«اليوم العصيب» والمقاربات الجديدة لدى روسيا والغرب: من الرابح؟

رلى موفّق
حجم الخط
0

سيعمل الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين بعد يوم 24 حزيران/يونيو العصيب على إعادة ترتيب الوضع الداخلي في بلاده، الذي اهتزَّ على وقع تمرّد صديقه والرجل الموثوق منه يفغيني بريغوجين قائد مجموعة «فاغنر» وسيطرتها على مقرّ المنطقة العسكرية الجنوبية في مدينة روستوف، التي شكَّلت مقرّ العمليات الروسية في غزوها لأوكرانيا، والزحف نحو العاصمة موسكو في «مسيرة من أجل العدالة» حسب ما أسماها «طبَّاخ بوتين» بعد صراع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو وهيئة الأركان العامة خرج إلى العلن في الأشهر الماضية على خلفية معركة باخموت.
كان وزير الدفاع سيرغي شويغو قد أصدر أمراً بوجوب إبرام التشكيلات التطوعية التي تُقاتل مع القوات الروسية في أوكرانيا عقوداً مع وزارة الدفاع قبل الأول من تموز/يوليو الحالي. وفيما وقَّعت «مجموعة القوات الخاصة الشيشانية – قوات أحمد» عقداً مع الوزارة، رفض بريغوجين هذا الإجراء «معتبراً أنه يستهدفه شخصياً ويهدف إلى إضعافه بإحكام وزارة الدفاع السيطرة على قواته».
انفجر الصراع بين الكرملين ومجموعة فاغنر كشركة خاصة شبه عسكرية شكَّلت ذراعاً روسية للتمدّد في الخارج ضمن إستراتيجية استعادة الموقع الذي خسرته روسيا في النظام العالمي مع انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية. أضحت «فاغنر» تحمي أنظمة، وتقمع انتفاضات شعوب، وتُسيطر على الثروات الطبيعية في الدول الضعيفة، وتقود شبكات تهريب المخدرات والمعادن والنفط والذهب والأموال وغيرها من الموارد الطبيعية. تقوم بكل الأعمال القذرة لنظام بوتين، تُشكِّل جزءاً من المافيا الروسية وحركة المصالح، وقناة دعم للكرملين الذي يتعرَّض للعقوبات منذ البدء بحروبه على دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت عنوان الدفاع عن الأمن القومي الروسي.
ستتكشف في قابل الأسابيع والأشهر تفاصيل حكاية «التمرّد» وحاضنتها ضمن كبار القادة العسكريين، وستتكشف ماهية وساطة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو بين بوتين وبريغوجين الذي تراجع عن خطوته، فتنفّست روسيا الصعداء ومعها العالم أجمع.
لا أدلة على تورُّط الغرب في تمرّد قائد «فاغنر» ومجموعته. تنطبقُ على دول حلف «الناتو» مقولة «مئة مرة بوتين ولا مرة بريغوجين». الكلام الروسي عن شبة تورّط، ولا سيما الآتي من وزير الخارجية سيرغي لافروف ينطوي على رغبة في شحذ الروح الوطنية الروسية خلف بوتين رداً على مؤامرة الغرب لإضعاف «القيصر» وتفكيك الداخل الروسي.
مهما حاول رجال موسكو تجميل الوضع، فإن روسيا تواجه مأزقاً كبيراً وليس فقط رئيسها. يقول متابعون للوضع الروسي أن هناك مشكلةً حقيقيةً في الداخل، إذ إن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي تُسميه موسكو بـ»العملية الخاصة» لا يلقى في واقع الأمر حماسة واسعة من وحدات الجيش وفئات كبيرة من الروس، وما زاد من الامتعاض عدم سرعة الحسم التي كان أعلنها «سيّد الكرملين» والكلفة الباهظة على القوات الروسية وعلى مناطق «دونباس» والشرق الأوكراني حيث تتواجد غالبية روسية. وهذا ما يُفاقم من متاعب موسكو التي يرى كثير من المراقبين أنها غرقت في الوحول الأوكرانية في خطة مُحكمة استدرجها إليها «الناتو» الذي أعدَّ لهذه المعركة ويستثمر فيها.
ما يكشف عنه قريبون من دوائر روسية أن بوتين سيلجأ، حين تهدأ الحال قليلاً، إلى إجراء تعديل وزاري، سيشمل وزير الدفاع وتبديلات في مواقع قيادية. من غير المعروف كيف ستسير الأمور عندها. فكما يُنظر إلى «الصديق» بريغوجين على أنه «الصندوق الأسود» لبوتين ومستودع أسراره، فكذلك هو الأمر بالنسبة لشويغو. لم يُفلح «القيصر» في إبعاد كأس الصراع بين الأجنحة التي يخلقها تضارب المصالح والمافيات والصفقات والفساد وسطوة «الأوليغارشية» التي يُطلق عليها أيضاً تعبير «النخب الروسية».
في الاتفاق المُعلن أن زعيم «فاغنر» الذي أُسقطت عنه الملاحقات، سيلجأ إلى بيلاروسيا. ولكن ما يظهر من جوانب اتفاق بوتين – لوكاشينكو أن هناك تحضيراً لفتح جبهة جديدة. أعلن بوتين عن نقل أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروسيا لحمايتها وستُودع في مخازن تُحضَّر لهذه الغاية، وستنتهي هذه العملية مع نهاية هذا الشهر. وبالتوازي، جرى تمركز قوات «فاغنر» التي غادرت إلى بيلاروسيا، في قاعدة ليست بعيدة عن الحدود مع أوكرانيا. يُدرج المراقبون خطة بوتين في تحضير بيلاروسيا، كإحدى مناطق الاشتباك المحتملة في المدى المنظور، ضمن قاعدة «التصعيد من أجل التخفيض» وقد يكون في حاجة إلى تصعيد المواجهة مع الغرب من أجل إعادة لملمة وضعه الداخلي وفتح الطريق أمام سلوك طريق المفاوضات للوصول إلى اتفاق مع الغرب، لا يبدو قريباً، لكنه ربما بات ممكناً بقناعة قد تكون بدأت تتولّد لدى مختلف اللاعبين.

صدمة الغرب

هذا الاعتقاد مردّه إلى حاجة بوتين من جهة، وإلى بروز مخاوف فعلية لدى الغرب بعد «واقعة التمرّد». لم يحاول الغرب «صبَّ الزيت» على النار الروسية في لحظة التمرّد، بل على العكس عاش صدمة، كما انتابه القلق. أمريكا وأوروبا تريدان إضعاف «القيصر» وروسيا لا كسرهما. يحتاج تدجين موسكو إلى خلق فوضى مدروسة ومضبوطة وليس فوضى غير مضبوطة في دولة مترامية الأطراف تمتلك ترسانة من الأسلحة النووية. لا إشارات إلى أن الخطة الغربية ذاهبة إلى مشاريع تقسيم روسيا الاتحادية، بل تريد أن تخرج من أحلام تفكيك النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب تُشكِّل فيه الصين وروسيا وحلفائهما القطب الموازي للقيادة الأمريكية أو يتقدمها.
ما لفت متابعون لـ«عملية التمرّد» حالة القلق الشديد التي عمَّت الغرب، حتى إن هؤلاء يعتبرون أن أخصام بوتين ربما بدأوا يُعيدون حساباتهم حول مستقبل الحكم في روسيا وهوية «سيّد الكرملين» وكأن بريغوجين، بسيرته المتمادية في الانتهاكات والراديكالية والنزعة القومية والجنون، قد أظهر «محاسن بوتين» على قاعدة «الكحل أحسن من العمى» و«السيّئ أفضل من الأسوأ» ولا سيما أن رئيساً متطرّفاً قد يذهبُ من دون روادع إلى استخدام السلاح النووي، إذا رأى نفسه غير قادر على تحقيق الانتصارات.
لم يترك «القيصر» أي من الشخصيات المعارضة الليبرالية التي يمكن أن تنافسه وأن تكسب ثقة الشارع الروسي. الكل كان مصيره إما الاعتقال أو الاغتيال. مع إمكان بروز نزاعات أكثر راديكالية، يصبح بوتين بعد تطويعه أكثر ملاءمة وضمانة للغرب. في رأي محللين أن بوتين، رغم كل الصراع المُعلن، لم يخرج عن قواعد اللعبة، ولم ينزلق إلى حيث اللاعودة، ولم يُقفل خطوط الرجعة مع الغرب. هو يعمل على قاعدة جمع الأوراق للجلوس إلى الطاولة والتفاوض على الموقع والدور والنفوذ في تركيبة النظام العالمي الذي يتشكَّل على وقع الحروب الدائرة.
السؤال هو: هل صبَّت عملية التمرُّد في مصلحة بوتين الذي تنتظره انتخابات رئاسية في العام 2024؟ وهل ستُولد من رحم «اليوم العصيب» مقاربات مختلفة سواء لدى روسيا أو لدى «الناتو» حول الحرب في أوكرانيا التي على أساس نتائجها ستترتب التسويات الكبرى والصغرى؟ حتى الرابع والعشرين من حزيران/يونيو، بدا أن كلاً من الطرفين على موقفه. بوتين يُخطّط لمناطق اشتباك جديدة مع الأطلسي، وأوكرانيا تواصل هجومها المضاد، وأمريكا ستزوّدها بقنابل ذكية وبطائرات «إف 16»، والاتحاد الأوروبي سيمنحها مزيداً من الدَعْمَين المالي والعسكري. لكن الأكيد أن كل الأطراف تُعيد حساباتها وتُراقب المسرح العملياتي لـ«فاغنر» وما قد ينتج عن انفراط العقد بين الكرملين وذراعه العسكرية التي كان يحصد من ورائها المكاسب السياسية والاقتصادية والمالية قبل أن تخرج الميليشيا عن طوع مشغّلها وتنقلب عليه. الكل سيُراقب ما ستكون عليه النتائج في الدول التي مدَّت «فاغنر» يدها إليها لمصلحة روسيا سواء أكان في أفريقيا أم الشرق الأوسط أم أمريكا اللاتينية!.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية