للواقعية»، يقول.