اليونان وأزمة شرق المتوسط

صادق الطائي
حجم الخط
0

تصاعد التوتر في منطقة شرق المتوسط جعل العالم يحبس أنفاسه تحسبا لانطلاق شرارة من أحد أطراف النزاع قد تؤدي لاندلاع حرب إقليمية خطيرة. طرفا النزاع هذه المرة هما اليونان وتركيا، الدولتان اللتان يعج تاريخهما الحديث بجولات من الصراع والحروب والاحتلال وحتى التصفيات العرقية. وتشهد منطقة شرق المتوسط، على خلفية الصراع على ترسيم مناطق التنقيب على حقول الغاز، توترا يكاد يفجر حربا لا يعرف مداها، وقد ذكرت مجلة “تايم” الأمريكية في تغطيتها للازمة إن “صراع المصالح شرق البحر الأبيض المتوسط يتم في منطقة خطرة تعج بالعديد من القضايا، منها الطاقة، واللاجئون، ووضع قبرص، والحروب في ليبيا وسوريا، والصراعات الأخرى على السلطة بالمنطقة، مع تراجع واضح للنفوذ الأمريكي”.

وضمن مقاربة خطيرة لسياسة حافة الهاوية، شهدت منطقة النزاع في آب/اغسطس تقارب سفينتين حربيتين، إحداهما تركية والأخرى يونانية، بشكل كبير كاد أن يتسبب في إشعال فتيل الحرب. من جانبها سارعت باريس بعد هذا الحادث بارسال سفن حربية إلى المنطقة لمؤازرة أثينا. وبات المشهد مقلقا، ثلاثة أعضاء في حلف “الناتو” باتوا أقرب إلى الوقوف في مواجهة عسكرية ضد بعضهم، وضمن خطوات تصعيد الأزمة، أعلنت الحكومة اليونانية عن مناورات عسكرية استمرت ثلاثة أيام بالاشتراك مع فرنسا وإيطاليا وقبرص، كما أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي الأربعاء 26 آب/اغسطس نشر قوات في شرق المتوسط للمشاركة في تدريبات عسكرية مع إيطاليا واليونان وقبرص، مما أدى إلى رفع توتر الموقف من الجانب التركي، إذ أعلنت أنقرة أن سفينتين عسكريتين تركيتين أجرتا في نفس اليوم الأربعاء 26 آب/اغسطس تدريبات عسكرية مع مدمرة أمريكية في شرق المتوسط. ونشرت وزارة الدفاع التركية تغريدة في تويتر مرفقة بصور للسفينتين؛ الفرقاطة التركية تي سي جي بارباروس، والسفينة الحربية تي سي جي بورغازادا، وهما تجريان تدريبا عسكريا مع المدمرة الأمريكية يو إس إس وينستون إس تشرشل شرق المتوسط .

تداعي الأزمات اليونانية

التوترات بين اليونان وتركيا لها جذرها التاريخي الضارب بعمقه في التاريخ، ومن تجليات هذا التوتر ما شهدته علاقات البلدين منذ بداية أزمة الحرب السورية التي صاحبها طوفان من ملايين المهاجرين الهاربين من جحيم الحرب مروا عبر الأراضي التركية متوجهين إلى أوروبا عبر بوابة اليونان، ويرى عدد من المراقبين أن “تركيا تبتز أوروبا” عبر استخدام اللاجئين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وعلى اليونان بشكل خاص، ويرى بعض المختصين في ملف الهجرة واللجوء الأوروبي أن تركيا “تبتز” أوروبا وتهدف من خلال فتح الحدود إلى “جر أوروبا إلى مستنقع الحرب السورية”.

وقد أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى موقف اليونان السلبي من ظاهرة تدفق اللاجئين، واستخدام العنف المفرط تجاههم، إذ قالت إن قوات الأمن اليونانية ومُسلّحين مجهولين على الحدود البريّة بين اليونان وتركيا اعتقلوا طالبي لجوء ومهاجرين وعنفوهم، واعتدوا عليهم جنسيا، وسرقوهم، وجرّدوهم من ملابسهم، ثم أجبروهم على العودة إلى تركيا. وأشاد مسؤولون كبار في الاتحاد الأوروبي بإجراءات مراقبة الحدود اليونانية، وقدّموا لها الدعم عبر الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية “فرونتكس”.

كما أشار بعض المحللين إلى أزمة ذات طبيعة أو جذور دينية اشتعلت في تموز/يوليو الماضي عندما أعلنت الحكومة التركية عن تحويل متحف “آيا صوفيا” إلى جامع. أثينا انتقدت قرار أنقرة تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد واصفة الأمر بأنه علامة “ضعف” في وقتٍ قرعت كنائس اليونان أجراسها احتجاجا على هذه الخطوة المثيرة للجدل. وقال رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، في بيان رسمي؛ إن “ما يحدث في إسطنبول ليس استعراض قوة، بل دليل ضعف”. وأضاف إن “هذه الخطوة لن تخفف من إشعاع معلم تراثي عالمي” وتابع “بالنسبة إلينا نحن المسيحيين الأرثوذكس خصوصا، إن آيا صوفيا اليوم هي في قلوبنا أكثر من أيّ وقت مضى. إنها حيث تخفق قلوبنا”.

لكن تبقى جذوة الصراع في الأزمة القبرصية من أكثر ملفات التوتر في منطقة النزاع الحالية شرق المتوسط، فمنذ الغزو التركي عام 1974 لشمال جزيرة قبرص، وإعلان قيام جمهورية شمال قبرص التركية التي تعترف بها تركيا فقط، باءت جميع محاولات تطبيع العلاقة بين القبارصة الأتراك واليونانيين بالفشل على مدى قرابة الخمسة عقود، وجاءت أزمة التنقيب عن حقول الغاز في المنطقة لتجدد الصراع وتعيد إلى الأذهان أيام الحرب بين تركيا واليونان. وقد تفجر الصراع الحالي نتيجة إعلان أنقرة بدء الحفر قبالة قبرص، بحثًا عن ثروة ترى أنها من حق القبارصة الأتراك، فضلاً عن الدفاع عن مصالح تركيا الخالصة. وزاد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من حدة التوتر عندما أطلق تحذيرات صارمة بقوله إن القبارصة اليونانيين “لا يمكنهم اتخاذ أدنى خطوة في شرق البحر المتوسط، وإذا تجرأوا على ذلك، فسيتلقون الرد المناسب كما حصل في الماضي”. وكان جاويش أوغلو يلمِّح بتصريحه إلى تدخل تركيا العسكري في سبعينيات القرن الماضي.

المواقف الدولية

 

تبدو المواقف الدولية تجاه أزمة شرق المتوسط عاجزة عن لجم اندفاع التوتر، لكنها تحاول جاهدة عبر الطلب من أطراف الأزمة الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاهم وحل الخلافات الحدودية عبر اللجوء إلى منظومة القوانين الدولية، إذ قال المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك، عبر دائرة تلفزيونية مع الصحافيين بمقر الأمم المتحدة في نيويورك إن “الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يتابع بقلق بالغ تصاعد حدة التوتر في اليومين الماضيين بين تركيا واليونان، ومن المهم حل الخلافات بين البلدين سلميا”. وأضاف “ما نفهمه أن تركيا واليونان كانتا إلى وقت قريب منخرطتين في مشاورات ثنائية، ونحن نحث الطرفين على مواصلة ذلك الحوار”.

أما الاتحاد الأوروبي فقد اتخذ موقفا داعما للدولتين العضويين فيه، اليونان وقبرص، ضد التهديدات التركية، فقد جدد دعمه اليونان وقبرص وهدد تركيا بمزيد من العقوبات، لكنه أكد في المقابل على ضرورة إعطاء الدبلوماسية فرصة. وقد هدد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، تركيا بفرض عقوبات جديدة عليها، قد تشمل تدابير اقتصادية واسعة النطاق ما لم يتم تحقيق تقدم باتّجاه خفض التوتر مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط. وقال يوم الجمعة الماضي إن الاتحاد الأوروبي يرغب بمنح “الحوار فرصة جدية” لكنه ثبت دعمه للبلدين العضوين في الاتحاد الأوروبي اليونان وقبرص في الأزمة التي عززت المخاوف من إمكانية اندلاع مواجهة عسكرية في شرق البحر المتوسط.

وغداة نشر باريس طائرات حربية وسفينتين من سلاح البحرية في شرق المتوسط لإظهار دعمها لليونان في هذه الأزمة، اتهم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو فرنسا بالتصرف مثل “بلطجي”. وقال “يجب على فرنسا وقف اتخاذ تدابير تفاقم التوتر”. أما الموقف الألماني فقد اتسم بالعقلانية ومحاولة إيجاد مخرج سلمي للأزمة، إذ تحدثت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ضمن جهودها للوساطة بين طرفي النزاع مع الرئيس التركي اردوغان ورئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس، وقد وعد الرئيس اردوغان المستشارة الألمانية بأن عمليات التنقيب ستستمر لعدة أيام، وأن تركيا ستكون مستعدة بعد ذلك لإجراء محادثات من أجل “تهدئة الأوضاع”.

وتوقع المراقبون أن يكون لحلف شمال الأطلسي دور فاعل في نزع فتيل الأزمة على اعتبار ان التوتر الحاصل بين دول أعضاء في الحلف، لكن يبدو أن دور الحلف حتى الآن ضعيف أو غير مؤثر، فقد بحث الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في اتصال هاتفي مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ التطورات في شرقي المتوسط، وبناء على ذلك أعلن ستولتنبرغ أن “تركيا واليونان حليفين مهمين” وأشار إلى أن “الناتو” أهم منصة استشارية من أجل القضايا التي تمس الأمن المشترك. كما أشار عقب مباحثات أجراها مع قادة تركيا واليونان إلى اتفاق البلدين الحليفين على البدء في محادثات فنية في “الناتو” من أجل تأسيس آليات لتجنب الصراع العسكري والحد من مخاطر الحوادث شرقي المتوسط، كما صرح بالقول “سأبقى على تواصل وثيق مع كافة الدول الحليفة ذات الصلة من أجل إيجاد حل للتوتر، وذلك ضمن روح التضامن في حلف شمال الأطلسي”.

لكن اليونان من جانبها سرعان ما كذبت تصريحات ستولتنبرغ، عبر نفيها موافقتها على إجراء محادثات مع تركيا، تحت مظلة حلف “الناتو” بغية تهدئة التوترات بين الطرفين​، ​وقالت وزارة الخارجية اليونانية يوم 3 أيلول/سبتمبر إن “المعلومات المنشورة التي تزعم أن اليونان وتركيا اتفقتا على إجراء ما يسمى بـ (محادثات فنية) لتهدئة التوترات في شرق المتوسط ​​لا تتفق مع الواقع” وشددت الوزارة على أن “وقف التصعيد لن يحدث إلا بالانسحاب الفوري لجميع السفن التركية من الجرف القاري اليوناني”.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية