مر بالأمس اليوم العالمي للمرأة، ونساء العرب، وإن حققن بعض الإنجازات المساواتية وانتزعن هنا وهناك شيئا من حرياتهن في الحياة الأسرية وأماكن الدراسة ومواقع العمل، على معاناتهن من هيمنة اللغة الذكورية على الحديث العام.
ليس من غير المألوف، عربيا، أن توظف إعلاميا المقولات البدائية عن «الرجل الذكر» «قوي الشكيمة» «صاحب اليد غير المرتعشة» في مديح الحكام واختياراتهم لوزرائهم ومعاونيهم، ومن ضمنهم بعض النساء. وليس بنادر أيضا أن تصب اللعنات على المعارضين وتشوه أدوارهم باستخدام مفردات بالية من شاكلة «المخنسين» وإيحاءات جنسية إن بالمجون أو بالمثلية لكي ينتقص في نظر العامة من «رجولتهم» بعد أن عرفت هذه الأخيرة بدائيا وقبليا. ومن ثم يحال المعارضون في اللغة الذكورية المهيمنة على الحديث العام إما إلى خانات منقوصي الرجولة من «لابسي الطرح» و«منزوعي الكرامة» أو يصنفون بالقرب من المواقع التي يميز بها ضد النساء ويفرض عليهن من خلالها الدور الوحيد المنتظر منهن في عالم الرجال الحقيقيين أقوياء الشكيمة ألا وهو الإذعان دون نقاش.
في مواقع التمييز الذكوري تلك، وفي خطوة تالية، ينتقص من كرامة وحقوق وحريات النساء عبر إخضاعهن لولاية الرجال الحقيقيين الذين لهم ولهم هم فقط منحهن شيئا من الحق والحرية حين يمتنعن عن منازعة سلطتهم ولهم حرمانهن من كل الحقوق والحريات إن تجاوزن بالمعارضة أو الرفض. ولذلك، تتورط الحكومات في بلاد العرب وبإيقاع شبه يومي في شيزوفرنيا تعيين بعض النساء القريبات من السلطة في مناصب تشريعية وتنفيذية وقضائية مؤثرة ودعم أدوارهن القيادية في القطاع الخاص وتمرير النصوص القانونية الضامنة لحرية النساء في التنقل والسفر والعمل والمجرمة للاعتداءات الجسدية والجنسية بينما تنزع حرية النساء المعارضات للسلطة سجنا وحبسا ومنعا من السفر وتتجاهل تعرض بعضهن لاعتداءات بشعة إن خارج أو وراء الأسوار.
والمريب في هذا الصدد أن اللغة الذكورية هذه بمكوناتها المادحة للحكام والحكومات والذامة لمعارضيهم من الرجال والنساء والفارضة للولاء كسبيل وحيد أمام النساء للحصول على شيء من الحق والحرية والمهددة بانتهاك حقوقهن وحرياتهن حال الامتناع عن الإذعان للسلطة تتمدد ويتواصل طغيانها على الحديث العام، بينما حكومات بلاد العرب من المحيط إلى الخليج تزعم العمل المستمر لتمكين النساء وصونهن في المجالين الخاص والعام وكشف «خواء» الانتقادات المحلية والدولية التي «تزعم» حدوث انتهاكات ممنهجة ضد النساء البالغات والقاصرات.
ليست الذكورية إلا مرضا عضالا يصيب المجتمعات التي تعاني من شرور السلطوية، ولا شفاء من المرض إلا بالانعتاق من الشر المسبب له
والمريب أكثر هو أن المقولات الذكورية التي تضع «الرجل قوي الشكيمة» دون غيره في مركز القوة والسلطة وصنع القرار وتروج للمفردات البالية والإيحاءات الجنسية التي تشوه المعارضين وتنتهك كرامتهم رجالا ونساء وتنشر خطاب كراهية مقيت ضد المرأة المستقلة صاحبة الرأي الحر وتفرض تصنيفات مريضة لا ترى للنساء من دور سوى الإذعان للسلطة تحاصرنا، بينما حكومات بلاد العرب تزعم دون استثناء اعتمادها توجها حداثيا يروم المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الحقوق والحريات وفرص الدراسة والعمل والترقي والمشاركة العامة ويروم أيضا المساواة الكاملة في الحياة الأسرية.
تزعم الحكومات توجهها الحداثي وتعين نساء الموالاة في مناصب مؤثرة وتمرر القوانين لتمكين المرأة من قيادة السيارات هنا ومن التنقل والسفر دون سلطان الذكور، بينما صحافيات معارضات يتعقبن وتشوه سمعتهن في المغرب ويزج بهن وبناشطات نسويات وراء الأسوار أو يمنعن من السفر في مصر والخليج وتتعرض العاملات الوافدات إلى ظلم وتمييز ممنهج في لبنان والخليج ويفرض الصمت على الأصوات الناقدة للحكام والحكومات في عموم بلادنا.
والمريب أكثر وأكثر هو أن عديد الأصوات النسائية الحاضرة في الحياة العامة وفي المساحات الإعلامية توظف ذات اللغة الذكورية تماهيا مع الحكام وإسهاما في مديحهم وذما في معارضيهم. وحين تكون مثل هذه الأصوات النسائية المتقمصة لهوية «الرجل الذكر» هي المعتمدة رسميا للدفاع عن حقوق وحريات المرأة، فإن فصول مأساة طغيان اللغة الذكورية تكتمل.
ويسترعي الانتباه أيضا أن بعض المفكرين والكتاب من مدعي التوجه الحداثي ومن المدافعين عن حقوق وحريات النساء ومن مؤيدي الحكومات القائمة باعتبارها عربيا البديل الوحيد للاستبداد الديني لا يستكنفون استخدام مقولات ومفردات وإيحاءات اللغة الذكورية لنزع المصداقية عن آراء من يعارضون سلطوية الحكومات ومن يختلفون معهم من رافضي مقايضة سلطوية باستبداد. في عالم ذلك النفر من المفكرين والكتاب، يصبح الاهتمام بحقوق الإنسان والحريات «دليلا» على «التخنيس» أي غياب هوية «الرجل الذكر» القادر على إعطاء الأولوية القصوى لصون الوطن وحماية الدولة وتحقيق الأمن والممتنع عن الالتفات إلى «صغائر الأمور» ـ وتلك تغدو على وجه العموم حقوقنا وحرياتنا كمواطنين وعلى وجه الخصوص حقوق وحريات المواطنات في بلاد العرب. في دنيا الذكوريين من المفكرين والكتاب ليس الحديث عن حقوق الإنسان سوى تعبير مباشر عن «ارتعاش اليد» الذي لا يليق لا بالرجال الحقيقيين ولا بالمذعنات من النساء.
في الجوهر، لا يختلف هنا تورط ذلك النفر من المفكرين والكتاب العرب في استخدام اللغة الذكورية لنزع المصداقية عن آراء الباحثين عن الديمقراطية من النساء والرجال عن تورطهم هم وغيرهم ممن سبقوهم زمنيا في التخلي عن المفاهيم العلمانية والليبرالية التي رفعوا شعاراتها طويلا وأسقطوها لتأييد السلطوية الحاكمة. في الجوهر، تحضر هنا أيضا أصوات نسائية تتقمص هوية المفكرين والكتاب الذكوريين من مدعي التوجه الحداثي وتعيد إنتاج مقولاتهم ومفرداتهم وإيحاءاتهم المنتهكة لكرامة المعارضات والمعارضين والقائمة على اغتيالهن واغتيالهم المعنوي، بالقطع دون تدبر جاد أو مستقل في كرامة المرأة التي تنتهك بالتبعية بفرض الموالاة والإذعان وفي دورها الذي يهمش مجددا تحت وطأة التهديد بالانتقاص من الحقوق والحريات أو سلبهم الكامل. في الجوهر، يتطابق تخلي الذكوريين والذكوريات عن قيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية مع تلاعبهم بالمساواة بين النساء والرجال وقبولهم للانتقاص من حقوق وحريات المرأة.
ليست الذكورية إلا مرضا عضالا يصيب المجتمعات التي تعاني من شرور السلطوية، ولا شفاء من المرض إلا بالانعتاق من الشر المسبب له. كل عام ونساء العرب والعالم في حال أفضل.
كاتب من مصر
لكن العنف الاسري والجنسي موجود بل شائع في دول الديمقراطية الليبرالية!