دفعت الحاجة، وقلة مصادر الدخل آلاف العاطلين عن العمل في اليمن إلى شراء دراجات نارية ومن ثم استعمالها كمركبات أجرة لكسب دخلهم اليومي في العاصمة وغيرها من المدن الرئيسية، مما جعل العاصمة تحديداَ ‘كتلة من ضجيج’ مستمر تظل أصداؤه تتردد حتى ساعات متأخرة من الليل.
غير أن الأمر الأخطر يتمثل في أن هذه الدراجات أصبحت وسيلة لاقتناص أرواح العديد من الشخصيات العسكرية والحزبية والرسمية في عمليات اغتيال مرعبة خلال الشهور الأخيرة، نظراً لخفة هذه الدراجات، وسهولة هربها بالدخول في الشوارع الفرعية الصغيرة، حيث تصعب ملاحقتها أو الإمساك بمن عليها في الوقت المناسب.
أصبحت الدراجة النارية أو ‘دراجة الموت’ في اليمن اليوم مشابهة في دورها للسيارة الهايلوكس أو ‘سيارة الموت’ في التسعينيات من القرن الماضي، التي مثلت رعباً للقيادات الأمنية والحزبية والسياسية في اليمن بعد أن تم تنفيذ العديد من عمليات الاغتيال بواسطتها.
وبغض النظر عن تصاعد عمليات الاغتيال السياسي بواسطة ‘دراجات الموت’، فإنها على بشاعتها، لا تعدو كونها عرضاً للمرض الحقيقي المزمن الذي يعانيه اليمن خلال الفترة الراهنة، هذا المرض الذي يأخذ عدة تجليات سياسية وأمنية واقتصادية ودينية في آن واحد.
يبدو اليمن كله- إذن- في لحظة تأمل عميق محمولاً على ظهر دراجة نارية مسرعة لا تبدو لها وجهة محددة، وهي في مشوارها عرضة للكثير من المطبات السياسية والأمنية، والاغتيال، لا سمح الله. ومما يزيد الأمر سوءاً أن ركاب هذه الدراجة لا يريدون أن يسمعوا لبعضهم بعضا، بل يتكلمون جميعاً في لحظة واحدة، من دون أن يتناوبوا على الحديث والإصغاء، لكي يتسنى لهم فهم بعضهم بعضا بصورة أفضل.
في شمال الشمال -على سبيل المثال- وفي صعدة تحديداً يقول مهرج كبير إنه يقاتل الأمريكيين والإسرائيليين في مناطق جبلية لا يسكن بها غير اليمنيين، ولا يعرف الأمريكيون ولا الإسرائيليون إليها طريقاً، مهرج يريد إقامة دولة ‘الإمامة الإسلامية’، على طريقة الولي الفقيه في طهران، ويرى أنه الأولى بالحكم، وأن مشاكل الدراجة اليمنية لن تحل إلا عن طريقه هو، لأنه هو القائد الماهر، وهو المتصل بالنبي نسباً وديناً، وبالتالي فإن علاج الحالة اليمنية لن يستعصي عليه حتى لو كان ذلك العلاج الذي يقترحه أشبه ما يكون بوصفة شعبية قائمة على التمائم والحروز التي يدرسها لتلاميذ المدارس في محافظة صعدة عن نظريات الحق الإلهي في الإمامة والحكم، التي عفى عليها الزمن.
وقد بلغ به الأمر مؤخراً أن بدل النشيد الوطني للجمهورية اليمنية الذي يردده تلاميذ المدارس في طابور الصباح، وجعل مكانه ‘شعار الولاية’ الذي يردده اليوم الطلبة في بعض المدارس في محافظة صعدة والمديريات التي يسيطر عليها، وهذا الشعار هو قسم تعبوي طائفي يزعم أن الولاية لعبدالملك بدر الدين الحوثي، على أساس سلالي، باعتباره وريث الإمامة الشرعية بنصوص دينية تؤكد حقه الإلهي في ذلك، بناء على نص القسم الذي يقول: ‘اللهم إنا نتولاك، ونتولى رسولك ونتولى الامام علي ونتولى من امرتنا بتوليه سيدي ومولاي عبد الملك بدر الدين الحوثي. اللهم انا نعادي من يعاديك ونعادي من يعادي رسولك ونعادي من يعادي الامام علي ونعادي من امرتنا بتوليه سيددي ومولاي عبد الملك بدر الدين الحوثي” .. فهل بعد هذا من تهريج؟ وهل يمكن لمن يقتنع بهذا الطرح، أو يروج له أن يؤمن حقيقة بالحوار، والاستماع للآخر، والقبول بفكرة الدولة المدنية القائمة على أساس ديمقراطي، يتم وفقاً له ‘اختيار الحاكم من قبل الشعب’، في وقت يقوم فيه الفكر الثيوقراطي الذي يروج له ‘الإماميون الجدد’ على أساس ‘اختيار الحاكم من قبل الله’.
والمعضلة أنك عندما تحاول فتح النقاش مع مثل هؤلاء، يأتيك الرد حاسماً وسريعاً، بالاستشهاد بقوله تعالى ‘الله يخلق ما يشاء ويختار’، وقوله ‘وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم’، فالاختيار من الله ، وهو الذي قضى أن يجعل الحكم في سلالة بعينها حسب تنظير بدر الدين الحوثي، الأب الروحي للثيوقراطية الجديدة، الذي يقول ”والولاية لمن حكم الله بها له في كتابه وسنة نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – رضي الناس بذلك أم لم يرضوا، فالأمر لله وحده وليس للعباد أن يختاروا ولا دخل للشورى في الرضا، لأنه لا دخل للناس في أمر قد قضاه الله ورسوله’، وهذا هراء لا يوازيه إلا هراء النظريات الكنسية التي قالت بـ’الحق الإلهي للملك’ في أوروبا العصور الوسطى.
وإذا غادرنا المربع الأمني للحوثي وتركناه في برجه العاجي الذي يحلم فيه بعهد ديني وسياسي جديد في اليمن، سوف تطالعنا دراجات نارية تخرج من بطون الجبال، محملة بالأحزمة الناسفة، وتحمل الرايات السوداء، وتنطلق بشكل مريع في ‘الجهاد ضد الحلف الصليبي اليهودي’، على الرغم من أن معظم ضحايا جهادها هذا من المسلمين اليمنيين الذين قتلت منهم خلقاً كثيراً في جهادها المقدس ضد ‘الصليبيين واليهود’. ركاب هذه الدراجة يعيشون خارج العصر، ويظنون أن الإسلام محصور في النسخة الرديئة من الجهاد التي يحاولون تعميمها، ويعتقدون أن الالتزام بالإسلام يعني نسخ القرن الأول الهجري شكلياً، وإسقاطه بشكل حرفي وآلي على القرن الخامس عشر الهجري. ولسائق هذه الدراجة النارية ‘شعارالبيعة’، الذي لا يختلف عن ‘شعار الولاية’ الحوثي إلا في حقيقة أن ناصر الوحيشي زعيم القاعدة في جزيرة العرب، لم يزعم أن لديه نصاً دينياً يثبت حقه الإلهي في التسلط على رقاب الناس، كما يفعل زميله عبدالملك الحوثي، أما ما عدا ذلك فإن الطرفين ‘يقاتلون’ الأمريكيين في الاستراتيجيات، و’يقتلون’ اليمنيين في التكتيكات.
وإذا تركنا الوحيشي وطريقته الخاصة في قيادة الدراجة اليمنية، سنلقى عدداً من سائقي هذه الدراجة المكدودة يعزفون على وتر ‘القضية الجنوبية’، ومظالم الجنوبيين، وهؤلاء لا يزيدون عن كونهم مجموعة من الانتهازيين السياسيين الذين تسببوا بنكبات الجنوب، وعادوا يتباكون عليه، لأهداف لا علاقة لها بمعاناة الناس في الجنوب أو الشمال.
وهؤلاء الساسة في حقيقة الأمر لا يهمهم أن تحل قضية الجنوب لا بالوحدة ولا بالانفصال، وإنما يهمهم أن يبقى الوضع على ما هو عليه الآن، لأن ذلك هو الوضع المثالي الذي يجعلهم يعتصرون القضية الجنوبية قدر ما يشاؤون، ولأن تسوية الوضع في الجنوب لصالح الوحدة أو حتى قيام دولة مستقلة في الجنوب، يجعلهم يفقدون ‘القضية’ التي يبتزون الداخل والخارج بها، لعلمهم أن تسوية وضع الجنوب ولو بالانفصال لن يكون لصالحهم، لأن تاريخهم الدموي جعل مجرد ذكر اسمائهم يبعث على تذكر ماضي الدماء التي سفكوها، ناهيك عن أن حل القضية ضمن إطار اليمن الواحد سيجعلهم يتوارون عن مسرح الأحداث في اليمن الجديد. نحن إذن أمام دراجات نارية متعددة أو دراجة نارية واحدة تختلف طرق قيادتها باختلاف نظرة وفلسفة ومصلحة أصحابها. والإشكال أن الوقت يمضي، فلا هذه الدراجة وصلت إلى نهاية المشوار، ولا سائقها يستطيع التوقف قليلاً لمراجعة ‘خارطة الطريق’.
لست أدري لماذا أحس أنني بحاجة إلى قراء الحديث الشريف التالي كلما تأملت في خط سير هذه الدراجة النارية المجنونة : ‘أحكم السفينة فإن البحر عميق واستكثر الزاد فإن السفر طويل وخفف الظهر فإن العقبة كؤود وأخلص العمل فإن الناقد بصير’.
‘ كاتب يمني من اسرة ‘القدس العربي’
لا أفهم لماذا يورط الكاتب القضية الجنوبية في مقاله؟ فهو يتحدث عن الدراجات النارية الإرهابية وعن الحرب في صعدة وعن القاعدة، بينما القضية الجنوبية في مجملها موجودة في إطار مؤتمر الحوار الوطني! كما أن الكاتب يعطي لنفسه الحق في لجم تطلعات وإرادة الجنوبيين في التعبير عن إرادتهم سلميا وتقرير مصيرهم وفقا للأعراف الدولية، أم أن الخروج بمظاهرات ومسيرات سلمية يعتبر شكلا دمويا من وجهة نظر الكاتب؟ كما أن الجنوبيين لم يحملوا السلاح ولم يقتلوا أحدا رغم أنهم مضطَهَدين من الشماليين حتى يقارنهم بما يجري من سفك دماء اليمنيين في صعدة أو على يد القاعدة في شمال اليمن وجنوبه!
حفيقة مقال رائع وتشخيص واقعي يمتزج بالنظرة الحكيمة للوضع في اليمن ..وما الدراجتت النارية الاوسيلة من وسائل الموت الذي يوزع بالمجان في اليمن..وليت اليمنيين.يفيقون من هذه السكرة النارية .. ويلتفتوا بعين البصيرة ..فالاتحاد قوة ..وشكرا للكاتب المبدع..
تشخيص اكثر من ممتا ز لحال بلدنا الحبيب اليمن وما وصلنا اليه من وضع لايرضي الله ولا رسوله بسبب افعال نفر قليل من المجرمين الانتهازيين اللذين يحملون قلوبا كالصخور لاتعرف الرحمه فنسأل الله تعالى ان يحيط بهم وبمكرهم ويخلص هذا الشعب المغلوب على امره من جرائمهم انه على كل شئ قدير…وشكرا لك يا دكتور فكل سطر كتبته يدل على حبك لوطنك ومعدنك الثمين الاصيل وربنا يوفقك