«امبراطورية الكورونا»: إسرائيل… والقائمة المشتركة

حجم الخط
2

لن يقتصر كلام هذا المقال على «امبراطورية الكورونا»، رغم أن موضوعها جدير بمقالات كثيرة وكتب ومجلدات. ذلك أنه لا مجال لتجاهل التطورات على صعيد الأحزاب في إسرائيل، وتحالفاتها الجديدة، وتفسّخ الكتل الانتخابية فيها، وما حملته الايام القليلة الماضية من مفاجآت، وما قد تحمله الايام القليلة المقبلة من مفاجآت، تستدعي هي الاخرى وقفة، ولو سريعة، لدراستها وللتعمق في محاولة استقراء نتائجها الفورية والمستقبلية، مع كل ما قد يكون لانعكاساتها من تأثير مباشر وفوري على القضية الفلسطينية بكامل ابعادها، في الداخل كما في الخارج. على ان الاهتمام بهذين البابين، لا يلغي الضرورة الحتمية للاهتمام بالباب الثالث: صورة العمل الحزبي السياسي للفلسطينيين العرب في إسرائيل، وقد أصبحوا هم رأس الحربة في النضال الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي والحركة الصهيونية.
نبدأ بـ»امبراطورية الكورونا»، متذكرين بيت شعر للمتنبي قبل اكثر من الف عام: «أمِط عنك تشبيهي بما.. وكأنه «فما أحدٌ فوقي ولا أحد مثلي». وهذه الكورونا كذلك تماما، فليس هناك حديث للناس، كل الناس، من رجال السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والاعلام، من كتاب ومفكرين وفلاسفة، يسبق الحديث عنها، وتأثيراتها على كل ما له علاقة بالحياة على كوكب الارض، على كل صعيد دون أي استثناء، مفجّرةً فوضى سياسية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة، في شموليتها وعمقها، افقيا وعاموديا، طالت جميع الدول والأمم والشعوب، ووصلت حتى النواة الاصغر في المجتمع البشري: نواة العائلة الضيقة.
يقف العالم، على الصعيد السياسي، على عتبة نظام عالمي جديد، يبدو فيه من شبه المؤكد، ان الولايات/الدول المتحدة الامريكية هي الخاسر الاكبر، وبكلمات مدير المعهد الايطالي للشؤون الدولية: «سيتغير وللأبد مفهوم من سيقود في العالم، ولن تكون امريكا».
عندما كانت البشرية في صباها المبكر، شكل البابليون والسومريون والفراعنة والفرس، وبعدهم اليونانيون القدامى والرومانيون، كل في حقبته وزمانه، انظمة عالمية، (بمقاييس ما كان العالم عليه في تلك الازمنة). تلت ذلك حقبة الحضارات والثقافات المرتبطة بالأديان السماوية، وكان الإسلام العربي هو البادئ في وضع وفرض نظام عالمي استمر لقرون عديدة، ورثته الكاثوليكية التي غزت المشرق العربي (وقلبه فلسطين)، في ما عرف بالحروب الصليبية التي اندحرت بعد قرنين من بدئها وهيمنتها، ولكنها احتفظت بدورها في تشكيل نظام عالمي جديد، منفردة في البداية، ثم متعاونة ومتحالفة مع الارثوذكسية لاحقا، الى ان بالغ هذا النظام العالمي في الظلم والتعصب والتخلف ومحاربة العلوم والتقدم، ولكن مرحلة اندحاره عن رأس قمة هرم العالم لم تبدأ، عمليا، (ويا للعجب) الا مع تحقيق انتصارين كبيرين، بالمعنى التاريخي: حيث كان الاول هو الانتصار في اخراج العرب والإسلام (واليهود) من شبه جزيرة ايبيريا (الأندلس) سنة 1492، وكان الثاني هو قطع بحّارته (بقيادة كريستوفر كولومبس) للمحيط الاطلسي، واكتشاف «العالم الجديد»، قارتي امريكا الشمالية والجنوبية، في تزامن عجيب وملفت للنظر ومطلق للخيال، سنة 1492 ايضا.
بعد اقل من عقدين فقط على احراز النظام العالمي الكاثوليكي الأرثوذوكسي الأوروبي الآسيوي، (اذا اخذنا في الاعتبار ان القسطنطينية، عاصمة الأرثوذوكسية الى جانب موسكو الروسية، تقع، جغرافيا، في اقصى غرب آسيا الملاصقة حد الالتحام مع شرق اوروبا)، لانتصاريه الكبيرين المذكورين سنة 1492، انبثقت اللوثرية اولاً، ولحقتها الكالفينية والانجليكانية، وبدأت مرحلة الخروج من ظلام القرون الوسطى، وبدأ تكوّن نظام عالمي جديد ومغاير، تقوده بالاساس قوى قومية اوروبية ناشئة، تعتمد «القومية»، بمعناها الحديث، مع طيف ديني طائفي، منطلقا لاستعمار واستغلال قوميات وشعوب اخرى، فاصبحت الكونغو مثلا كاثوليكية بسبب استعمار بلجيكا الكاثوليكية لها، وصارت كينيا بروتستانتينية انجليكانية بسبب استعمار بريطانيا لها، (ومن ابلغ ما قيل في ذلك، قول زعيم ثورة كينيا ورئيسها الاول، جومو كنياتا: «لقد اعطونا السماء (!) واخذوا الارض»). وغني عن القول ان كل امريكا اللاتينية هي لاتينية كاثوليكية بسبب خضوعها للاستعمارين الاسباني والبرتغالي.

لا بد من عمل مسؤول وجاد لتشكيل تحالف حزبي يهودي عربي في إسرائيل، يخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، لتحويل «الوجود السياسي» للفلسطينيين العرب في إسرائيل

على ان كل هذه الحقبة، من انتهاء القرون الوسطى حتى نشوب الحرب العالمية الاولى في العقد الثاني من القرن الماضي، كانت خاضعة لنظام عالمي عماده الكاثوليكية والبروتستانتينية اساساً، ومع انطلاق الثورة الشيوعية البلشفية في روسيا توسعت الدائرة لتشمل الأورثوذكسية، خاصة لفترة ما بين الحربين العالميتين، ولتنتهي هذه المرحلة، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، الى هيمنة جديدة محورها الانجليكانية (بكل متفرعاتها) والارثوذوكسية الروسية المبطنة، ثم هيمنة امريكية انجليكانية منفردة لفترة لا تزيد عن فاصلة في التاريخ البشري، انتهت مع نهضة روسية ارثوذوكسية يقودها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
تقف البشرية كلها هذه الايام عند عتبة لمرحلة جديدة غير مسبوقة في التاريخ المعروف: بدء انهيار واضح لنظام عالمي وضعته وفرضته وتقوده الانجليكانية البروتستانتينية، مع انزياح للأكثر تخلفا وتعصبا وظلامية في هذا التيار، تمثّله طائفة الإفنغليست، وابرز زعمائها السياسيين نائب الرئيس الامريكي، مايك بينس، ووزير الخارجية الامريكي، مايك بومبيو، تتزامن مع بدء ارتقاء للصين بقيادة حزبها الشيوعي وزعيمه شي جي بينغ.
لم يسبق لأي شعب او امة او دولة خارج «الاديان السماوية»، ان تولت مسؤولية وضع ورسم وفرض نظام عالمي، لا في شرق آسيا صاحبة الديانات الفلسفية المسالمة، ولافي قارة افريقيا صاحبة الديانات الأرواحية. هذه تجربة جديدة على البشرية، فجرتها، وتفجرها هذه الايام «امبراطورية الكورونا».
علمتنا تجارب التاريخ ان هناك تناسبا اضطراديا بين مراحل الاعداد والانطلاق والهيمنة والاندحار لكل نظام عالمي واقليمي وقومي ووطني. اندفعت علينا امبرطورية الكورونا بسرعة لا مثيل لها، وهي بالتأكيد ستندحر بالسرعة ذاتها، لكن بعد ان تترك أثراً لا يزول.
لا سنة، في اعتقادي، تشبه سنة 2020، في التاريخ البشري المعروف، اكثر من سنة 1492.
نشهد هذه الايام بدء انقشاع غيمة هيمنة امريكية، غير مأسوف عليها. ولعل اكثر المتضررين من ذلك إسرائيل، التي جعلت من فلسطين «مغارة لصوص».
ها هي تتخبط: ثلاث «معارك» انتخابات برلمانية عامة في اقل من عام واحد. تنتهي الى اللاحسم. وتبدأ مع انتهاء الاخيرة فيها مرحلة انهيارات وتشققات وانقسامات غير مسبوقة بين الاقوى والاكبر بين كتلها الانتخابية واحزابها السياسية. لم تعد كاحول لفان سفينة.. تشققت وغاصت في ماء البحر، مخلّفة قوارب نجاة تتراكض وتتقافز فيها فئران وجرذان بين هذا القارب وذاك، طلبا للنجاة، وفي محاولة للالتحاق بسفينة حكومة قبطانها متهم بالفساد، ومطلوب للمحاكمة بتهم عديدة. (ملاحظة لا بد منها: كل تهم فساد نتنياهو لا تعادل اكثر من نسبة مئوية ضئيلة للغاية، من فساد جميع، اكرر: «جميع» الحكام العرب: ملوكا وامراءً وشيوخاً ورؤساء حكومات وموظفين حتى الدرجة الثالثة).
آخر اللاهثين لبلوغ سفينة الفساد بقيادة نتنياهو هو عمير بيرتس، زعيم حزب العمل، حزب ماباي سابقا، والـ«معراخ» بعد ذلك، واسماء اخرى ما انزل الله بها من سلطان، والذي حاز حزبه على ثلاثة مقاعد من اصل 120 مقعدا في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي). والحبل على الجرار.
اردت ان يعالج هذا المقال ثلاث قضايا وموضوعات، آخرها موضوع القائمة المشتركة برئاسة الصديق الواعد ايمن عودة.
لم يبق من متسع لكلام كثير يجب ان يقال. اختصر ذلك، بل اختزله للقول: كل ما اقدمت عليه القائمة المشتركة من خطوات كان صحيحا وموفقا ومطلوبا.
الآن، مرحلة جديدة قد بدأت: لا بد من عمل مسؤول وجاد لتشكيل تحالف حزبي يهودي عربي في إسرائيل، يخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، لتحويل «الوجود السياسي» للفلسطينيين العرب في إسرائيل، هذا الوجود الذي تحقق بفضل تشكيل القائمة المشتركة، الى وجود سياسي فاعل، يجعل تجاوزه في تشكيل أي حكومة إسرائيلية مستقبلا امراً مستحيلاً، مع ما لذلك من انعكاسات على قضايا السلام والحق والعدل والمساواة ونبذ العنصرية.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بشارات:

    هم بالفعل رأس الحربة.

  2. يقول Rafeek Kamel:

    كل التقدير للكاتب عماد شقور ..وأؤكد لك بأن التغيير فى النظام السياسي والاجتماعى فى كلتاهما (امريكا واسرائيل) قد بداء للتو وبعد اجتثاث تلك الجاءحة والتى على ما يبدو سيطول امدها سنرى بام اعيننا بان التغييرات التى جرت اكبر مما تصورناه

إشترك في قائمتنا البريدية